الجمعة 17 مايو 2024

زكريا محيي الدين رفض تحمل مسئولية أخطاء صنعها عبد الناصر!

مقالات27-10-2021 | 13:45

"مقال لطيف جدًا كصاحبه..!.. هكذا جاء تعليق الدكتور محمود محيي الدين من مكتبه بصندوق النقد الدولي بواشنطن على مقالي السابق: "بتشوف أستاذك يوسف بطرس.. يا د. محمود ".

السبت الماضى اتصل بي صديقي القديم جدًا مصباح قطب نائب رئيس تحرير جريدة المصري اليوم ونقل لي تعليق الدكتور محمود على المقال المكون من الأربع كلمات التي جاءت في أول سطر في هذا المقال.. لكن مصباح فجأة قال: "هو أنت ليه ما جبتش سيرة كبير وعميد عائلة محيي الدين السيد زكريا محيي الدين نائب الرئيس جمال عبد الناصر الذي ترأس مصر لمدة 48 ساعة هي المدة ما بين قرار الرئيس عبد الناصر بالتنحي يوم 8 يونيه 1967 وقراره في اليوم التالي بالعودة عن قرار التنحي"!
 
في هذا الإتصال قلت لصديق عمري: طبعًا الدكتور محمود هو صاحب هذه الملاحظة.. على أي حال من حق السيد زكريا محيي الدين أن نذكر اسمه ونعدد إنجازاته ومواقفه الوطنية العديدة سيما أنه رغم حبه ووفائه الشديد للرئيس جمال امتلك شجاعة أن يختلف في الرأي معه حين كان مثل هذا الاختلاف "يودي في داهية"!

اسمع يا سوليمان (هكذا تعودت أن ينطق مصباح اسمي منذ أن بدأت صداقتنا عام (1981).. سأرسل لك على الواتساب حوارًا عن السيد زكريا محيي الدين أجريته منذ 8 سنوات مع نجله محمد ومدير مكتبه سمير مصلح الذي ظل معه منذ عام 1963 وحتى لحظة استقالته عام 1968.. فسوف تجد فيه معلومات قيمة عن هذا الرجل الغامض الكتوم المنضبط الحازم القاسي الرهيب الذي مات دون أن يتكلم كما فعل ابن عمه خالد محيي الدين حين كتب مذكراته عام 1992 التي حملت عنوان "الآن أتكلم".

وحسب حوار المكاشفة الذي تم بمنزل سيد الصمت والغموض زكريا محيي الدين كشف الابن ومدير مكتبه أسرارًا ومعلومات خطيرة جديدة عن الرجل الغامض الذي نسيت سهوًا أن أذكره في مقالي السابق رغم أن كل أفراد عائلة محيي الدين بكفر شكر قليوبية كانوا ينظرون إليه دائمًا باعتباره عميد العائلة وكبيرها..

لقد كان الرجل مختلفًا عن باقي زملائه أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952.

السيد زكريا محيي الدين كان ضد أي شعبية وقتية ينالها الرئيس عبد الناصر.. ولذا كان يطالب بتقليل الدعم.. وتعديل أسعار السلع والمنتجات.. وعدم منح أرباح لعمال أي شركة تحقق خسائر.

 كان مختلفًا كلية عن كل أعضاء مجلس قيادة الثورة حيث كان يطالب بإصرار بتطهير الجيش من أمثال شمس بدران وعلى شفيق وكل شلة مكتب المشير عامر.
 
ولأنه كان الرجل الذي أسس أجهزة الأمن بعد قيام ثورة 23 يوليو وتولي وزارة الداخلية مرتين فقد أدرك جيدًا خطورة انغماس أجهزة الأمن في عملية اختيار القيادات.. لم يخجل من أنه الذي أسس تلك الأجهزة بل راح بشجاعة نادرة ينتقد بشدة دورها واعترف أنه المسئول كلية عن كل ذلك!

في مشوار حياة السيد زكريا محيي الدين إنجازات ضخمة.. فهو الذي أسس جهاز المخابرات العامة.. والجهاز المركزي للمحاسبات.. ووضع خطة لإصلاح الجهاز الحكومي وشركات القطاع العام.. وقاد عملية التخطيط لبناء السد العالي حيث كلفه الرئيس عبد الناصر برئاسة اللجنة العليا لتنفيذ مشروع السد العالي ولكنهم للأسف نسوا تكريمه عند افتتاح السد!
 كان الرجل مكروهًا من معظم من كانوا حول الرئيس عبد الناصر.. لماذا؟!.. لأنه لا يحب ولا يجيد مثلهم ألعاب السياسة وملاعيب أهل السياسة.. رجل دوغري.. يقول للأعور في وشه أنت أعور.. وكانت صراحته التامة في إعلان رأيه سببًا رئيسيًا في عدم وجود أي ود بينه وبين كل من علي صبري وشمس بدران!

ولأنه كان رجل دوغري وصارم ظل طوال الفترة من قيام الثورة وحتى اعتزال العمل السياسي عام 1968 لا يتهاون كوزير للداخلية أو كرئيس وزراء مع الفساد وكلنا يتذكر كيف وقف بشدة ضد عمليات تهريب بضائع من اليمن أو من غزة تورط فيها ناس كبار على حد تعبير مدير مكتبه سمير مصلح.. منهم غريمه السيد علي صبري وآخرين!

وكان من عادته أن يستيقظ ويبدأ بعد صلاة الفجر ممارسة مهام عمله في فيلته الواقعة بتقاطع شارعي الثورة والبطل أحمد عبد العزيز بمدينة المهندسين.

في السادسة والنصف صباحًا كان سمير مصلح يستقبل حقيبة البوستة وعليها تأشيرة السيد زكريا محيي الدين.

عندما وافق كرئيس لمجلس الوزراء عام 1966 على مقترح الدكتور عبد المنعم القيسوني وزير المالية بزيادة سعر كيلو الأرز من 4 قروش إلى 8 قروش هاجت الدنيا وماجت وأشعلت قيادات الاتحاد الاشتراكي بتعليمات سرية من رجال علي صبري الأمين العام للاتحاد الاشتراكي مواقف الجماهير التي خرجت في مظاهرات إلى الشوارع ترفض أي زيادة في أسعار السلع.

نعم كان قاسيًا أن ترتفع الأسعار.. وكانت الموافقة على ذلك تعني تآكل شعبية النظام وعبد الناصر.. ولكن السيد زكريا لم يكن يعر هذه الشعبية أي اهتمام.. كان يراها شعبية زائفة لا تفيد الوطن ولا تفيد أيضًا الرئيس عبد الناصر!

وعندما هاجت الدنيا وماجت ضد قرار رفع أسعار الأرز والسلع الأخرى وخرج الناس يعلنون رفضهم بفضل التحركات والمظاهرات الرافضة للقرار التي أمرت بها قيادات الاتحاد الاشتراكي واللجنة التنفيذية العليا أمر الرئيس عبد الناصر بعدم رفع الأسعار.. وجرى تشكيل وزارة جديدة رغم أنه لم يكن قد مر سوى 11 شهرًا على تولي زكريا محيي الدين رئاسة مجلس الوزراء!

بعد هزيمة 5 يونيو 1967 سمع السيد زكريا خطاب التنحي بينما كان جالسًا في مكتبه بشارع الميرغني بمصر الجديدة كقائد للمقاومة الشعبية.. الحقيقة قالها مدير مكتبه: السيد زكريا لم يستشيره الرئيس عبد الناصر.. وقد سمع خطاب التنحي مثل غيره في التليفزيون.

وفورًا.. سجل خطابًا أعلن فيه رفض تولي الرئاسة بعد أن أعلن الرئيس عبد الناصر تنحيه وتنازله له كنائب لرئيس الجمهورية.. لكن لم يذع هذا الخطاب لأسباب ما زالت مجهولة لا يعلمها أحد حتى الآن!

وفي العام التالي للهزيمة -1968- قدم السيد زكريا استقالته من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية وكتب خطابًا طويلًا مكون من 17 صفحة تضمن أسباب استقالته.. سلمه سمير مصلح مدير مكتبه للإعلامي أحمد سعيد مدير إذاعة صوت العرب.. لكن لم يذع هذا الخطاب.. وطبعًا وصل الخطاب ليد الرئيس ووصلته أيضًا رسالة نائبه زكريا!

استقال السيد زكريا بعد أن شعر بأنه لا توجد أي استجابة من جانب الرئيس عبد الناصر لإصلاح الأخطاء السياسية والاقتصادية ولا الخلل الذي كان موجودًا سواء في الجيش أو الاتحاد الاشتراكي.

باختصار.. عندما تأكد الرجل بأنه مفيش أمل.. انسحب من المسرح السياسي.. وقدم استقالته.

اعتزل الرجل الذي لقبه خصومه بـ بيريا الرهيب وزير داخلية ستالين.. وكانت استقالته مسببة ولكن أحد لم يذعها أو يقوم بنشرها حتى الآن.. ولم يعرف أحد أين اختفت هذه الاستقالة المسببة التي اختفت بقدرة قادر الكل طبعًا يعلم علم اليقينً من هو!

لم يستجب الرئيس عبد الناصر لمطالب عرضها عليه فقرر نائبه زكريا الاستقالة من منصبه واعتزال العمل العام.

ولأنه منضبط وكتوم لم يلجأ السيد زكريا لتسريب خطاب الاستقالة المكون من 17 صفحة فولسكاب إلى بيروت كما فعل المشير عبد الحكيم عامر عندما سرب إلى بيروت بعد الهزيمة خطاب قديم أرسله للرئيس عبد الناصر إبان أزمة الرئيس والمشير في عام 1962 الشهيرة بأزمة مجلس الرئاسة!

لقد مات السيد زكريا محيي الدين (94 عامًا) في 15 مايو 2012.. ولم يكتب مذكراته.. واختفت كل أوراقه الخاصة.. وحتى حيثيات خطاب استقالته عام 1968 اختفت ولا أحد لديه نسخة منه للتاريخ.

أتذكر أنني عندما كنت مندوبًا لمجلة المصور في وزارة الزراعة عام 1982 طلبت من صديقي القديم الدكتور عبد العزيز محيي الدين وكيل أول وزارة الزراعة أن يتوسط لي لإجراء حوار مع السيد زكريا.. وبالفعل طلبه تليفونيًا وقدمني إليه: صحفي لحوح وباحبه فاكرني أقدر أقنعك تتكلم يا سيادة النائب.. هو عاوز يسلم على سيادتك.. ممكن؟.. أهلًا يا فندم أهلًا معالي النائب.. وبعد حديث لدقيقة واحدة مش اتنين قال لي: "أوعدك لو ها أتكلم ها أتكلم معاك أنت"..!

وطبعا منيت نفسي بحوار خطير وساخن بطبيعة الحال.. ورحت أجهز عشرات الأسئلة.. ولكن الرجل لم يتكلم.. لا معي ولا مع غيرى..!

إلا واحد فقط نجح في إجراء حوار معه بعد أن توسط له الدكتور يونان لبيب رزق.. كاتبنا الكبير فاروق جويدة الذي قال له السيد زكريا: "لقد أردت بعدم قبول منصب الرئاسة بعد تنحي عبد الناصر ألا أتحمل مسئولية أخطاء لم أصنعها.. ولم أقل هذه العبارة وقتها في بيان الإذاعة الذي لم يتم إذاعته وقتها".. وأنا كاتب هذا المقال أضيف: بل وحتى الآن!!