لا أعرف حقيقة سببًا لشدة النفور الذي يحدث مرارًا وتكرارًا تجاه اللغة العربية، إذ أنه ليس من المنطقي أن نطالب أن يتعلَّم أولادنا في المدارس لغتهم العربية وهي لغتهم الأم، التي من المفترض أنهم يتعلمونها، بل ويعتزون بها. وللأسف هذا لا يحدث مطلقًا..
فبمرور الأيام، يزداد نفور أبنائنا من لغتهم الأم، وتنمحي تدريجيًا علاقتهم بقواعد اللغة العربية على اعتبار أن هذه القواعد صعبة الفهم والتطبيق ولا داع لها.
فما الفائدة إن كان الفاعل مرفوعًاً، والمفعول به منصوبًا؟ ولماذا نكتب أو نقرأ باللغة العربية طالما أن الإنجليزية هي اللغة العالمية، وأن الكتابة – وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي – أصبحت بالفرانكوأراب، أي الحروف الإنجليزية التي تعبر عن معانٍ عربية، هذا الفرانكوآراب الذي يستخدم استخدامًا كاسحًا في كافة وسائل التواصل وخاصة بين الأطفال والشباب الصغير.
ومع شديد الأسف، انقطعت صلة الأطفال والشباب بلغتهم الأم، وأصبح معظمهم يستخدمون ألفاظًا غريبة تخلو في أحيان كثيرة من اللياقة والأدب، وهذه الألفاظ أصبحت عادية جدًا، وتستخدم مرارًا، فألفوها.. ولا يجدون أي حرج في استخدامها..
فكيف نقبل أن يكون أطفالنا وشبابنا الصغير بهذا المستوى؟
فالطفل الصغير هو النبتة الصغيرة الغضّة التي تستحق منا كل اهتمام ورعاية...
الطفل الصغير ناصع مثل ورقة النشّاف البيضاء التي تمتص كل ما يحيط بها، سواء أكان ذلك جميلًا أو قبيحًا.
الطفل الصغير هو المَعين أو الإناء الذي نملأه بالطيب أو بالخبيث، وكما يقول المثل إن كل إناء بما فيه ينضح، فلو ملأناه خيرًا نضح خيرًا، ولو ملأناه بما هو سيئ، فستكون العواقب وخيمة عليه وعلى من ملأه..
وعلى صعيد آخر، فإن النماذج الإيجابية كثيرة، فهناك أطفال مصريون حققوا إنجازات أدبية وعلمية وفنية ورياضية غير مسبوقة بفضل تشجيع الأسرة المستمر، وتشجيع الجهات المعنية، فحقق هؤلاء الأطفال نتائج مبهرة..
فعلى سبيل المثال، لدينا الطفل "أحمد تامر" الذي حفظ القرآن الكريم كاملًا، واستضافه مؤخرًا المذيع شريف عامر في برنامجه يحدث في مصر..
ولاقى الطفل تشجيعًا إيجابيًا من الرئيس عبدالفتاح السيسي شخصيًا الذي أكد قائلًا في مداخلته:
"أطالب كل أسرة بالانتباه إلى ملكات أبنائهم وتنميتها"..
فهذا الطفل سيشُب حافظًا لكتاب الله، متمكنًا من لغته العربية محافظًا عليها..
إذن، ماذا حدث في مجتمعنا لنجد الأب والأم يصران على أن يتحدث طفلهما بلغة أجنبية كارهين لغته الأم؟ أو معتبرينها شيئًا ثانويًا لا أهمية له؟
فإذا كان المراد التشبّه بالدول الأوروبية، فأزعم أن الفرنسيين مثلًا يكسّون بلغتهم الأم، ويدافعون عنها، ويصرون على القراءة والتحدث بها، لمواجهة زحف اللغة الإنجليزية، واللكنة الأمريكية تحديدًا.
كثير منا تعلّم اللغات الأجنبية وأتقنها، ولكن هل كان ذلك سببًا في إهمال لغتنا الأم؟
لم يحدث أبدًا!
أتحدث عن أجيال متعاقبة، عندما كان التعليم يسير بخطوات مَّتسقة منذ عقود سابقة، بدءًا من القواعد التي أرساها علي باشا مبارك أبو التعليم في مصر وحتى الثمانينيات من القرن الماضي.
كان الطفل المصري يتعلّم لغته العربية منذ بداية المرحلة الابتدائية، وحتى نهاية المرحلة الثانوية، على يد أساتذة كبار في تدريس اللغة العربية، أساتذة يملكون أدواتهم، وينطقون الحروف بشكل سليم، ويقرأون أبيات الشعر بسلاسة، ويفسرون المعاني بطريقة جذابة بدءًا من محفوظات السنوات الابتدائية الأولى مرورًا بالشعر الجاهلي، ووصولًا إلى الشعر الحديث. مع القدرة الفائقة على الشرح بطلاقة ووضوح.
هذا بالإضافة إلى أن النصوص، وقِطَع المحفوظات كانت منتقاة بعناية لتحبّب الطالب فيما يدرس، فنشأ جيل بأكمله محبًا للشعر، هاويًا للقراءة، سواء دروس القراءة المقرّرة التي كانت تُقّدم في الفصل، أو القراءة الحرة التي كانت حصة من الحصص الأساسية في كل المراحل الدراسية وفي كل المدارس، بلا استثناء.
فأين نحن من ذلك الآن؟ وهل حصّة القراءة الحّرة الأسبوعية مازالت موجودة، وبنفس قوتها وتأثيرها على الطلاب؟
أشك في ذلك!
فالمبدأ نفسه غير موجود، لأنه غالبًا ما تتحول حصة القراءة الحرة – هذا إذا كان لها وجودًا من الأصل - إلى حصة علوم أو رياضيات أو غيرها من المواد... فلا وقت للقراءة، ولا وقت للترفيه السليم، ولا وقت لتعلم اللغة الأم..
والحقيقة أن هذا الوضع السلبي لا يقتصر على المدرسة فحسب، ولكن البيت أيضًا يشارك في هذه المسئولية، فالأب والأم للأسف لا يعيرون اهتمامًا للقراءة الحرة، لأنه في الغالب هم أنفسهم لا يقرأون، بل هم يحرصون وبشدة على الدروس الخصوصية، فأمّا أنهم يشتكون من المبالغ الباهظة التي يتكبدونها، أو أنهم يصحبون الأولاد "للدرس" أو يأتون بهم من "الدرس"، فأصبح "الدرس" هو محور اهتمام الأسرة المصرية، وبدون "الدرس" لا تستقيم الحياة، ولن يرى الأولاد أي نجاح أو تفوق.
وأصبح أولياء الأمور يتباهون بالدرس والمدرّس الخصوصي، بعد أن كان الدرس الخصوصي مقتصرًا على الطلبة شديدي الضعف في التحصيل الدراسي منذ عقود.
أما الظاهرة الأكثر استفزازًا فهي أن الكثير من الأمهات يحرصن على تسمية الأشياء باللغة الإنجليزية، وكأن اللغة العربية "سُبّة"، مثل كلمات "الشوز"، و"اللانش بوكس"، و"الشاور"، و"الهوم ورك" حتى الأرقام والحروف يتعلمها الطفل باللغة الأجنبية، فلا يعرف أن الأحمر أحمر مثلًا لكنه "رِد"، بالإضافة إلى موضة "السابلايز" أو الاحتياجات المدرسية التي تتكلف مبالغ طائلة، وأصبحت وسيلة للتباهي والتفاخر، لا لاستفادة الطفل الحقيقية...
وغيرها وغيرها، من الظواهر السلبية التي اقتحمت حياة الأسرة المصرية فأفقدتها الانتماء، وأبعدتها تمامًا عن القيم الجميلة والعادات الأصيلة والتي يجب أن نعلمها لأطفالنا ونغرسها في نفوسهم منذ الصغر.