الأحد 24 نوفمبر 2024

مقالات

الهامش الثقافي في مصر بين الحشد السياسي وفشل الدمج

  • 6-11-2021 | 20:03
طباعة

يعبر مصطلح الهامش الثقافي عن فئات عديدة وشرائح مختلفة في الثقافة المصرية، منها الأطراف الجغرافية ومنها الاتجاهات الطليعية في الأدب والفنون، ومنها الفئات التي تبحث عن ذاتها ومازالت بحاجة إلى صيغة تنضوي تحتها، وكافة الطاقات الإبداعية غير المستقرة أو التجارب غير المكتملة أو ذات الطابع التجريبي.

وللهامش الثقافي في مصر قصة غريبة حين نتأمل أوضاعه في العقود الأخيرة وهي في الحقيقة جديرة بالتأمل والقراءة والبحث، وجديرة بالدهشة وحافلة بالطرافة، الهامش الثقافي في مصر وبخاصة الجغرافي يمكن أن يمثل طاقة جديدة وإضافية للمتن لكن الواقع أن النتيجة ليست كذلك لأن هناك فارقا كبيرا بين الحشد والدمج، ذلك أن هذا الهامش تتنازعه أطراف عديدة وواقع تحت تأثيرات واعية وغير واعية لهذه الأطراف، لكن أبرزها محاولة الدمج من المؤسسة الرسمية أو الدولة الوطنية وهذه هي الفاعل الأول من الناحية الشكلية لأنها ذات العمل التمويلي والتنظيمي الفعلي والعلني.

لأن نشاط الدولة في دمج الأطراف والهوامش الثقافية نشاط رسمي ومدعوم من الخطط والميزانيات، فهي في النهاية التي بنت قصور الثقافة وطورتها في المحافظات وجعلت في المراكز بيوت ثقافية، فهناك أقاليم ومحافظات وبيوت وهناك نوادي الأدب كما لها أنشطتها الثقافية المقترنة بمؤسسات التعليم وكلها يفترض بها صفة الرسمية أو تحت رعاية الدولة ومؤسساتها بمعنى أن ناتجها يكون هو فعل الدمج لهذه الهوامش واستمداد طاقاتها الإبداعية في الآداب والفنون والفلسفة وغيرها من المجالات بما يضيف للراسخ والمستقر في المتن فنكون أمام دفقات جديدة تشكل تجدد المتن وتجدد الصورة الكلية للثقافة والإبداع في مصر. فهل هذه هي النتيجة التي نحصل عليها بالفعل؟.

ما يجري على أرض الواقع بخلاف ذلك تماما، ذلك لأن هذا الإطار الرسمي الذي تجري فيه محاولات دمج الهوامش الثقافية إنما هو إطار شكلي فقط، والحقيقي أن الأيديولوجيات الأخرى ومنها ما هو غير وطني بالتأكيد هي التي تكون ذات فاعلية حقيقية على هذه الهوامش، وتعمل في إطار الحشد لقوى هذه الهوامش وليس دمجها في الإطار الرسمي أو دمجها في الهوية الوطنية وجعلها تعمل ضمن احتياجاتنا الجماعية وأزماتنا وأسئلتنا وقضايانا. فما هي هذه الأيديولوجيات المختلفة التي تشتغل بوعي أو بغير وعي، باستراتيجية أو بشكل عشوائي على دمج الهوامش الثقافية في مصر؟، أبرزها على الإطلاق أيديولوجيات الجماعات الدينية التنظيمية بشكل خاص؛ ذلك لأن هذه الجماعات هي بالأساس ذات أطر تنظيمية وعمل على أرض الواقع وتهدف إلى مطلق الحشد السياسي لكل من تتوافر لديه سمات القلق والبحث عن الذات ويعيش مخاضات التشكل والتحول ولم يتوافر له الاستقرار، أو لنقل إن هذه الجماعات توافر لها من التنظيم ومن الانتهازية ما يجعلها تستهدف انتظام كافة التيارات القلقة والغاضبة أو المشحونة بتوترات التحول ومراحل التكوين والانطلاق.

بتبسيط شديد إن كثيرا من الأجيال الشابة من الشعراء في الأقاليم لهم طاقات إبداعية قلقة وغاضبة ومتحفزة ومشحونة بعديد الأسئلة المعلقة والتوترات المؤجلة النابعة من مرحلتهم العمرية ومن موقعهم بين الأجيال وهذه الأجيال الشابة من الشعراء وكتاب الرواية غالبا ما تجد نفسها بشكل أسهل تحت لواء الجماعات والتنظيمات والأفكار الثورية المندفعة في نوادي الأدب التي ربما يصادف أن يقودها غير المتحققين من ذوي الذهنيات الأصولية أو الرجعية أو ملتبسي الهوية الثقافية، من المجموعات التي لديها أزمات نفسية وذهنية ولم تستقر على صيغة توفيقية تعيش بها في الإطار الثقافي الراهن القائم على العولمة والانفتاح المحسوب على الآخر الذي كان بالأمس القريب مستعمرا أو محتلا وسيدا بغيضا.

في الأقاليم تيارات ثقافية عديدة مضطربة وقلقة ومشحونة بالغضب، طاقات ناشئة وموارة بالحركة الإبداعية أو غير الإبداعية وبشكل لاواعٍ تنظمها أفكار ثورية في الإطار الثوري المتأسس على رجعية دينية في الغالب، أو ربما تنتظمها مجموعات سابقة من المنسحقين أو المهزومين أمام أزمات نفسية عديدة يمكن أن نفصل فيها القول في سياق آخر، وهكذا نجد أن الدولة هي التي تنفق على أندية الأدب مثلا أو تنفق على قصور الثقافة وغيرها من الأنشطة الثقافية الأخرى والكثيرة ولكن النتيجة تأتي على النقيض من ذلك.

الدولة تنفق وتحاول أن تدمج هذه الهوامش وتستفيد من طاقاتها الإبداعية لكن النتيجة لا تكون في صالح الدمج بل في صالح الحشد. الذي يمكن أن نقول إنه الهدف النقيض تماما بناء على نتائج وآثار كل منهما.

فالحشد هو مجرد الاكتفاء بما لدى هذه الهوامش الثقافية من طاقات الغضب والعنف وضخه باتجاه عمليات التثوير وصناعة الغضب والاحتقان المجتمعي وعدم التوافق، بين الأجيال أو الفئات أو الطبقات أو الأطراف والاتجاهات في المجتمع الواحد، الحشد يصب في مجرى التشتت المجتمعي ويسلب من السلم الاجتماعي للأمة ويعمق أزمات هذه الأجيال أو هذه الأطراف والهوامش لأن الغضب والثورة لن تحقق لهذه المجموعات ذاتها ولن تعينها على الوصول، فالحشد هو محض عملية استغلالية ليس فيها من عقد غير عقد الانتهازية والخضوع المضاد الذي تمارسه فئات أكبر سنا من الفاشلين السابقين الذين كانوا في شبابهم منتمين لجماعات إرهابية ثم فكروا في الثقافة والكتابة الأدبية بعد ذلك وهم في الحقيقة لم ينجزوا شيئا فيحاولون قيادة هذه الطاقات الشابة والأجيال الجديدة في الأطراف إلى الحالة نفسها القديمة من الغضب والثورة والعنف والشحن.

يجب أن نبحث طويلا في الفوارق بين الحشد والدمج، لنتيقن من أن الهوة بينهما عميقة، ولنتيقن من مخاطر الحشد ولنتيقن جميعا أيضا من أن ما نحن بحاجة له هو الدمج لهذه الطاقات. والأهم هو أن نبحث عن سر الإخفاق الدائم في استراتيجيات الدمج وندرك لماذا هي دائما استراتيجيات فاشلة وشكلية. لماذا عجزت قصور الثقافة ونوادي الأدب في المحافظات وهي الممولة بميزانية من الدولة وأخفقت تماما في دمج شباب الأدباء والمثقفين في حين استمالتهم التيارات الرجعية وهيمنت عليهم، بل الأخطر أن المركز نفسه أصبح عاجزا عن عمليات الدمج، وكأن مضاء المؤسسة الثقافية الرسمية في العاصمة هو الآخر تكلس وأصبح ناقص الفاعلية، ولم تصبح الهوامش الثقافية التي تنتمي للمجموعات الرجعية أو يتم استقطابها من الرجعيين والتنظيميين في الجماعات الدينية مقصورا على المحافظات النائية بل أصبح ذلك في أطراف القاهرة وأحيانا في قلبها، فأصبحت هناك مجموعات لها هذه السمات في ضواحي الجيزة وشرق القاهرة وكذلك في قلب القاهرة ووسط البلد.

بل تغلغل الاستقطاب الديني لشباب المثقفين عبر أدوات قوية مثل بعض دور النشر القوية في قلب القاهرة وبعض المنتديات الثقافية والصالونات في وسط البلد، وبعد أن اكتمل لهم الاستحواذ على الشباب بدأوا في الزحف المقدس نحو القاهرة لإكمال السيطرة.

لماذا أخفقت كل استراتيجيات الدمج ومحاولاته عبر عقود وكيف نعد استراتيجية جديدة نكون على يقين من فاعليتها بل من سرعة إنجازها للدمج واستقطاب هذه الطاقات الإبداعية الشابة لأن الأمر تجاوز فكرة خسارة الطاقة الإبداعية إلى مخاطر التهشيم والتفتيت للنسيج الثقافي الذي يفترض به أن يكون ذا طابع حركي يدمج الجديد مع القديم دون اعتراك أو صدامات ودون أن يكون المجتمع مشحونا بمجموعات من المأزومين.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة