الخميس 28 نوفمبر 2024

لم يكن إخوانيا ولا وفديا ولا شيوعيا

  • 7-6-2017 | 12:56

طباعة

بقلم –  ثروت الخرباوى

أكثر من عشر مكالمات تليفونية جاءت لى فى يوم واحد من أصدقاء وصحفيين وباحثين يطلبون منى أن أجيب على سؤال هام، والغريبة أن السؤال كان واحدا عند الجميع!: هل كان جمال عبد الناصر إخوانيا؟! ورغم أن الإجابة معروفة وسبق لكبار المؤرخين أن قتلوها بحثا، إلا أن غير المتخصصين الذين يقرأون التاريخ من الإنترنت من الممكن أن يجعلوا من عبدالناصر يهوديا إن شاءوا، وشيوعيا إن أرادوا، وإخوانيا إن أحبوا، ولن يتذكر هؤلاء أن عبدالناصر كان مصريا.

 

كانت أكبر الآفات التى أصابت مجتمعنا فى الأزمنة الأخيرة هى آفة التعالى على الحقيقة، والجهل المُرَكَّب، والتعالى على الحقيقة لا يكون إلا ممن أصابه الجهل المُرَكَّب إصابة مؤثرة فى عقله وقلبه، فكان أن وقع فى آفة أخرى هى آفة الكِبر التى تصيبه هى الأخرى بآفة الغرور، وآفة تُسَلِّم لآفة، تُسَلِّم لآفة، ودعك من آفة الكِبر الآن وقانا الله جميعا منه، ودعك أيضا من آفة الغرور، لنعود إلى الآفة الأخطر وهى آفة الجهل المُرَكَّب التى هى فى حد ذاتها مشكلة، فالجاهل العادى من الممكن أن يتعلم إن أراد، ولكن المشكلة فى صاحب الجهل المُرَكَّب إذ إنه لا يمكن أن يسلك طريق التعلم لأنه يظن أنه يعلم، وكم من التزوير يُرتكب بحق التاريخ بغير قصد من أولئك الذين لا يعلمون ويظنون أنهم يعلمون، وبقصد من الذين يعلمون ولكن الهوى هو الذى يحركهم، والقيام بوظيفة ما، ومهمة محددة هو الذى يدفعهم «والمعنى فى بطن الشاعر» إلا أن التاريخ لا يمكن تزويره، فستظل حقائقه واضحة حتى لو غير المزورون وقائعها، وكانت من القصص المسلية التى روَّجها الإخوان لفترة قصة أن عبد الناصر كان إخوانيا وأنه أقسم قسم البيعة فى حارة الصليبة بالسيدة زينب، تارة يقولون إنه أعطى البيعة لحسن البنا ذات نفسه، ومرة أخرى يقولون: لا إنه أعطى البيعة لعبد الرحمن السندي، وهلم جرَّا، وآهٍ منك يا جرَّا.

وفى قصة أخرى من القصص المسلية التى روجها الإخوان وسار وراءها الجهلاء قالوا إن والدة عبد الناصر كانت يهودية، ثم قالوا إن عبد الناصر تقابل فى حصار الفالوجا مع ضابط يهودى واتفقا على أن يُنشئ عبد الناصر تنظيم الضباط الأحرار ليصل بعدها للحكم، ثم ليُحقق بعد ذلك كل طموحات اليهود، ولك أن تلاحظ البصمة النفسية للمجرم الذى يزوِّر التاريخ، فالذى قال إن والدة عبد الناصر كانت يهودية، هو ذاته الذى قال إن والدة مصطفى كمال أتاتورك كانت يهودية، وهو نفسه الذى قال إن والدة الرئيس السيسى كانت يهودية! لتعرف من هذا كله لماذا لا يعتمد المؤرخون الكبار على روايات الإخوان المُسلية التى يحكونها لصبيانهم الصغار فى لقاءات الأُسَر الأسبوعية والكتائب الشهرية، وهلم جرَّا وآهٍ منكِ يا جرَّا.

ومن القصص الطريفة التى ظل الإخوان يروجونها ليل نهار ويبثونها فى كتبهم ثم على مواقعهم قصة أن جمال عبد الناصر كان يجلس من سيد قطب مجلس التلميذ من الأستاذ، والسبب فى تلك القصة الطريفة هو أن الإخوان أرادوا أن يرفعوا من قدر سيد قطب من ناحية ويحطوا من قدر عبد الناصر من ناحية أخرى، ولكن ما بين الرفع والحط كانت هناك أسباب سيكولوجية لاختلاق تلك العلاقة، هى تصوير عبد الناصر بصورة الرجل الغادر السفاح الذى لا يتورع عن إعدام أستاذه الذى تعلم منه، لمجرد أن أستاذه كان يريد أن يطبق الإسلام، وحين تتداعى تلك المعانى فى نفسية الشاب الإخوانى الصغير لك أن تتخيل كم الكراهية التى سيحملها قلبه لعبدالناصر ومشروعه ونظامه، وضع مع ذلك قصة الضابط اليهودى فى الفالوجا، والأم اليهودية، ثم قصة أن ناصر كان من الإخوان، ليصبح عبد الناصر عميلا تم زرعه فى الإخوان ليكتسب ثقتهم ويعرف دخائلهم، ثم عندما تساعده الصهيونية العالمية على الوصول للحكم يكشر عن أنيابه ويمكر بالإخوان ويزجهم فى السجون لا لشيء إلا لأن من زرعوا عبد الناصر فى الإخوان يريدون القضاء على الإسلام ـ لا الإخوان ـ، وبذلك يكون عبد الناصر هو العدو الأكبر للإسلام عبر التاريخ! وسيضاف فى تلك الخانة إلى الأعداء المختلقين فى ذهنيتهم الضالة مثل أتاتورك، وطه حسين، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، والخازندار، وأحمد ماهر، والنقراشي، والسيسي، وفلان وفلان وهلم جرَّا، وآهٍ منكِ يا جرَّا.

لذلك ينبغى على كل من يكتب للتاريخ أن يدرس سيكولوجية الجماعات «المنغلقة» التى تتسم بالفاشية ادعاء النقاء العقائدي، أولئك الذين يظنون ـ فى مجتمعاتنا المتخلفة ـ أنهم الفرقة الناجية حيث ستكون كل الفرق والجماعات والأحزاب والتكتلات فى النار وبئس المصير، أما هم فهم النقاء والصواب، لذلك لا يتزوجون إلا من حارتهم «الجيتوية» ولا يعملون إلا فى مؤسساتهم، ولا يسكنون إلا متجاورين، وإن عمل أحدهم خارج دائرتهم فذلك من أجل أن ينشر ثقافتهم، وينشر دعاياتهم، ويمجد فى رموزهم، ويرفع من قدر قادتهم، ويؤكد على مثالية تاريخهم ومظلوميتهم، فسيكولوجية «الفرقة الناجية» تتجه دائما إلى تمجيد نفسها ورفع شأنها، فهى فى ضمائرهم، جماعة ربانية، وإمامهم ومؤسسهم كان ربانيا يقول للشيء كن فيكون، ومن يخرج منهم ضال ومضل وكأنه ارتد عن الإسلام، أما غيرهم فهم أهل الضلال والفساد، مثل ذلك ستجده عند اليهود، أولئك الذين صنعوا لأنفسهم «جيتوات» خاصة بهم، أى حارات ينعزلون فيها عن بقية البشر، مثل «جيتوات» اليهود فى روما وإسبانيا وأوربا الشرقية فى العصور الوسطى، وفى بولندا فى أواخر الثلاثينيات، ومثل حارة اليهود فى مصر، وهلم جرا وآهٍ منكِ يا جرا.

من تلك السيكولوجية ستعرف أن الإخوان ومن على شاكلتهم يصنعون لأنفسهم تاريخا خاصا بهم، ليس هو تاريخ مصر، ولكن التاريخ عندهم هو تاريخهم هم، ورموزهم ليست هى رموز مصر، ولكن الرموز عندهم هى رموزهم هم، ومن أجل ذلك يتم تزييف التاريخ، وتشويه رموز مصر، وتقديس رموزهم وقياداتهم، وإذا أردت أن تعرف مثلا لما أقول فما عليك إلا أن تدخل معى إلى القصص المختلقة التى يروجونها عن سيد قطب، لدرجة أن بعض كبار المؤرخين المحايدين ساروا خلفهم شبرا بشبر، وصدقوهم، ونقلوا عنهم، وكان هذا الأمر مذهلا بالنسبة لي! فيقولون مثلا: إن هذه القضية التى اتُهم فيها سيد قطب ملفقة وأنه لم يحدث قط أن أنشأ قطب تنظيما بهذا المعنى! ثم يقولون إن رئيس المحكمة التى كانت تحاكم قطب قال له: أريد أن أعرف الحقيقة، فكشف قطب عن ظهره وأراه آثار التعذيب وقال له: هذه هى الحقيقة، ويسترسل واضعوا الأساطير بأن مدير السجن قبل إعدام قطب قال له: اكتب اعتذارا لعبد الناصر حتى يعفو عنك، فقال قطب: إن السبابة التى توحد الله فى الصلاة لا يمكن أن تكتب اعتذارا لعبد الناصر. ويجمح الخيال بأحدهم فيقول إن الشيخ الأزهرى الذى حضر الإعدام قال لسيد قطب قبل أن يصعد للمشنقة: قل لا إله إلا الله، فنظر إليه قطب وهو يقول: وهل أتى بى إلى هنا إلا لا إله إلا الله، ثم يختتم الإخوان أساطيرهم بقصص التعذيب التى تعرض لها قطب، إلى أن تروى أخته حميدة قطب ـ أو بالأحرى يُروى عنها ـ أن حمزة البسيونى استدعاها عشية تنفيذ حكم الإعدام وقال لها: إننا نحب الأستاذ سيد ونرى أنكم الجماعة الوحيدة فى العالم التى تطبق صحيح الإسلام وأننا نريد أن ننقذ الأستاذ قطب من الإعدام إذ أمر عبدالناصر أن يتم باكرا، وكل ما نريده هو أن يكتب اعترافا بأنه أنشأ تنظيما لاغتيال عبد الناصر وقلب نظام الحكم، وسأرسلك له الآن فى زنزانته لتقنعيه بالاعتراف فإذا اعترف سأضمن لك حكما بالبراءة وعفوا صحيا من الرئيس عن الأستاذ سيد قطب، فذهبت حميدة ـ كما يقولون ـ إلى أخيها فى زنزانته وأخبرته بما قيل لها فرفض وقال لها: لو كنت قد ارتكبت هذا الفعل لاعترفت وما منعتنى أى قوة على وجه الأرض من الاعتراف.

فإذا كنت تريد معرفة الحقيقة فلا تعوِّل على كل ما سلف، فلم يحدث شىء من هذا على الإطلاق، فسيد قطب لم يقع عليه أى تعذيب، فقد قضى فترات العقاب قبل إعدامه فى مستشفى السجن، والإخوان هم الذين يقولون ذلك، ويتحدثون عن الفترة الأولى التى حبس فيها قطب فقالوا فى كتبهم:«قضاها فى مستشفى السجن وأرسل له فى هذه المستشفى حسن الهضيبى يسأله عن تكفيره للناس فأنكر أنه كفَّر أحدا» ثم إن أحدا لم يقل لنا: من أين عرف الإخوان أن مدير السجن طلب منه أن يكتب اعتذارا لعبد الناصر قبل إعدامه؟ هل أخبرهم بهذا مدير السجن؟! أم أن سيد قطب قام من موته وأخبر الإخوان بما حدث؟! ولأن هذه المعضلة وقفت أمام الإخوان فقد حاولوا إخفاء تلفيقها، فقالوا: كان واحدا من الجند يحرس زنزانة قطب ـ الذى هو فى مستشفى السجن من الأصل ـ وكان يظن وفق ما قيل له أن قطب هذا من اليهود، فرآه يقوم الليل ويقرأ القرآن، ويتعرض من أجل ذلك لتعذيب بشع ـ فى مستشفى السجن ـ وتصادف أن كان هذا الجندى هو الذى اقتاد قطب لغرفة الإعدام، فرأى وقال وقص علينا ما حدث من مسألة السبابة التى توحد والاعتذار المرفوض والشيخ الذى قال له قطب: وهل أتى بى إلى هنا إلا لا إله إلا الله، هذا والله شىء عظيم، ولكن من هو هذا الجندي؟ ما اسمه وأين كتب اعترافه هذا، فلن تجد جوابا لهذا أو لذاك، أو وأو وأو، وهلم جرا وآهٍ منك يا جرا.

نستطيع أن نسهب كثيرا، وما أسهبت إلا قليلا لكى أوضح فى نقاط فاصلة أننا لا يمكن أن نعتمد على روايات الإخوان للتاريخ، فهم أكبر جماعة فى التاريخ الحديث مارست تزويره، ولا يزالون يفعلون، يفعلون ذلك فى نفس اللحظة التى نعيشها وعن تلك الأحداث التى نراها بلا وازع أخلاقى أو ديني، فلذلك أن أعجب فعجبى الكبير عن أولئك الذين يقولون: سنأخذ من تأريخ الإخوان لأنفسهم بعضا، وسنأخذ من الآخرين بعضا، ثم سنصنع توليفة تجمع بين هذا وذاك، وكأننا نمارس إعداد طبق «سَلَطَة التاريخ» وكوكتيل التاريخ، دون أن يعرف هذا الآخذ المُعد للكوكتيل التاريخى أن بعضا ممن ظهروا بمظهر المحايدين هم فى الحقيقة أخذوا من الإخوان بعد أن أحدثوا تعديلات طفيفة عندما كانوا هم أيضا يمارسون إعداد طبق «كوكتيل التاريخ» وأيضا أقول إن عددا قليلا من الباحثين هم الذين أجهدوا أنفسهم وهم يؤرخون للإخوان مثل المؤرخ الكبير الدكتور جمال شقرة، والكاتب الكبير الوزير حلمى النمنم، وغيرهما وإن كانوا قلة.

أطرح ما سلف دون أن أتطرق لدراما، أو سيناريو، أو حوار، فأنا هنا أتحدث عن التاريخ وسيكولوجية الجماعات الفاشية، وليس لى شأن بكاتب «ما» يضع ما يحلو له فى الدراما التى يكتبها، أو يسعى لإعادة الحياة مرة أخرى لجماعة ماتت فى ضمير الشعب المصري، فأنا أعرف أنه ليس مؤرخا، ولا معرفة له بدروب التأريخ، وليس له القدرة على معرفة الصواب من الخطأ لأن هذا الأمر ليس من فنه أو صنعته، خاصة وأن كل ما طرحه عن تلك الجماعات فى كتاباته القديمة كان مجرد صور كاريكاتورية مضحكة، بل إنها ساهمت فى رفع شعبية الإخوان فى الشارع المصري، والحقيقة أنا أعذره فهذه إمكانياته، خاصة وأنه قد يكون قد استعان بشخصٍ ما خدعه ووضع له طَبَقا تاريخيا ملفقا، وعلى أى حال فإن الموضوع الملتبس فيه هو هل كان جمال عبد الناصر إخوانيا مُنظما؟ الذى يدرس التاريخ يجب أن يطرح عدة أسئلة ليحصل على إجابة لهذا السؤال، أولها: متى انضم جمال عبد الناصر للإخوان؟ وثانيها: من الذى قام بتجنيده وأشرف عليه وربَّاه التربية الإخوانية؟ وثالثها: من هم الإخوان الذين كانوا معه فى أسرته الإخوانية؟ ورابعها: متى ترك جمال عبد الناصر الإخوان، وكيف تركهم، ولماذا انشق عليهم؟ هذه أسئلة فيصلية يجب على من يدقق فى التأريخ أن يحصل على إجابات حاسمة بشأنها، أو على أقل تقدير أن يحصل على إجابات شبه يقينية عليها كلها أو على بعضها، لأن الشخص لا ينضم للإخوان ليكون وحده هو العضو الوحيد فى تنظيمهم، ودخول الإخوان لا يكون برغبة الشخص نفسه، فلم يحدث أن تقدم أحدهم إلى مقر الإخوان وطرق بابهم وقال لهم: أنا فلان الفلانى وأحبكم وأرغب فى الانضمام إليكم، فيقوم المسئول الإخوانى على الفور بإعطائه كارنيه العضوية! هذه صورة هزلية يمكن أن تحدث فى عالم والت ديزنى لا عالم الإخوان والجماعات الفاشية، لماذا؟ لأنها جماعة انتقائية، أى أنها هى التى تقوم بانتقاء الشخص، وإعطاء تقديرات له دون أن يعلم شيئا عن هذا الأمر، فإما أن تنتهى فى تقديراتها إلى أن هذا الشخص لا يصلح للانضمام للجماعة، أو تنتهى إلى أنه يصلح لتوافر الشروط الأساسية فيه، فإذا ما تم قبوله تبدأ الجماعة فى تسليمه لشخص إخوانى من منطقته التى يقيم فيها يكون هو المسئول عن تربيته إخوانيا، ويقوم هذا الشخص الإخوانى بضمه إلى أسرة إخوانية فيها عدد من خمسة أشخاص إلى سبعة يكونون هم كأنهم أسرته الحقيقية، فيتداخل معهم ويصبحون جزءًا من حياته، فإذا قال لى أحدهم إن هذه الطريقة لم تكن متبعة فى تلك الفترة، فسأقول له: نعم لم تكن متبعة حرفيا فى النظام العام للجماعة، ولكنها كانت متبعة فى النظام الخاص، بل بشكل أكبر صرامة مما ذكرت، وحتى النظام العام كانت طرقه التنظيمية تستلزم أن يلتحق الإخوانى الجديد بأسرة إخوانية ينتظم معهم فى لقاء أسبوعي، فإذا لم يحدث هذا فإن هذا الشخص لا يكون إخوانيا على الإطلاق حتى ولو ظن هو نفسه أنه من الإخوان!. ولكن ما هى المصادر التى قالت إن عبد الناصر كان منتميا للتنظيم الخاص للإخوان؟ كلها مصادر إخوانية، مثل محمود عساف، ومحمود الصباغ، وأحمد عادل كمال، وهلم جرَّا وآهٍ منك يا جرا.

وقبل أن نعود للأسئلة أؤكد أن عبد الناصر لم يلتق بسيد قطب قبل الثورة، ولم يجلس معه، وربما كان قد سمع عنه فقط، فإذا قال أحدهم إن عبد الناصر جلس فى حضرة سيد قطب كتلميذ وإنه جمع له بعد ذلك بعض الضباط من تنظيم الضباط الأحرار وقدمهم له، واستمعوا إليه، فإننى أهيب بمن قال ذلك أن يضيف تلك القصة الخيالية إلى كتاب ألف ليلة وليلة، فعبد الناصر لم يكن مهتما بالجلوس مع أنصاف الكتاب، أو بنقاد الأدب والشعراء، فمشروعه كان سياسيا، كما أن تنظيم الضباط الأحرار كان سريا، وعبد الناصر لم يكن ساذجا ليقول لقطب سأحضر لك زملاء من تنظيم الضباط الأحرار! كما أن قطب لم تكن له أهمية على الإطلاق وقتها، فكان أولى بناصر أن يجلس مثلا مع العقاد أو طه حسين، أو توفيق الحكيم، ولكن بعضنا يتعامل مع سيد قطب فى فترة الأربعينيات وكأنه كان نجم مصر والعالم العربى وقتها، إذ يستدعى بعض السذج شهرة سيد قطب الحالية ويظنها كانت متوفرة له منذ سبعين عاما، والحقيقة أن قطب كان نكرة من النكرات، مجرد تلميذ للعقاد، أراد أن يخرج من عباءة أستاذه فكتب كتابا عن العدالة الاجتماعية فى الإسلام، وكتابا آخر عنوانه التصوير الفنى للقرآن، إلا أنه كان كاتبا ليبراليا مغمورا، سافر إلى أمريكا وعاد عام ١٩٥١ وكان منبهرا بأمريكا ذات الفنون والحضارة والآداب، ورافضا فى ذات الوقت لاتجاهها للعنف والتدمير، وكتب أن أمريكا متناقضة ولن يصلح حالها إلا إذا تخلت عن العنف وأبدعت فى الفنون والآداب، وبعد أن عاد قطب من أمريكا رأى أن يكتب مقالا فى مجلة «المسلمون» الإخوانية، ولم يكن وقتها متطرفا، أو رافضا للمجتمع، ولا أظن أن أحدا سيحاول سبر غور قصة قطب فى أمريكا، ولماذا عاد بوجه آخر؟ ولماذا اتجه للإخوان؟ ولماذا بدأ فى كتابة تفسير للقرآن؟ وهلم جرَّا وآهٍ منكِ يا جرَّا.

 نعود إلى الأسئلة لنحصل على الإجابات، نعم قال بعض الإخوان إن عبد الناصر كان إخوانيا، ولكن لم يقل أحد منهم متى انضم ناصر للإخوان، ومن الذى ضمه، ومن هم الذين كانوا معه فى أسرته الإخوانية، ومتى انشق عن الجماعة ولماذا؟ إذ ليس من المعقول أن يظل ناصر فى الجماعة ولا يعرفه أفرادها، ذلك أن من قالوا إنه كان إخوانيا اكتفوا بزعم إنه كان على صلة وثيقة بعبد الرحمن السندى مسئول النظام الخاص بالجماعة، وأنهم من خلال هذه الصلة فهموا أن عبد الناصر كان من الإخوان! وكأن كل من كان على صلة بالسندى يُفترض أنه إخواني! وإذا أردنا أن نصدق الإخوان فى هذا الادعاء فيجب أن نسمع شهادات رفاقه فى الجماعة، أين هم؟ ولماذا لم يذكر واحد منهم رفقته مع عبد الناصر، فى حين أن كل الأبواق والصحف كانت مفتوحة للإخوان فى السبعينيات والثمانينيات يقولون من خلالها ما يريدون، ولكن هذا الأمر لم يحدث، ونظرا لأن كل إدعاء يجب أن تكون له بينات حتى ينتقل من باب الادعاء إلى باب الحقيقة، وبما أن الإخوان لم يقدموا بينة واحدة على هذا الادعاء فيكون زعمهم باطلا بحيث لا يجوز لأى شخص قرأ فى يوم من الأيام كتاب تاريخ أن يقع فى حبائلهم ويصدق فريهم، بمعنى أن ما قالوه هو تخمين بلا دليل، فهل يقوم التاريخ على التخمينات؟!.

ومن ناحية أخرى فإن شهادة عبد الناصر نفسه تحسم هذه المسألة، فقد كان الضابط جمال عبد الناصر قد تخرج من الكلية الحربية عام ١٩٣٧ وكان قبلها قد سعى إلى معظم الأحزاب السياسية فدخل مصر الفتاة ثم دخل الوفد ثم تعرف على التجمعات الشيوعية وحزب حدتو، وفى منتصف الأربعينيات ومن خلال اليوزباشى عبدالمنعم عبد الرؤوف والملازم أول حسين حمودة تعرف عبد الناصر على الشيخ حسن البنا وقامت بينهما صلة ذكرها عبد الناصر بعد ذلك فى إحدى خطبه فى نوفمبر من عام ١٩٦٥ إذ قال:

« أنا قبل الثورة كنت على صلة بكل الحركات السياسية الموجودة فى البلد، يعنى كنت أعرف الشيخ حسن البنا، ولكن ماكنتش عضو فى الإخوان المسلمين.. كنت أعرف ناس فى الوفد وكنت أعرف ناس من الشيوعيين، وأنا أشتغل فى السياسة أيام ما كنت فى تالتة ثانوى، وفى الثانوى اتحبست مرتين أول ما اشتركت فى مصر الفتاة وده يمكن اللى دخلنى فى السياسة، وبعدين حصلت خلافات وسبت مصر الفتاة، ورحت انضميت للوفد، وطبعا أنا الأفكار اللى كانت فى راسى بدأت تتطور، وحصل نوع من خيبة الأمل بالنسبة لمصر الفتاة، ورحت الوفد وبعدين حصل نفس الشىء بالنسبة للوفد، وبعدين دخلت الجيش.. وبعدين ابتدينا نتصل فى الجيش بكل الحركات السياسية ولكن ماكناش أبدا فى يوم من الإخوان المسلمين كأعضاء أبدا، ولكن الإخوان المسلمين حاولوا يستغلونا و.. »

كانت هذه هى شهادة عبد الناصر حول علاقته بالإخوان وحسن البنا، هى علاقة تعارف بالمرشد الأول وتعاون أثناء قيام الثورة من خلال عبد المنعم عبد الرؤوف اليوزباشى الإخواني، فهل نترك شهادة صاحب الأمر ونركن إلى شهادة خصومه الذين ألصقوا به كل المعايب؟! وقد يتسع لنا المجال فى مقال آخر لنتحدث تفصيلا عن الخلاف بين الإخوان وعبد الناصر، إلا أن شهادات أفراد من الرعيل الأول للإخوان نفت أن عبد الناصر كان إخوانيا، مثل شهادة الشيخ الباقورى التى قال فيها إن عبد الناصر لم يكن إخوانيا ولكنه اتفق معهم على تأييد الثورة ولكنهم نكلوا عن ذلك، فيقول: «إن العملية كلها منذ جاء المرحوم على باشا ماهر، وتحرك جماعة من الإخوان مثل الأستاذ عبد الحكيم عابدين وآخرين دون علمى لمقابلته، وأنا عضو فى مكتب الإخوان العام، ولابد أن يكون لى وجهة نظر معينة إذا ما أراد الواحد منهم أن يلتقى برئيس الوزراء، ثم التقوا لقاء غريبا بالإنجليز.. أنا شعرت أن هذه العملية لعب، وأنهم يلعبون بنا.. وجمال عبدالناصر رحمة الله عليه كان زعلان منهم، لأنه فى ليلة القيام بثورة ٢٣ يوليو كان قد اتفق مع بعض الإخوان المسلمين أن يشاركوا.. والذى حدث أنهم لم يحضروا فى الموعد المحدد ورفضوا التحرك ولم يتعاونوا واعتبر عبدالناصر موقفهم هذا هروبا، ربما يكون قد فكر فى أكثر من الهروب.. بالخيانة مثلًا، ولكن لم يقل شيئًا سوى أنهم خذلوه..! »

ولعل مبرر الإخوان آنذاك من إعلان تأييدهم للثورة هو الانتظار لحين خروج الملك من مصر فقد كان فى تقديرهم إمكانية فشل الثورة فأراد الهضيبى الاحتياط لذلك. والحقيقة التاريخية التى لا مراء فيها هى أن الإخوان لم يساهموا فى ثورة يوليو بكثير أو قليل، ولكنهم أرادوا مصادرة الثورة لمصلحتهم، فكروا فى ركوبها والاستيلاء على قادتها، لذلك حدث الخلاف الأول حول كيف سيشارك الإخوان فى الحكم، ولأن الإخوان كانوا قوة تنظيمية أعلى من أى كيان سياسى آخر لذلك كانت لهم رغبة عارمة فى السيطرة على الحكم والهيمنة على عبد الناصر، وعندما أدركوا أن هذا الأمر بعيد المنال وقفوا ضد المشروعات الثورية.

ونستطيع أن نحصل بسهولة على شهادة سامى شرف الذى نفى تماما انضمام عبدالناصر للإخوان، وقال شرف بشأن رغبة الإخوان فى الاستحواذ على السلطة وفرض هيمنتهم على نظام الحكم الجديد «إن لقاءً تم بين عبد الناصر والهضيبى بعد الثورة بفترة، وفى هذه الجلسة طلب الهضيبى من عبد الناصر أن يختار هو الوزارات التى ستكون للإخوان، وعددها، وأن يختار هو أسماء هؤلاء الوزراء، ولكن عبد الناصر رفض هذا الأمر بشكل قاطع، وبالطبع لم يرق هذا اللقاء للهضيبى فبدأت الجماعة بعد ذلك فى اتخاذ مواقف ضد الثورة».

أمامنا الآن ادعاءات من بعض الإخوان تدور حول أن عبد الناصر كان إخوانيا، وهذه الادعاءات نفاها عبد الناصر شخصيا، كما أن الإخوان لم يقدموا دليلا واحدا على هذا الانتماء وفقا للأسئلة الهامة التى طرحناها، ولم يشهد أى شخص من الإخوان أنه كان مع عبد الناصر فى أسرة إخوانية واحدة، وزعمهم بإخوانية ناصر قائم على فرضية أنه كان صديقا لعبد الرحمن السندي، وهذه الفرضية لا تصلح كدليل، ولنا أن نعرف سيكولوجيتهم لندرك لماذا كان هذا الاختلاق، وبعد ذلك يجب أن نبحث عن إجابة عن سؤال هام: لماذا يحاول البعض إعادة الحياة لجماعة ميتة؟ ولماذا يقول واحد من هؤلاء البعض ممن يكتبون دراما تحتوى على أكبر كم من تزييف التاريخ: «لا أكره الإخوان، وهم أصدقائي، وعصام العريان صديقي، وعبدالمنعم أبو الفتوح كذلك، وقيادات الإخوان كانت تزورنى فى ألمانيا عندما كنت مريضا، وأتمنى أن تعود جماعة الإخوان للعمل الدعوى والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهلم جرا، وآهٍ منكِ يا جرَّا !.

 

 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة