بقلم – د. عبد المنعم سعيد
أظنه كان يوما فى نهاية الربيع أو فى أوائل الصيف عام ١٩٥٩عندما كنت عائدا مع أخى الأكبر د. لواء محمد قدرى سعيد - أطال الله عمره وأعطاه الصحة والعافية ـ من مكتبة رفاعة رافع الطهطاوى بمدينة سوهاج حيث كان يعمل الوالد فى ذلك الوقت. قمنا كما هى العادة بشراء صحيفة اليوم مناصفة بنصف مصروفنا اليومى، وكان العنوان رئيسيا حول مباراة هامة لكرة القدم بين الأهلى والزمالك.
ورغم أن كلينا لم يكن لاعبا لكرة القدم، أو بارعا حتى فى فهم قواعدها، ولكن ما بدا من أهمية الموضوع دفعنى لإيضاح أن مصر كلها منقسمة إلى ناديين: الأهلى والزمالك، وأن التقاليد تستدعى تشجيع أى منها، وحتى يكتمل الملعوب لابد من انقسام حتى تكون المنافسة فى الملعب وبين الجمهور. اقترحت أن أكون أنا مشجعا للأهلى، وهو للزمالك فقبل بكرم شديد كعادته فى القسمة، وهو يعلم أن اختيارى للأهلى كان فيه أنانية المعرفة بفوزه بالدورى العام فى أغلب الأحيان.
كان ذلك بداية الاهتمام بكرة القدم بصفة عامة، ولحسن الحظ أن التليفزيون المصرى بدأ بثه مع عام ١٩٦٠، ومعه جاءت مباريات كبرى مع البرازيل وريال مدريد وبرشلونه وبنفيكا وتوتنهام ووستهام، وكان ناديا الأهلى والزمالك طرفين فيها كأندية أو كلاعبين. ولما كنا قد عدنا إلى الباجور منوفية، موطننا الأصلى، فقد كان علينا الذهاب إلى منوف حيث كان أصدقاء الوالد، ولديهم الكهرباء والتليفزيون معا، أو نقبل الوقوف لمشاهدة المباريات فى تليفزيون الوحدة الزراعية التى كان فيها تليفزيون ومولد كهربائى لا يعمل بكفاءة دائما. هناك، وفى أماكن أخرى، وفى الباجور عندما دخلتها الكهرباء، ومعها دخل منزلنا التليفزيون، أصبحت مباريات كرة القدم وقتا لتجمعات العائلة الكبري، التى سرعان ما قبلت القسمة التى كانت بينى وبين أخى الأكبر، وبين الأهلى والزمالك، ولكن سرعان ما اكتشفت أن المسألة ليست كذلك، فليس هناك تقسيم بين الناديين، فالحقيقة هى أن القسمة كانت بين الأهلى فى ناحية وبقية الأندية فى مصر جميعها فى ناحية أخرى. صحيح كان هناك شعبية لبعض الأندية فى مواطنها الأصلية مثل المصرى البورسعيدي، والإسماعيلى فى بورسعيد، والاتحاد فى الإسكندرية، ولكن مشجعى هذه الأندية كان أغلبها له ميول أخرى مع الأهلى أو مع الزمالك. وعندما شب أخى الصغير المهندس مسعد سعيد عن الطوق، قرر الاستقلال عن هذه الثنائية المزعجة، فاختار تشجيع نادى الترسانة الذى كان فى الستينيات أحد الأندية الكبرى فى مصر. لم يمض وقت طويل إلا وكان هو والوالد رحمه الله من مشجعى «ضد الأهلى» التى كانت كثيرا ما تترجم إلى مع «الزمالك».
كانت «المنافسة» هى جوهر الموضوع كله، وهى التى سرعان ما أدركت أنها جوهر الحياة، فالاقتصاد يقوم على المنافسة فى السوق، وعندما لا تكون هناك منافسة كما كان حادثا فى مصر خلال الستينيات من القرن الماضى، أو فيما كان معروفا بالدول الاشتراكية، فإن الاقتصاد لا يكون له معنى، وينتهى الأمر إلى ضعف الدولة أو انهيارها كلية. المنافسة هى أساس السياسة، وإذا كانت منافسة السوق تدور حول السلع والبضائع والخدمات، فإنها تدور حول الأصوات فى الانتخابات العامة، وهى تعكس منافسات المصالح والأفكار. لعبة كرة القدم كلها تقوم على المنافسة بين مجموعات من اللاعبين من أجل تسجيل الأهداف، وفيها الهجوم والدفاع والسرعة والمهارة والصحة والقوة البدنية، وكلها تعبيرات يجرى استخدامها فى وصف المجتمعات داخل الدول وفيما بينها فى النظام الدولى والعالمى. وبشكل ما أصبحت مبهورا باللعبة ومدى تعبيرها عن ثقافة المجتمعات ومسار حياتها وتقاليدها فى التشجيع والتعبير عن الوطنية إلى آخر الموضوعات السياسية والاجتماعية.
هكذا أصبحت أهلاويا بقرار عقلانى، وأصبحت مهتما بكرة القدم التى سرعان ما صار لها فى ذهنى أبعاد سياسية واجتماعية عبرت عنها أحيانا فى مقالات عكست الطبيعة التنافسية للعبة التى أصبحت مع مضى الوقت أشمل من الأندية إلى الفريق القومى الذى أصبح يلح على الذهن دوما لماذا لا يفوز بكأس العالم؟ تماما كما كانت أسئلة أخرى تلح لماذا لا نتقدم، ولماذا تسبقنا أمم أخرى، ولماذا هذه الحالة من الإخفاق المستمر فى أبعاد مختلفة من حياتنا. الأغلب أننى أفسدت متعة التقسيم الأولى بينى وبين أخى، وبين المنافسة العائلية بين الأهلى والزمالك، وبعد عصر الثورات زادت سخافة الموقف كله عندما فشلنا فى اللحاق بكأس العالم، وتواضعت أحلام الأهلى لكى يفوز مرة بكأس الكونفيدرالية، وظهر أن إجراء منافسات الكرة بدون جمهور نوع من السخافة القومية المعتادة التى تتصور عرض مسرحية على جمهور من الكراسى. الطريف فى الأمر أن قلب الجمهور المتحمس من الشباب لم يعد جمهورا متحمسا للنادى الذى يشجعه كما كان التصور عام ١٩٥٩ وإنما صار تحت اسم “الألتراس” نوعا من اللعنة التى جعلت التشجيع يقود دوما إلى العنف والموت والصدام حتى وهو خارج مدرجات ملاعب الكرة.
بشكل من الأشكال أصبحت العافية والقدرة المصرية العامة مرتبطة بحالة النادى الأهلى الذى أصبح بقدر ما يمثل مصر كلها، ليس فقط فى المحافل الدولية الرياضية، وإنما فى درجة تقدمها وحيويتها. فلم يكن هناك صدفة أن النادى الأهلى ولد عام ١٩٠٨ فى نفس الوقت الذى ولدت فيه جامعة القاهرة، وبينما كانت مصر تستعد لإنشاء بنك مصر، ويقوم محمود مختار بنحت تمثال نهضة مصر، ويغنى سيد درويش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب موسيقى رائعة خارجة من عباءة الدولة العثمانية ومعلنة عن مولد دولة عريقة. ومن الثابت أن النادى الأهلى عبر السنوات الطويلة ظل متمسكا بالقيم الصافية للدولة المدنية الحديثة فى مصر التى تشبع بتقاليدها، وعرف كيف يحافظ عليها سواء كانت القيادة فى يد سعد زغلول أو فى يد عبدالمحسن المرتجى أو صالح سليم أو حسن حمدى أو محمود طاهر. وكما يحدث فى مصر التى استوعبت جنسيات وأقواما وثقافات متعددة، فإن النادى الأهلى كان النادى الذى وجد فيه لاعبون جاءوا من أندية متعددة، وأحيانا من أقطار متعددة، الفرصة للازدهار والتفوق. الضظوى جاء من بورسعيد، وتريكة من الترسانة، وبركات من الإسماعيلي، ومن فلافيو إلى آجاي، وجد هؤلاء فى النادى نزعة قوية للفوز، وراءها تقاليد لا تجعل الفوز مطلوبا بأى ثمن، وكل ذلك من ورائه خطط علمية وشخصيات قيادية تعرف كيف تقود وكيف تنفذ ومتى بالضرورة عليها أن تنسحب وكل ذلك دون ضجيج، وتحت شعار الأهلى فوق الجميع (الطبعة الرياضية من مصر فوق الجميع!).
أصبحت هكذا أهلاويا، ومهتما بكرة القدم، كظاهرة اجتماعية وسياسية، دون أن أذهب إلى النادى الأهلى اللهم إلا من استثناءات قليلة، وحينما زاملت رئيس النادى الأهلى شخصيا الكابتن حسن حمدى فى مجلس إدارة مؤسسة الأهرام (١٩٩٩ إلى ٢٠٠٥) كانت العلاقة ودودة، ولكننا لم نتحدث مرة واحدة عن كرة القدم. وبعد ذلك التقينا مرة أخرى خلال ٢١ شهرا حاسمة ما بين مطلع يوليو ٢٠٠٩ و٣٠ مارس ٢٠١١ بعد أن توليت رئاسة مجلس إدارة الأهرام. وباختصار كانت هذه الشهور حاسمة فى تاريخ مصر، والأهرام، ومستقبلنا وتاريخنا الشخصى؛ وبالمقارنة مع ست سنوات الصحبة الودودة السابقة، فقد كانت هذه الشهور ممتلئة حتى الحافة بالآمال الكبار، والأحلام العظيمة، ثم الثورة الأولى برومانسيتها الأولى، وكوابيسها اللاحقة. خلال هذه الفترة الدرامية اقتربت كثيرا من الكابتن حسن حمدى.
بمجرد صدور قرار مجلس الشورى بتعيينى رئيسا لمجلس إدارة الأهرام، وحتى قبل أن أتولى المنصب رسميا، وبينما قوافل المهنئين كثيرة، تسللت من مكتبى ذاهبا إلى مكتب حسن حمدى. نظر إلى مندهشا ومهنئا، وأظنه كان مترقبا لما أتيت من أجله والذى سرعان ما حل حينما طلبت منه أن يصل دخل الإعلانات فى المؤسسة إلى خمسة مليارات جنيه، أو قرابة أكثر من ثلاثة أمثال الإيرادات حينئذ، والتى كانت قيمتها آنذاك فى مطلع يوليو ٢٠٠٩ أكبر كثيرا من قيمتها هذه الأيام. حسن حمدى لمن يعرفه لا يندهش كثيرا، هو بتعبيرات هذه الأيام «كووول Cool» ومتزن وعلمته الأيام أن فى الدنيا دائما ما يدهش، ولكن الرجال الكبار لا يدهشون. صمت حسن حمدى وغمغم بكلمات قليلة، أظنها كانت طريقته آنذاك للتخلص من موقف حرج، وربما من شخص «أكاديمى» ألقته الأقدار على مسئولية ثقيلة فاسترسل فى أحلام يقظة. ولكن ردا تفصيليا جاءنى بعد ذلك بشهور حينما ذهبنا سويا إلى الإسكندرية للقيام بمهام متعددة، وكان من بينها لقاء مع مكتب الأهرام للإعلانات حيث يوجد تلاميذ المشرف على قطاع الإعلانات فى الأهرام. وفى الطريق إلى المكتب، كان على مواجهة موقف حرج أصبحت معتادا عليه، وهو أن الجماهير فى الطريق تعرف جيدا الكابتن حسن حمدي، لاعب الكرة الشهير، ورئيس النادى الأهلى الذى كنت أظن باعتبارى أهلاويا صميما أنه ربما يلى شخص رئيس الجمهورية فى المكانة والأهمية والشعبية بالتأكيد؛ ولكنها لا تعرف ذلك الرجل الذى يمشى معه ولا تفهم لماذا يصر الكابتن على حشره معها بأدب شديد عند لحظة التقاط الصورة.
فى الاجتماع، وكما هى العادة فى كل اجتماع أعددت أهدافى وأهداف الإدارة من العمل، وشرحت ما نحن بصدده، وطالبت العاملين بالسعى معى والإدارة نحو تحقيق هذه الأهداف، وبعد ذلك تحدث حسن حمدى لكى يفاجئنى كما لم يفاجئنى، ويسعدنى أحد. تحدث حسن حمدى عن المهمة التى جئنا من أجلها، ولكنه وبقدر أعلى من الجدية المعروفة عنه قال إن الدكتور رئيس مجلس الإدارة طالبنى برفع إيرادات الإعلانات إلى خمسة مليارات جنيه، وأظن أنه يمكننى الآن القول أننا نستطيع تحقيق هذا الهدف خلال ثلاث سنوات. كانت الكلمة قصيرة وحازمة وحاسمة، وهى صفات تعودت عليها من حسن حمدى خلال تلك الشهور الفارقة فهو لا يتكلم كثيرا. وكان ذلك ما توقعته مسبقا بما لديه من خبرة فى قطاع الإعلانات، ولكن الأهم الخبرة التى كانت لديه فى النادى الأهلى ومحورها أن «المؤسسة» - النادى الأهلى أو الأهرام ـ لابد وأن يفوز، وأن الفوز ينبغى أن يكون وفق تقاليد وأعراف وقوانين معروفة ومحددة، وقبل كل ذلك وبعده التخطيط العلمى والهادئ الذى يجعل المؤسسة فوق الجميع.
كان الخوف قائما دائما عما يمكن أن يحدث إذا ما تقاطعت سبل ومصالح النادى الأهلى مع سبل ومصالح مؤسسة الأهرام، بالنسبة لى كان التناقض بين هوى شخصى والمؤسسة التى أقودها، وكانت المسألة محسومة لصالح الأخيرة. ولكن ماذا يكون عليه الحال إذا كنت رئيسا للنادى الأهلى بجماهيره العريضة وشعبيته الطاغية، ومؤسسة الأهرام العريقة بجذورها التاريخية مع الدولة المصرية وانتشارها الواسع بين الجماهير المصرية؟ الإجابة على هذا السؤال تبدأ من تقرير أن مجمل أرباح النشاط الاقتصادى للمؤسسة خلال العام المالى ٢٠٠٩/٢٠١٠ (وهو العام المتكامل الوحيد فى إدارتى للأهرام ولدى عنه معلومات كاملة ) وفقا لتقرير الجمعية العمومية للمؤسسة فى أغسطس ٢٠١٢ قد بلغ خلال ذلك العام ٥٢٥ مليون جنيه، وبلغ صافى الربح العام للمؤسسة قبل المخصصات ما قيمته ٤١٠ مليون جنيه بينما بلغ صافى الربح بعد المخصصات والقابل للتوزيع ١٥٥ مليون جنيه. هنا فإن قطاع الإعلانات، بقيادة حسن حمدى، كانت العامل الحاسم فى تحقيق هذه النتيجة حيث حقق القطاع ٦٣٪ من الإيرادات فى المؤسسة حتى ٣٠ مارس ٢٠١١ وهو ما جعل الهدف الطموح الذى وضعته قبل ٢١ شهرا فى متناول اليد.
التفاصيل بالطبع كثيرة فى هذا المجال، فقد كانت أصابع حسن حمدى موجودة فى كل مكان، وكان الأهرام متمكنا من سوق الإعلانات فى مصر حتى أن بعضا من الصحف الهامة فى مصر طلبت منا أن نعطيها ذلك القدر من الإعلانات الذين يفيض عن قدراتنا الطباعية خاصة فى أهرام الجمعة، ولكن ربما كان أعظم ما قدم حسن حمدى للأهرام، ولمصر فى الحقيقة، لم يكن فقط فى صناعة الإعلان، وإنما حكمته. لاحظ هنا أننا لا نتحدث فقط عن رئيس قطاع الإعلانات فى أهم المؤسسات الصحفية فى مصر، إنما أيضا وفى نفس الوقت رئيس النادى الأهلي، وهى حالة سياسية واجتماعية طاغية. ولقد حاولت قدر استطاعتى ألا أسبب له حرجا عندما تتقاطع الطرق بين الأهرام والنادى الأهلى، وفى كل مرة حدث فيها هذا عند توقيع عقد حقوق الأهرام الإعلانية فى النادي، كان حسن حمدى يمشى على السكين أو السكاكين التى وضعت فى طريقه لكى تكون القسمة فى النهاية فاعلة وناجعة ومفيدة بالعدل والقسط بين المؤسستين التاريخيتين. لم يضعنى حسن حمدى موضع الاختبار القاسى هذا مرة واحدة، وفى كل مرة كنت أعرف أن الحكمة قائمة وغالبة، والعين ثاقبة بصرا وبصيرة. كانت تقاليد الأهرام وتقاليد النادى الأهلية كافية لكى يقوم العدل وتنجز المصالح المشتركة.
لم يكن حسن حمدى وحده الذى عرفته من أقطاب ولاعبى النادى الأهلي، ولكن الأهرام أيضا جعلتنى أعرف الكابتن محمود الخطيب، والكابتن أحمد شوبير؛ وحينما اجتمع جمع كبير لتكريم حسن حمدى بعد حصوله على جائزة الاتحاد الإفريقى كانت التعبيرات الشائعة كلها تدور حول تقاليد النادى الأهلى والانتصارات التى يزمع الحصول عليها. كانت كرة القدم المصرية قد بدأت تخرج من المأزق التى وصلت إليه بعد عهد الثورات، فالفريق القومى وصل إلى نهائيات كأس الأمم الافريقية بعد غياب ثلاث دورات، وأصبح ممكنا أن يعود بعض من الجماهير إلى الملاعب فى المباريات القارية مرة أخرى.