السبت 1 يونيو 2024

نداءات وطنية

مقالات13-11-2021 | 21:52

عشوائية الاستراتيجيات

يتناول الكثيرون كلمة "الاستراتيجية" فى كافة مناحى حياتهم سواء كانوا أفراد أو مؤسسات أو جهات متعددة دون الإدراك الكامل لماهية مفهوم الاستراتيجية فأصبح تناولها بشكل عشوائى يفرغها من عمقها ويقلل من تأثير مفرداتها، ومن هنا سأسعى للإشارة لمفاهيم الاستراتيجية وتطورها وصياغاتها ومستوياتها لكى نقترب بهدوء من درجة الاستيعاب لتلك الكلمة العميقة.

 

بداية ارتبط مفهوم الاستراتيجة قديما بالمجال العسكرى فقط، واجتهد المفكرون فى تعريفاتهم للاستراتيجية، فعرفت بأنها فن إعداد ووضع الخطط العامة للحرب، إلى أن تبنى الجنرال الفرنسى "آندريه بوفر" تعريفاً أخرج مفهوم الاستراتيجية من إطارها العسكرى بأنها فن وعلم تطوير استخدام القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية للدولة بصورة منسجمة مع توجيهات السياسة العامة بما يحمى المصالح القومية.

وقد تناولت العديد من الجهات الرسمية مفهوم الاستراتيجية من وجهة نظرهم، فعلى سبيل المثال يعرّف البنتاجون الاستراتيجية بأنها "فكرة أو مجموعة أفكار حكيمة من أجل توظيف أدوات القوة الوطنية بطريقة منظمة ومتكاملة، لتحقيق أهداف محددة بمسرح العمليات وأهداف وطنية أخرى".

وتقوم الاستراتيجية فى مفهومها على ثلاثة بنود:

الأول: ينطوى على تعريف دقيق لمجموعة المصالح الوطنية فى النسق الدولي.

الثاني: يحدد مجموعة التهديدات الكامنة والمحتملة والقائمة التى يمكن أن تؤثر على المصالح الوطنية.

الثالث: الوسائل الواجب استعمالها لتحقيق المصالح والغايات الوطنية من جهة، ومجابهة التهديدات التى تستهدف هذه المصالح من جهة أخرى، والوسائل التى تسعى الاستراتيجية لتعبئتها ولا تتوقف على القوة العسكرية بل تعمل على توظيف متكامل منهجى لعناصرالقوة الشاملة للدولة.

وذلك يمكن تبسيطه فى أن الوسائل ينبغى أن تخدم الغايات الاستراتيجية التى تفيد فى تحقيق الأهداف السياسية الوطنية.

 

وقد تطور مفهوم الاستراتيجية، حيث بدء الإدراك بالمفهوم الواسع للاستراتيجية من خلال ارتباطها بشكل مباشر بالسياسة العليا للدولة، فالاستراتيجية اليوم أصبحت حاضرة كصيغة ملازمة لوجود الدولة فى أوقات السلم والحرب على حد السواء، حيث عرفت بأنَّها: علم وفن استخدام الوسائل والقدرات المتاحة فى إطار عملية متكاملة يتم إعدادها والتخطيط لها، بهدف خلق هامش من حرية العمل يعين صناع القرار على تحقيق أهداف سياستهم العليا فى أوقات السلم والحرب.

وعليه يمكن الوصول إلى أنَّ الاستراتيجية هى علم وفن تعبئة قوى الدولة سياسياً وعسكريا واقتصاديا ومعنويا لتحقيق أهداف السياسة العليا فى السلم والحرب، وفى المجال الأصلى لها وهو المجال العسكرى هى علم وفن يختصان فى إدارة الحرب والاعداد لها وقيادة الصراع المسلح مع العدو، فهى جزء من فنون الحرب وتخطيط وتنفيذ عملياتها على المسرح الحربي، وفى إطار أشمل هى فن وضع الخطط واسعة الأفق وتعبئة الوسائل لتحقيق الأهداف المنشودة.

إن صياغة الاستراتيجية تجمع بين الفن والعلم. كما تعد ساحة للعبقريات النادرة، حيث يتوصل القادة الموهوبون بفعل حدسهم إلى حلول عظيمة لقضايا معقدة بشأن السياسة الخارجية والحرب.

 

ويعد غرض الاستراتيجية كما تناوله العديد من المفكرين ترجمة للغرض السياسى (الغاية والمصالح والأهداف الوطنية للدولة) إلى تأثيرات استراتيجية تشكل البيئة الاستراتيجية على النحو الأمثل. وهى شاملة فى نطاق رؤيتها ومحددة فى حقل تنفيذها. فالاستراتيجية تعنى بالمستقبل وتحليل المشكلات وتجنبها من خلال تقويم دقيق للبيئة الاستراتيجية لتحديد وانتقاء العوامل الاستراتيجية الأساسية، التى يجب أن تعالج لخدمة مصالح الدولة بنجاح. ومن خلال تحليل هذه العوامل وتقويمها، فإن الاستراتيجية تنتج بياناً معقولاً يتضمن الغايات والطرائق والوسائل التى تخلق تأثيرات تؤدى للمستقبل المنشود فى إطار من المرونة والقدرة على التكيف مع المتغيرات المحتملة.

واتفقت العديد من الأدبيات السياسية على تقسيم مستويات الاستراتيجية إلى ثلاثة هي:

أولاً: على المستوى القومى (الاستراتيجية الشاملة، العليا)

وهى أساس توجيه موارد الدولة لتحقيق الأهداف القومية المرجوة، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الأمن القومى، باعتبارها أداة لتحقيق أهدافه، وفى مقدمتها الحفاظ على بقاء الدولة فى إطار من الاستقلال والكرامة الوطنية، والتكامل الوطنى، وصياغة المؤسسات والقيم الرئيسية للمجتمع، كما تعنى باستخدام كل قوى الدولة لتحقيق الأهداف القومية، إذن هى عملية توجيه الاستراتيجيات المختلفة الداخلية والخارجية (السياسية والاقتصادية والدعائية والدبلوماسية العسكرية،..إلخ) والتنسيق بينها بهدف تأمين الأمن القومى للدولة سلماً وحرباً.

وتمثل أهداف الأمن القومى الإطار العريض الذى تنطلق منه الاستراتيجية القومية للدولة بقصد تحديد الأساليب والأدوات لتنفيذ الأهداف الموضوعة. تعد الاستراتيجية على المستوى الوطنى أو الشامل هى الرؤية الاستراتيجية المتكاملة.

 

ثانياً: المستوى الفرعى:

الذى يركز على أحد جوانب المجتمع ويسعى لتحقيق أهداف الاستراتيجية القومية فيه، فالاستراتيجية العسكرية مثلاً تركز على جانب استخدام القوى العسكرية أو التهديد باستخدامها لتحقيق الأهداف، وعلى هذا الأساس إذا كانت الاستراتيجية القومية تركز على توظيف مصادر القوة الشاملة لتحقيق أهداف القومية، فإن الاستراتيجية الفرعية (التخصصية) تعنى باستخدام جميع الإمكانات المتوافرة فى كل فرع من الأفرع التى تتألف من مجموعها القوة الشاملة للدولة.

 

ثالثاً: المستوى النوعى (القطاعى):

فى كل مجتمع تتبلور عدة استراتيجيات تتناول القطاعات المختلفة داخله، وتسعى إلى تحقيق الأهداف التخصصية لكل قطاع والتى تصب فى إطار تنفيذ الاستراتيجية الخاصة بالفرع ككل، فعلى سبيل المثال تضع استراتيجية التنمية الاقتصادية الإطار العام للتطور الاقتصادى بالمجتمع، وفى هذا تبرز عدة استراتيجيات قطاعية مثل استراتيجية التصنيع والإنتاج أو الزراعة وغيرها. والتى تهدف جميعها إلى تحقيق أهداف الاستراتيجية الاقتصادية للدولة.

 

إن النظر إلى هذه المستويات يوضح حجم التطور الذى وصل إليه مفهوم الاستراتيجية، حيث أصبحت ضرورة جوهرية للممارسة السياسية السليمة نظراً لارتباطها الوثيق بتحقيق أهداف الدولة، من خلال التوظيف الرشيد والفعال للموارد والإمكانات المتاحة فى تحقيق الأهداف، إلا أنه ينبغى أن يكون واضحاً أن عملية وضع الاستراتيجية السليمة لا يمكن أن يتحقق ارتجالاً أو عشوائياً ولكنه يتطلب الالتزام بالأسس العلمية والعملية ابتداء من دراسة الوضع القائم على ضوء الأهداف الموضوعية، ومروراً بتحديد البدائل فى مجال معين والتكلفة النسبية لها وانتهاءً ببلورة أساليب العمل والممارسة لتحقيق الهدف المنشود.

 

وختاماً يجب على جميع أطياف المجتمع الإدراك الكامل لمفهوم الاستراتيجية والتى يمثل الشعب فيها الدور المحورى لتنفيذها فى كل مستوياتها وأبعادها المختلفة، ومن هنا أقترح على الجهات المعنية ضرورة تدريس مادة الاستراتيجية فى المراحل التعليمية المناسبة خاصة الثانوية والجامعية لإعلاء الهوية الوطنية ومعرفة الأجيال القادمة لماهية دورهم فى الحفاظ على الأمن القومى للدولة.

استشارى الأمن الإقليمى والدولى