أول مرة رأيت فيها المشير محمد حسين طنطاوي كانت في عام 1991, كنت وزملائي المحررون العسكريون داخل طائرة عسكرية خاصة أقلعت من مطار حفر الباطن في طريقها إلى القاهرة كما أبلغنا ضابط الشئون المعنوية المرافق لنا, فجأة أخبرونا أن الطائرة ستطير إلى مطار جدة أولا لإحضار أربعة لواءات سيكونون معنا في رحلة العودة إلى البلاد.
في مطار جدة انتظرنا حتى صعد اللواءات الأربعة، اللواء عمر سليمان مدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع، اللواء نيازي السعيد مدير إدارة الخدمات الطبية، واللواء محمد أحمد بلال أول قائد للقوات المصرية المشاركة في حرب تحرير الكويت، أما اللواء الأخير فكان محمد حسين طنطاوي رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة.
كنت أعرف اللواءات عمر سليمان ونيازي السعيد ومحمد أحمد بلال، ولكن هذا اللواء الأسمر الطويل كانت المرة الأولى التي أراه فيها، سألت صديقي رحمه الله جمال كمال المحرر العسكري المرموق الذي كان يجلس إلى يميني وكنت واثقاً أنه بالتأكيد يعرفه نظرًا لخبرته الطويلة كمحرر عسكري لجريدة الجمهورية "ده اللواء محمد حسين طنطاوي رئيس هيئة العمليات.. فعلقت هامسا: يعني راكب معانا على الطيارة القيادة رقم 3 في القوات المسلحة بعد وزير الدفاع ورئيس الأركان".
قبل أن يتولى رئاسة هيئة العمليات كان اللواء طنطاوي قائدًا للجيش الثاني، وفي عام 1988 اختاره الرئيس حسني مبارك ليكون قائدًا لقوات الحرس الجمهوري المسئولة عن تأمين وحراسة الرئيس ومسكنه وكل أسرته.
لم يكن اللواء طنطاوي سعيدًا أبدًا بذلك المنصب بالقرب من رئيس الجمهورية، وكان يقول لمن يثق بهم مثل د.مصطفى الفقي مدير مكتب الرئيس مبارك للمعلومات “أنا إيه اللي جابني هنا من قيادة الجيش الثاني ؟!”.
لم يستمر اللواء طنطاوي في رئاسة هيئة العمليات سوى فترة أقل من العام، وبعد انتهاء حرب تحرير الكويت قرر الرئيس مبارك تصعيده بتعيينه وزيرًا للدفاع خلفًا للفريق أول يوسف صبري.
كان المشير طنطاوي قائدًا ماهرًا في الحياة العسكرية، ملتزمًا ونظيف اليد، ولم يتورط في أي فساد سواء سياسي أو مالي أو استغلال نفوذ، منضبطًا لأقصى الحدود حتى أنه عندما تأخر عليه سائقه ذات يوم عشر دقائق.. أمر بحبسه.
أتذكر أنني كنت ذات يوم أغطي افتتاح المشير طنطاوي لعملية تطوير تمت على أعلى مستوى بمستشفى كوبري القبة، وأبدى المشير إعجابه بذلك، وحين قال الضابط الذي تولى تنفيذ ذلك التطوير، وكان يعمل بمستشفى المعادي العسكري، إنه أنجز هذا رغم أنه مختص بالتحاليل الطبية، قال له المشير: سيادة العميد .. خلاص.. إذا كان ده مش شغلك ارجع مكانك تاني.
في كل مشواره العسكري لم يكن اللواء طنطاوي يسمح لأحد أي أحد بالتدخل في عمله، كان معتدّا بنفسه، وقليلون من يعرفون كيف تصرف قائد الحرس الجمهوري عندما حاول ذات يوم د. زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية إصدار تعليمات لأحد ضباط الحرس الجمهوري، يومها غضب اللواء حسين طنطاوي غضبًا شديدًا عندما علم وقال بصوت غاضب “ لا أسمح لأي حد هنا - القصر الجمهوري - بالتدخل في شئون الحرس الجمهوري، ضباط وأفراد الحرس الجمهوري لا أحد غيري يمكن أن يصدر لهم التعليمات”.
كان اللواء طنطاوي أفضل المرشحين وقتها لتولي رئاسة هيئة العمليات المعروفة بأنها مخ القوات المسلحة، وبالفعل أصدر الرئيس مبارك القائد الأعلى للقوات المسلحة قرارًا بذلك لتكون مهمة مشاركة الجيش المصري في حرب تحرير الكويت أولى المهام الكبيرة التي أثبت فيها الرجل براعته واقتداره حيث تم إنجاز مهمة نقل قوات الفرقة الثالثة مشاة والفرقة الرابعة المدرعة إلى حفر الباطن مسرح عمليات عاصفة الصحراء في وقت قياسي وببراعة كبيرة شهد بها الجنرال الأمريكي الأشهر نورمان شوارزكوف قائد قوات التحالف الدولي المشاركة في حرب عاصفة الصحراء عندما حضر إلى القاهرة خصيصاً وقال أمام حشد كبير من رجال الصحافة ووسائل الإعلام العالمية “لقد كانت عملية تعبئة القوات ونقلها إلى مسرح عمليات عاصفة الصحراء عملية شاقة للغاية تمت في توقيتات قياسية، ولولا الجهد الكبير الذي بذله هذا الرجل - مشيرًا إلى اللواء طنطاوي - لواجهتنا صعوبات شديدة”.
وبعد حرب تحرير الكويت اختار الرئيس مبارك اللواء طنطاوي ليكون وزيرًا للدفاع وتم ترقيته لرتبة الفريق.
عشرون عامًا قضاها الراحل العظيم قائدًا عامًا للقوات المسلحة وزيرًا للدفاع والإنتاج الحربي، من 1991 حتى ما سمي أحداث 25 يناير 2011.
داخل كواليس اجتماعات مجلس الوزراء كان الكل ينتظر كلمة المشير، فقد كان رأي وزير الدفاع بوصلة الأمان في مستقبل الوطن، وحدث في مرات كثيرة أن كانت كلمة المشير أي رأي القوات المسلحة هي التي أوقفت قرارات أو بالأحرى صفقات حكومية كثيرة كانت على وشك الصدور لبيع شركات حكومية مهمة وخطيرة أراد بعض الوزراء من جوقة السيد جمال مبارك التخلص منها والحصول على عمولات بيع وسمسرة خاصة في عهد حكومة الدكتور أحمد نظيف.
قبل ما جرى من أحداث 25 يناير 2011 عندما ازداد نفوذ وتأثير رجال الأعمال وبعض الوزراء الذين زينوا وروجوا لفكرة أن يرث جمال مبارك والده في حكم مصر، قال المشير بالحرف الواحد للدكتور مصطفى الفقي : ده على جثتي.
وعندما تسلم المشير مسئولية إدارة شئون البلاد كانت تلك الفترة أصعب 18 شهرًا في حياة المشير طنطاوي والمجلس العسكري، ولعل أصدق تعبير ووصف لتلك المرحلة هو ما قاله الرئيس السيسي “ المشير تولى مسئولية البلاد في ظروف كانت في منتهى القسوة وكان المشير ماسك جمرة بيده خلال فترة المجلس العسكري، وأشهد أمام الله أنه كان بريئًا من أي دم في أحداث محمد محمود وماسبيرو، وأنه نجح في عام ونصف العام في تجاوز المحنة القاسية التي مرت بها البلاد”.
كان المشير زاهدًا في كل شيء ولا يحب المناصب، وحتى نعرف قيمة هذا الرجل وحجم حبه وإخلاصه للبلد علينا أن نتذكر كيف حافظ هذا القائد العسكري العظيم من أول لحظة على المؤسسة العسكرية التي حافظت بدورها على الدولة.
ولن أنسى أبدًا قولته الشهيرة إبّان لحظات المحنة المؤلمة لكل المصريين في 2011 : “ لن أسمح بسقوط الدولة المصرية مهما كلفني ذلك من الأمر”.
ليست مبالغة على الإطلاق أن نقول إنه لولا الجيش المصري القوي وقيادته الحكيمة ممثلة في المشير طنطاوي لكان من الممكن أن يكون مصير مصر مثل النهايات المؤلمة التي مرت بها من حولنا دول شقيقة مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا.
وكلنا ما زلنا نتذكر ما قاله المشير في تلك المحنة القاسية “إحنا صابرين صابرين صابرين حتى لا تكون مصر زي اللي جنبها، عاجبكم حال اللي جنبها، نحن لن نسمح بأن مصر يجرى لها حاجة”.
قالها المشير في وجود د. عصام شرف رئيس الحكومة وبعض قيادات جماعة الإخوان في ذلك الوقت، ولم يفت المشير وقتها أن يلتفت بذكائه الخارق وحدسه المتمكن للفريق سامي عنان رئيس الأركان في إشارة ذكية للغاية كشفت وقتها وقالت الكثير “مصر لن تسقط .. مصر لن تسقط.. مش كده يا سيادة الفريق”.
بقي أن أقول ولأول مرة إنني عندما شاهدت المشير طنطاوي مرتديا ملابس مدنية إبّان أحداث 25 يناير 2011 ماشيًا على قدميه في منطقة وسط البلد شعرت بدهشة مثلما شعر ملايين المصريين، ولكن صديقي النوبي الحميم منذ 55 عامًا زكريا فضل ابن قرية أبو سنبل كشف لي الأمر، لقد جاء المشير كرجل نوبي أصيل إلى جمعية أبو سنبل لتلقي العزاء في ابن عمه، ويومها قال لأهله وناسه “سامحوني.. ظروفي ومشاغلي تمنعني من الحضور إلى الجمعية باستمرار، أرجو أن تسامحونى، ولو عاوزين أى حاجة قولوا لإخواتى علي ومصطفى”.
كان المشير بارًا بأهله وأسرته، ولم يكن يمر أسبوع إلا ويذهب إلى المنزل الذي عاش فيه وتربى، المنزل رقم 14 بشارع عبد العزيز جاويش بحي عابدين، يزور والدته وأسرته وأشقاءه.