من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر, هؤلاء هم صفوة الله وخاصته, رجال بذلوا النفيس من أجل الدفاع عن بلدهم وعرضهم, أجل..وهل هناك أغلى من النفس التي بين جنبي المرء يجود بها, ومن هؤلاء الأبطال ذلك الرجل الصامت الذي كم اشتهينا أن يتحدَّث, ولكن هيهات فإن أمثال هؤلاء ما خلقوا للكلام فما هم رجال أقوال بل رجال أفعال.
في حرب السادس من أكتوبر خرجوا من عرينهم أسودا تزأر, فأنزل الله في قلوب أعدائهم الرعب, وكانت المزرعة الصينية من أروع المعارك التي سطرها التاريخ بأحرف من نور, وهذا هو المشير يتحدَّث عندما كان برتبة عميد عن تلك الملحمة الوطنية التي شهد لها الأعداء قبل من كانوا فيها, ولم يكن غريبا أن شارون داهية العدو الإسرائيلي, عندما كان في إحدى زياراته لمصر في عهد الرئيس مبارك أن يعطي التحية للمشير محمد حسين طنطاوي; ذلك البطل الذي حطَّم غروره وكبرياءه في حرب العبور العظيم.
روى المشير محمد حسين طنطاوي، القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي الأسبق، دور الكتيبة 16 مشاة التي كان يتولى مسؤوليتها في حرب أكتوبر المجيدة، مشيرا إلى أنّها من أول الكتائب التي عبرت قناة السويس، وحتى قبل العبور عبر عناصر «اقتناص الدبابات»، وهي من العناصر الرئيسية التي رفعت علم مصر قبل عبور «القوات الرئيسية».
واستشهد المشير طنطاوي في فيديو له أذاعته القوات المسلحة المصرية حين كان برتبة «عميد» بعد الحرب، بكتاب «عيد الغفران»، مشيرا إلى أنّه على بضعة كيلو مترات من قناة السويس كانت هناك معركة دائرة داخل «المزرعة الصينية» وهي موقع شرق مدينة الإسماعيلية، حيث تعثرت القوة الإسرائيلية بعد 48 ساعة من مهاجمة الموقع، لتدفع بعناصر مشاة ومظليين.
وتابع «طنطاوي»، أنّ القائد الإسرائيلي ذكر في الكتاب أنّهم قالوا إنّ وحدته تضم تحصينات مضادة للدبابات وتعيق تنفيذ مهمتهم، وتقدمت ليلا حتى بضع مئات من الأمتار، إلا أنّ وابلا من الرصاص كان في استقبالهم، والمعركة احتدمت طوال الليل، موضحا أنّ إخلاء الجرحى استمر طوال الليل، حتى أنّ فرق الإغاثة القادمة لهم تعرضت لخسائر، وعملوا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر إرسال قوة مدرعة لإخلاء من تبقى على قيد الحياة.
وعن هذه الفترة روى طنطاوي أنه كان تلك الفترة له نحو 48 ساعة لم ينم، وعندما شعر بالهدوء في الواحدة تقريبا قرر النوم قليلا، وفي الواحدة والنصف فوجئ بمن يوقظه بسبب وجود أزيز لطائرات هليكوبتر، قائلا: “أعتقد أن الموضوع سهل وطلبت زيادة المراقبة وإبلاغ القيادة الأعلى، وبعد ساعة أيقظوني لأنهم وجدوا عناصر من القوات الإسرائيلية تحاول عبور الألغام الموجودة في المواجهة”.
وتابع: “على الفور استيقظت وشاهدت في أجهزة الرؤية في مراكز القيادة أيقنت أن هؤلاء عناصر كانت بأعداد كبيرة من المشاة تحاول عبور الثغرة في اتجاه مواقع الكتيبة، وأصدرت الأوامر لكل أفراد الوحدة أن كل أسلحة الكتيبة المدفعية والهاون وجميع الرشاشات والأسلحة المضادة للطائرات وجهتها في اتجاه الثغرة، وطلبت ألا تطلق أي نيران إلا بطلقة إشارة حمراء مني أنا شخصيا”.
واستكمل طنطاوي: “بعدما اقترب العدو، أعطيت طلقة الإشارة وفتحت جميع أسلحة الكتيبة على القوات المظلية للعدو، ولذلك هم ذكروا في كتابهم أنهم لم يستطيعوا الانسحاب أو القيام بالهجوم، وجعل الضباب تركيز النيران عليهم في الصباح ليس بالكفاءة الكافية مما أمكنهم من سحب خسائرهم ومن تبقى منهم على قيد الحياة”.
وأكد أن كل همه ألا يعود ولا فرد منهم حيا إلى الموقع، وهذه واحدة من معارك الكتيبة منذ العبور في 6 أكتوبر حتى إطلاق إيقاف النيران، مضيفا: “يكفي الكتيبة فخرا أنه في عملية العبور لم تتكبد الكتيبة أية خسائر إلا شهيدا واحدا، وهو عادل بسطاروس”.
وأوضح أنّ المواجهة استمرت على مدار ساعتين ونصف الساعة، ومن حسن حظ القوات الإسرائيلية أنّ الضباب ظهر نهارا ليجعل تركيز النيران ليس بالكفاءة الكافية، ما مكنهم من سحب خسائر وبعض من تبقى على قيد الحياة، مضيفا: «كان همي مرجعش ولا فرد من اللي جم للموقع عايش».
وذكر قائد سرية في كتيبته، وهو عبدالعزيز بسيوني، والذي طالبه يوم 14 أكتوبر وقت احتدام المعركة، وقال له: «عد الدبابات»، ليقول: «معنديش وقت أعدها»، ليرد بأنّه سيعاونه بالمدفعية، و«مش عايز دبابة تعدي»، ليرد: «متخافش يا فندم، لن تعبر دبابة من خلفي إلا على جثتي و100 واحد معايا».
بطولة بشهادة الأعداء
ذكر إيان وينر، مسعف ميدانى إسرائيلى عن معركة المزرعة الصينية: “كنت أرى الطلقات تسقط في الليل ولكن لا تصل إلى المكان الذى من المفترض أن تصل إليه، ونرى سواتر ترابية تتصدى لطلقاتنا النارية، وهكذا أرسلونا لمواجهة جيش أكثر تنظيماً منا بكثير”، وتابع: “كل هذا يحدث أمامك في ليلة واحدة يا لها من صدمة”.
وفى السياق ذاته، أهارلى تويب، ضابط ناج من معركة المزرعة الصينية، يروى خلال الفيلم الوثائقى “وثائق النصر”، الذى يذاع على قناة “cbc” كيف وقعوا في فخ المقدم محمد حسين طنطاوى ومزقتهم قذائف الجيش المصرى، قائلاً: “لقد مرت علينا مركبات المجموعة وهى مكتظة بالجنود وأراد بعض رجالى وليس كلهم أن يرافقوهم إلا أننى أجبرتهم على البقاء في عربتنا كما هم”.
ويعلق ميخا بن عازى، قائد كتيبة عمليات خاصة: “لقد نقلنا إلى منطقة القناة وهناك دارت المعركة الكبرى للمدرعات وكنا أثناء المعركة نقف في انتظار إعطاء أمنون الأمر لنا”.
ووفق الفيلم الوثائقى، قال ناتالى نهارى، قائد كتيبة مظلات: “تسرعنا فى دخول المنطقة، وتبين لنا فيما بعد أنه خطؤنا الأول كوننا كنا نعتقد أننا سنعبر بكل سهولة، وهكذا كانت المعلومات أن تلك النقطة خالية من الأعداء، وفهمنا أن الأمر كله ليس من أجل تمشيط المنطقة ولكن من أجل أن ندافع عن حياتنا”.
تحدث يورام نهاري يانو قائد كتيبة مظلات في الحرب، عن أفضلية جاهزية الجنود المصريين على الجنود الإسرائيليين خلال الحرب قال:” كان كل جندي مصري مجهز بصورة كاملة وأفضل بكثير من أي جندي مظلي إسرائيلي”.
وأكد كلام نهاري يانو، نافاتلي هداس طبيب ميداني بالحرب موضحًا:”كان هناك قوات مشاة مصرية مزودة بأسلحة مضادة للمدرعات، أحرقت كل الدبابات الإسرائيلية”.
واستعرض الفيلم الوثائقي تسجيل صوتي لأحد الجنود وهو يستنجد بقادته طلبًا للمساعدة يصرخ قائلًا “الرصاص يتطاير علينا من كل مكان أنا لا أستطيع رفع رأسي.. أرسلوا المساعدة الآن”.
عزز التسجيل الصوتي السابق، شهادة المسعف الميداني إيان وينر قال:”أذكر أنه من بين كل جرحى الانفجارات جاء جندي مدرعات تعرفت عليه في وقت لاحق واكتشفت أنه كان أحد تلامذتي منذ 3 سنوات وقال وهو يبكي إنها المرة الثانية التي يصاب فيها وأنهم يفرون من المعركة بسبب هول الانفجارات”.
ونشر موقع «كيبوريم» الذى أُنشئ خصيصا لجنود الجيش الإسرائيلى، ليرووا حكايات المعارك والأسر فى حرب أكتوبر على الجبهتين المصرية والسورية، تلك الرواية للمؤرخ العسكرى الإسرائيلى «أورى ميليشطاين»، كان مرافقا للقوات المظلية الإسرائيلية في معركة المزرعة الصينية، ويقول ميليشطاين في روايته: “شاركت فى حرب يوم الغفران (6 أكتوبر 1973) كمؤرخ لسلاح المظليين، وخلال المعارك وإلى جانب أدائى لعملى كمؤرخ عسكرى، فقد عملت ممرضا. بدأت معركة المزرعة الصينية بالنسبة لى يوم الثلاثاء 16 أكتوبر 1973عندما قرر طبيب اللواء 35 أن يخرجنى من المجموعة الطبية التابعة للدكتور إفرايم سينيه، التى اتجهت إلى المزرعة الصينية، وعهد إلىَّ ــ رغم اعتراضى الكبير ــ بتجهيز العتاد الطبى الثقيل، وأن أتوجه معه بمركبة خلف القوات المتجهة للمعركة. كان هذا القرار خاطئا؛ لأن العتاد الطبى كان غير متوافر فى المزرعة الصينية، بعد أن أصيب كثير من المظليين. تمكنا نحن الثلاثة وبعض المظليين الآخرين الذين بقوا فى المؤخرة من رفع العتاد الطبى على ظهرنا فى طريقنا إلى المزرعة الصينية، وفى فجر يوم 17 أكتوبر وصلنا بالعتاد الطبى إلى المستشفى الميدانى الموجودة فى منطقة «عكافيش 52» على الخريطة الشفرية «سيروس»، والتى تعرضت لقصف بالمدفعية وصواريخ الكاتيوشا المصرية، كتبت فى يومياتى: الحرب هنا الآن. نحن على مسافة كيلومترين من خطوط المصريين، يأتى إلى هنا دون توقف كثير من القتلى وعشرات الجرحى، حيث تخليهم طائرات مروحية كبيرة،
وعربات إسعاف عسكرية، ومركبات مدنية أعدت لهذا الغرض. كان الأطباء والممرضون مشغولين فى عملية الإنقاذ، ضجة كبيرة تحدثها الدبابات والمدرعات وسيارات الجيب المتجهة إلى الغرب. قابلت من بين الجرحى الدكتور موشيه برناط الذى نقل لى تفاصيل أولية عن المعركة.
ويكمل كلامه: بعد يومين من وقف إطلاق النار تحدثت لأول مرة مع حازاى دحبيش فى نقطة حصينة تقع فى أقصى شمال فرقة شارون بالقرب من الإسماعيلية، لم أستخدم معظم المواد التى جمعتها حتى اليوم لأسباب سأوضحها لاحقا، وهذه أول مرة استخدمها. اتضح لى أن دحبيش قرأ كتابى «حروب المظليين» الذى صدر بعد حرب يونيو 1967، وبتأثير هذا الكتاب تطوع دحبيش فى سلاح المظليين إلى جانب آخرين. كان سعيدا بمقابلتى، وأوضح لى، بانفتاح غير معهود لدى الضباط المظليين مآخذه على المعركة. كان يعتقد أن مردخاى أخطأ عندما تقدم مع الكتيبة 890 فى انتشار أفقى، وكان عليه أن يبعث فى المقدمة فصيلة دحبيش التى ستصطدم أولا بالمصريين، وهذا الصدام كان سيمكن الكتيبة من التنظيم على نحو أفضل بكثير، ويقلل من خسائرها. وصف لى دحبيش المعركة التى خاضتها الفصيلة لمدة 18 ساعة، وتسمع فى ثنايا وصفه انتقادا لمردخاى قائد الكتيبة، انتهزت الفرصة فى جمع شهادات من دحبيش ومن جنوده الذين حاربوا 18 ساعة متواصلة فى المزرعة الصينية.
وبعد شهر من انتهاء الحرب بدأت أنشر فى العدد الأسبوعى لصحيفة «دافار»، بناء على طلب رئيس التحرير إيهود زمورا، سلسلة من خمسة تقارير تحت عنوان «قوائم من ساحة المعركة»، كان عنوان التقرير الأخير: «من المزرعة الصينية إلى عبور القناة» وعرضت فيه مسار الأحداث فى معركة المزرعة الصينية، وانتقدت عيوبها على جميع المستويات والتى أدت إلى مقتل 38 مقاتلا من الكتيبة 890، وإصابة ما يزيد على مائة مقاتل يضاف إليهم القتلى والجرحى من كتيبة إيهود باراك، ومن وحدات أخرى حاربت على تلك الجبهة فى ذلك اليوم. وبعد نشر سلسلة التقارير وخاصة قصة معركة المزرعة الصينية قاطعنى لواء المظليين، ولم استدع للاحتياط، ولم توجه إلىَّ الدعوة باعتبارى مؤرخا للواء المظليين إلى العمليات والأبحاث التى يعقدها اللواء مثلما كان الأمر طوال 14 عاما وحتى ذلك الوقت.
توجهت إلى القائد الجديد للواء آريه تسيدون «تسيمل»، وطلبت منه توضحيا، قال لى إن نائب قائد اللواء الجديد إيتسيك مردخاى قرر إبعادى عن المظليين بسبب ما كتبته، سألنى تسيمل بابتسامة تغلف اعتذاره: هل تعرف إيتسيك؟ عندما يغضب لا يمكن معارضته، قلت له ولكنك قائد اللواء، والمظليون ليسوا ملكا شخصيا لإيتسيك مردخاى، فعاجلنى بالقول: أورى! لن أدخل فى صدام مع إيتسيك فى هذه المسألة، انتهى النقاش، وتركت سلاح المظليين بعد 14 عاما من الخدمة.
لقد بدأ عصر إيتسيك مردخاى فى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، توجه إلى أفنير شاليف الذى كان ضابطا كبيرا فى سلاح التعليم فى الجيش، وطلب منى أن أبتعد عن هؤلاء الهمج، وأن أؤدى خدمة الاحتياط فى سلاح التعليم فى الجيش، استجبت لطلبه، وبعد بضع سنوات اكتشفت أن هؤلاء الهمج جزء من هيئة التعليم فى الجيش، حيث تم تجاهلى هناك أيضا، لكن تلك قصة أخرى”.
وذكر أحد المشاركين من الجانب الإسرائيلي: “لم تكن معركة المزرعة الصينية التى خاضتها الكتيبة 890 أشهر معركة فى حرب يوم الغفران وربما فى حروب إسرائيل عموما فحسب، بل هى المعركة التى تعتبر رمزا لحرب الغفران أكثر من أى معركة أخرى فى تلك الحرب، ورمزا إلى مسار انهيار الجيش الإسرائيلى حتى اليوم: الفشل الاستخبارتى، والفشل العملياتى، والقصور النظرى، والتقصير فى بناء القوة، وإخفاء العيوب، وعدم استخراج العبر. كانت أسطورة المزرعة الصينية هى الطريق الذى جرت عليه المسيرة المهنية لأمنون ليبكين شاحاك، وإسحاق مردخاى، لقد ساعدهم عدم الكشف عن أوجه القصور فى المعركة كثيرا مثلما ساعد ذلك أيضا إيهود باراك.
أرسل المظليون إلى المزرعة الصينية من أجل فتح محور طرطور لنقل الجسر المتحرك الذى أعد لعبور قناة السويس، ذلك الجسر السرى الذى كان من المفترض أن يكون ورقة الجيش الإسرائيلى الرابحة فى حرب يوم الغفران. وخلافا للخطط المعدة مسبقا لم تخزن مكونات الجسر على بعد 3 كيلومترات من القناة، ولكن على بعد 17 كيلومترا، أما سرية إيلى جيفع التى تدربت طوال عام كامل على سحب الجسر فكانت تحارب فى ذلك الوقت فى هضبة الجولان، ولم يجهز أى محور موثوق لسحب الجسر الذى يبلغ وزنه 700 طن. عندما خرج شارون وفرقته لعبور القناة، فإن عملية نقل الجسر نفذها جنود الاحتياط ما أدى لقطع الجسر عدة مرات بسبب افتقارهم للتدريب.
فى المرحلة الأخيرة سحبوا الجسر على محور طرطور الذى يمر بالمزرعة الصينية، وعندما أصبحوا قبالة القوات المصرية تركوا الجسر وانسحبوا، وفى ليلة عبور القناة أرسل شارون قوات لفتح محور طرطور، وفى هذه العملية قتل كثير من محاربى كتيبة الاستطلاع التابعة للواء المظليين بقيادة ناتان شونارى.
وفى اليوم التالى للعبور تواجدت غرب قناة السويس قوات صغيرة من المظليين والمدرعات، طلب شارون نقل قوات كبيرة على ظهر القوارب الموضوعة فى القناة، واستغلال المفاجأة والهجوم على القوات المصرية بكل قواته. لكن قائد الجبهة حاييم بارليف أمره بعدم التقدم، بل إنه فكر فى إعادة شارون إلى الضفة الشرقية للقناة؛ لأنه لا يوجد شريان لوجيستى للضفة الغربية، وهذا هو الموضوع الرئيس الذى دارت حوله «حرب الجنرالات» بين شاورن وحاييم برليف، وبين دافيد إليعازر وأفراهام أدان بعد الحرب. كان لهذه الحرب أيضا آثار سياسية، وزادت من العداء تجاه شارون من قبل أولئك الذين لم يعرفوا الحقائق، ولم يفهموا ما عرفوه.
من أجل فتح طريق لمرور الجسر وإنقاذ الخطة الأصلية لعبور القناة والمعروفة باسم «أبيرى ليف» تقرر القيام بعملية إبرار للواء المظليين 35 إلى المنطقة. وكان اللواء مكونا من القيادة ومن الكتيبة 890، وقبل ظهيرة 16 أكتوبر نقل المظليون بطائرات ومروحيات إلى جبهة القناة. تلقى القادة التعليمات من قائد الفرقة 162 الجنرال أفراهام أدان ونائبه العميد دوف تامارى وأعضاء الأركان فى القيادة، وأبلغ القادة أن على المظليين التقدم على طول محور طرطور، وتصفية خلايا صيادى الدبابات المصريين، وإخلاء الطريق لجسر العبور.
لكن صيادى الدبابات كانوا من الفرقة 16 المصرية التى ألحقت خسائر فادحة بقوات شارون فى نفس المكان، وبحسب رواية جيل دافيد ضابط العمليات فى اللواء 35، فقد التقى فى ذلك اليوم مع صديقه فى الكيبوتس ناتان شونارى الذى أخبره أن كثيرا من جنوده قتلوا فى الليلة الماضية، وأن آخرين تعذر إخلاؤهم من ساحة المعركة وأنهم تركوا على قيد الحياة. ويروى جيل دافيد أنه أخبر أفراهام أدان بذلك خلال نقاش تفاصيل العملية، لكن تامارى طلب منه مغادرة المكان حتى لا يزعجهم.
خلال العرض الخاص لفيلم المزرعة الصينية «رشومون» كشف لى جيل دافيد وثائق سرية من تلك الفترة تؤكد صحة كلامه، لكن ضابط الاستخبارات فى لواء المظليين أنكر خلال محادثة هاتفية معى رواية جيل دافيد، لكنه أقر أنه رأى بعد الحرب صورا جوية التقطت قبل يوم من المعركة تشير إلى وجود قوات مصرية كبيرة فى الجبهة، وقال تسوريف: كانت هناك معلومات استخباراتية لكنها لم تصل إلى القوات، ومهما يكن الأمر فقد أرسل المظليون لتصفية بعض خلايا صيادى الدبابات المصريين فى المكان الذى كان موقعا محصنا للعدو.
خرج المظليون إلى المزرعة الصينية دون استعداد قتالى، وانتشار للقوات على طريقة البحث عن طفل مفقود، ودون ضابط توجيه مدفعية، مؤمنين بأن شيئا لن يعوقهم حتى يصلوا فى نزهتهم إلى قناة السويس، وفى الطريق فتح جندى المذياع ليستمع إلى الموسيقى (مثلما اعتاد أن يفعل ذلك أعضاء البلماح عندما كانوا فى طريقهم من القدس إلى هار طوف لتحرير الطريق 35 ) وما إن أصبح المظليون فى مواجهة المصريين تعرضوا لإطلاق نارى عنيف، وأصيب كثير منهم، عندها توقفت القيادة عن أداء مهامها، وحاربت الوحدات من أجل البقاء أحياء.
ومن ناحية أخرى رفضت قيادة الجبهة السماح للمظليين بالانسحاب، وكان سبب الرفض أنه خلال المعركة تم الدفع على محور عكافيش المفتوح بقافلة تحمل جسر الطوافة بقيادة دوف تامارى إلى قناة السويس. ومع ذلك لم يرسل المظليون فى مهمة ليكونوا بمثابة عازل بشرى بين المصريين والقافلة الناقلة للجسر، وفى الواقع قرر برليف استغلالهم وقودا للمدافع.
ومع بزوغ الفجر، وبينما كان المظليون يبادون، أرسلت كتيبة مدرعة بقيادة إيهود باراك من أجل إخلاء محور طرطور. أصيبت بضع دبابات بصواريخ مصرية، وقرر باراك التراجع إلى الخلف، لكن مدرعات الكتيبة أنقذت طوال اليوم جرحى المظلات، وكثيرا من الجنود الذين لم يصابوا. وكانت هذه عملية الإخلاء الوحيدة التى تمت بعيدا عن فصيلة درور دحبيش.
وبعد المعركة نسيت المهمة الأصلية التى أرسل المظليون من أجلها، وفى 19 أكتوبر وصل الجسر المتحرك إلى قناة السويس، كتبت فى يومياتى آنذاك: “نجح المصريون فى إقامة جسور خلال 45 دقيقة، بينما لم ننجح نحن فى عمل ذلك خلال يومين. حقا لقد تغيرت نسبة الكفاءة بيننا وبين أعدائنا”.
ختامًا يجمُلُ قوله، إن المشير طنطاوي رجل أدَّى الأمانة في هذه الحرب بشكل يفوق الوصف، وأن يشهد له أعداؤه بهذه الكلمات العطرات لهو أكبر فضل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.