في يناير 2011, خرجت جموع من المواطنين تطالب الرئيس الأسبق حسني مبارك بالرحيل عن حكم البلاد, وفي مساء 28 يناير أعلنت حالة الطوارئ واستدعيت القوات المسلحة للنزول إلى الشارع للتأمين وحماية المنشآت الحكومية والحيوية بعد الانتكاسة الشرطية صباح وظهر يومها, استمرت الاحتجاجات قرابة 18 يوما متصلة بلا انقطاع, كانت الأوضاع تسير بشكل دراماتيكي متسارع ناحية النهاية, وكان أي هاوي في قراءة التاريخ يستطيع أن يستشرف المستقبل, أن النظام السياسي قامت قيامته ولا ينتظر إلا أن يُدفن فقط; وبالفعل وفي يوم 11 فبراير خرج نائب رئيس الجمهورية "عمر سليمان" ببيان رسمي عرف إعلاميًا "بيان التنحي" كلّف فيه الرئيس المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي - وزير الدفاع وقتها - بإدارة شئون البلاد, وتولي السلطة السياسية بشكل كامل ورسمي بعد إقالة الحكومة وحل مجلسي الشعب والشوري المنتخبين.
مصر على محك التفكك
في المقدمّة السابقة تبدو الأمور أنها قد مرّت بسلاسة وبشكل طبيعي يبلغنا ما قد وصلنا إليه الآن بفضل القائمين على السلطة وقتها من المشير طنطاوي ومعه أعضاء المجلس العسكري، ولا تُنبئ لمن لم يعايش هذا الواقع أن البلاد كانت على محك التفكك والانهيار فعليًا للمظاهر والأسباب التالية :
1- الغياب الكامل للنظام السياسي المرفوض شعبيًا ينسف فكرة وفلسفة الحُكم ويُهيئ الأجواء للفوضي المستمدة من الفراغ السياسي، والذي كان علي المجلس العسكري وقتها أن يقوم بالدور بسده والتكفل بأعبائه وحده دون غيره.
2- تحفظات شريحة ليست بالقليلة من الجماهير الغاضبة على "الشرطة المصرية" وهي المؤسسة الأمنية المدنية، كان يثبط عملها بشكل كبير يخلق إلى جانب الفراغ السياسي فراغًا أمنيًا، تكفلت به أيضًا القوات المسلحة في شكل أعباء جسيمة في ظل ما كان يتطلبه الأمن القومي والاستخباراتي وحماية الحدود.
3- السيولة الاجتماعية والسياسية المصاحبة لمثل تلك الأحوال الاستثنائية في تاريخ الأوطان، تقتضي أن يكون هناك تعاملا قانونيا دقيقا وحاسما يضع الأمور في نصابها الديمقراطي المفترض حصوله، ومن ثم فكما كان هناك فراغًا سياسيًا وأمنيًا كان هناك فراغًا دستوريًا وقانونيًا أنتجه الوضع الراهن، وهو ما كان المجلس العسكري الحاكم مكلّف به رسميًا؛ أن يقوم بإصدار قرارات لها قوة التشريع الرسمي الخارج من قنواته الدستورية الطبيعية.
من خلال تلك العناصر فإننا نستطيع استبيان أن دولة ما قبل يناير، قد تفكّكّت بالمعنى الفعلي ماديًا ومعنويًا، وقد انتقلت المهام التي كانت منوطة بها إلى المجلس العسكري على المستويات السياسية والأمنية والتشريعية، ولا تكمُن الخطورة في الكيفية التي كان يتعين عليه إدارة الدولة الفارغة من عناصرها الأساسية فحسب، إنما الوعي بفكرة ضرورة التعامل بحذر شديد مع الجموع التي ثارت ناحية رفض فكرة السلطة السياسية بشكل عام، وفق استخدام آليات ومفردات السلطة السياسية والتشريعية. فكان الظرف الراهن وقتها يقتضي أن يتعامل المجلس العسكري برئاسة المشير طنطاوي بمنتهى الحكمة والقوة في ذات الوقت، ألا يتهاون في حقوق المواطنين أو يسمح باجتراء فئة على أخرى، ولا سيما ما كان يطفو على سطح الأحداث من مطالب فئوية لا تنتهي في ظل الوضع الاقتصادي الحرج، إذ يتزامن مع هذه المطالب وسائل الضغط مثل: اعتصامات وإضرابات وتعطيل للمواصلات وقطع للطرق. اجتاز المجلس العسكري بوصفه أمينا على البلاد كل هذه العثرات لحين انتخاب سلطة جديدة، وذلك على مستوى الجبهة الداخلية ودولاب العمل الحكومي المعطل، ولا سيما أنه استطاع أن يحافظ على العلاقة المتينة بين الشعب والجيش بما لم يخل بهيبته واحترامه وقوته لكي يستطيع أن يستكمل مسيرته في البناء والعطاء.
النفق السياسي المظلم
كانت مهمة المشير طنطاوي ومن خلفه المجلس العسكري شاقة ليس تأسيسًا على الجانب المجتمعي فقط بمحاولات ترميمه، والوصول بسفينة الوطن إلى بر الأمان الذي يستطيع الشعب مواصلة الحياة وبشكلها الهادئ والطبيعي فحسب، إنما كان هناك من أهل الشر من يستهدف تلك المسيرة المخلصة، ألا وهُم الذئاب المسيّسة التي تتوارى خلف شعارات برّاقة تومض في عين الجماهير لاقتناص مغانم سياسية على حساب الوطن، إذ يقفون تحت مظلة كبيرة من نداءات الشرعية الدستورية وتسليم السلطة وكأنّ المجلس العسكري قد اغتصبها أو يسعى للاحتفاظ بها. ومن هذا المنطلق أطلقت على نفسها اصطلاح "القوي السياسية"، والتي لم تساهم في حل أية مشكلة أو فض اشتباك إنما كانت كمن يصب النفط فوق النار، بتأجيج مشاعر الناس وتقليبهم على ما يتخذه المجلس العسكري من قرارات، وقد ظهرت تلك القوى في أشكال متعددة منها المدنية ومنها المتأسلمة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، وبالقطع لا يعني هذا أن جميع عناصر المعادلة السياسة وقتها كان متورطًا في تلك المقايضات السياسية الرخيصة، إنما كانت السمة العامة هي الغالبة وقلة قليلة منهم التزمت جانب الصالح العام وعانت كثيرًا، وتلك الشخصيات النادرة هي التي لم يلفظها الشعب في الفترات التالية بعدما تم الكشف عن الجانب الشائه في تلك الوجوه الذئبية المتوارية والتي ألف الناس رؤيتها بشكلها المثالي المزعوم. وبناء على ذلك فإن حركة يناير على عفوية ما نادت به الجموع الغاضبة من تردي الأحوال السياسية والاجتماعية إبان 2011، لم تكن بريئة تماما من كل الاتهامات والشكوك التي تحوم حولها، وشأنها في ذلك شأن كل الثورات التاريخية التي تبدأ في طور الميلاد حتى تكتمل باسترداد الشعب لوعيه وقيامه بثورته الكاملة.
المشير.. والحفاظ على مصر
عادةً ما يتمتع القادة العسكريين بالقدرة على التعامل شتى الميادين، وفقا لما يتلقوه من تدريبات وتهيئة نفسية لإدارة الأزمات في ميادين الحرب، ولا تنفصل تلك القدرات المكتسبة في الحرب عنها في الساحة المدنية التي تتعلق بالسياسة المجردة، وقد تجلى ذلك الأمر في القدرة والاقتدار الذي أدار به المشير طنطاوي رحمه الله شئون البلاد، فقد تحمل المسئولية في وقت دقيق كانت فيه عوامل الانهيار عديدة وعصية على السيطرة. رغم ما كان يحدق بالوطن من حصارات عديدة تمثلت في وضع اقتصادي خانق، انفلات أمني محقق، أزمة دستورية وقانونية محتملة، غياب لمؤسسات الدولة وتعطُل لكل أجهزتها ومؤسساتها المدنية الفاعلة، قوى ظلامية تدعي سياستها وتطلق شعارات مزعومة تسعى للنيل من استقرار الوطن. تمكن المشير طنطاوي بحكمة السياسي واقتدار العسكري النبيل أن يخطو خطوات ثابتة نحو تحقيق المسار الديمقراطي لمصر، وبالفعل نجح في ذلك بإخلاص وأمانة من النوايا وتسليم السلطة في 30 يونيو 2012 وكان القائد العسكري الذي لم تغيره السياسة، غير أن كان للإخوان رأي آخر بعدما تسلموّا زمام السلطة ليعكسوًا ما كان يدور في ضمائرهم ليرتد عليهم الشعب وهو صاحب الحق الأصيل في السيادة لتكتمل الثورة وتتحقق بشكلها الأصيل في 30 يونيو، تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي.