منذ أيام قليلة ذرفت مصر دموعها الغزيرة على واحد من أهم رجالها البواسل وصناع التاريخ المجيد لجيشها النبيل هو المشيرمحمد حسين طنطاوي والذي تصدرت مواقفه الوطنية الحاسمة عناوين الأخبار في العالم كله وذلك عندما أخذ على عاتقه مهمة صعبة بل شبه مستحيلة وهي الخروج بمصر من أنياب الإخوان المسلمين وقياداتهم الإرهابية فقام على رأس جيش مصر باحتضان ثورة لشعب لم يجد من يحنو عليه .
ووجدتني أندفع إلى دفتر مذكراتي لأستعيد تاريخا شخصيا ووطنيا في نفس الوقت فبدأت بالصفحة التي سجلت أحداث يوم 9 يونيه 1967 وكنت طالبة بالسنة الأولى بكلية الآداب بجامعة القاهرة.
الزمان الخامسة مساء 9 يونيه 1967 والزعيم الخالد جمال عبدالناصر يبدأ خطاب التنحي التاريخي عن منصبه كرئيس للجمهورية.
ولم أنتظر حتى ينهي الزعيم خطاب التنحي في 9 يونيه 1967 ووجدتني أهرول لارتداء ثيابي بسرعة لأنضم لصفوف الجماهير الثائرة الرافضة لقراره بالتنحي عن الحكم وتحمله المسئولية كاملة عن نتائج حرب الأيام الستة.
ووجدتني أصطدم بصديقتي وزميلة الدراسة التي تسكن الدور العلوي من منزلي وهي تسرع إلى الشارع معي وتصرخ معي ومع الناس:" لا يا ريس لا تتركنا" وصحت بها: لماذا ارتديت ثيابك العسكرية يا "نجاح"؟ فردت وهي تندفع إلى شارع رمسيس بالعباسية حيث كان بيتنا: زي ما انتي لابسة الكاكي ولا مش واخدة بالك؟ ونظرت لثيابي لأكتشف أنني أرتدي ثياب التدريب العسكري مثلها.
وفوجئنا بصوت كوكب الشرق أم كلثوم وهي تهتف بصوت باك في الراديو بالمقهى المجاور: قم واسمعها من أعماقي فأنا الشعب ...ابق فأنت السد الواقي لمنى الشعب."
واستجاب الزعيم لنداء الجماهير وأعلن تراجعه عن قرار التنحي في التاسعة مساء اليوم التاريخي الذي شاركتنا فيه شعوب الأمة العربية التي خرجت إلى الشوارع في دمشق وبيروت والخرطوم وطرابلس وتونس والجزائر..
وعدنا إلى الجامعة لنستأنف الدراسة في أعقاب معركة رأس العش التي كبدت من الهزائم ما جعله يرتبك
ويفيق من أوهام نصر يونيو الزائف ليفيق على هزيمته المنكرة في رأس العش، وليبدأ الصهاينة معاناتهم في حرب استنزاف طويلة أذاقهم فيها الجيش المصري الباسل خلال السنوات الست التالية مرارة الهزيمة اليومية التي دفعت رئيسة وزرائهم جولدا مائير وموشى ديان قائد جيشهم إلى تغيير قوانين التجنيد للكيان الصهيوني المسمى إسرائيل".
حيث يؤكد جوزيب كافوريو في كتابه الموسوعي الصادر في 2010 "علم الاجتماع العسكري" أن قوانين التجنيد قد أعلنت مد مدة التجنيد للجندي الإسرائيلي حتى سن 55 سنة ويشمل التجنيد الرجال والنساء من سن 18 إلى 55 وتستثنى النساء الحوامل فقط.
وانطلقت مع زميلاتي إلى المنطقة العسكرية بملاعب كلية الزراعة بجامعة القاهرة ونحن نرتدي الكاكي لنعلن رغبتنا في ممارسة التدريب العسكري على استخدام السلاح وصناعة المفرقعات وتحدثنا مع الضباط القابعين بتلك المنطقة ولكنهم استكثروا علينا موضوع السلاح ونصحونا بالتدريب على أعمال التمريض وضرب الحقن بدلا من ضرب النار ولما ألححنا عليهم بجدية قرروا أن يعطونا الفرصة بالتدريب على مدفع بورسعيد الرشاش المسمى "كلاشنكوف" وكذلك على تركيب وتفعيل قنابل المولوتوف.
وأمضينا أسبوعا شاقا في التدريب الصعب وتزيد الصعوبة من تعليقات الضابط المدرب الذي كان يسخر من البنات ويتهمهن بالنعومة التي لا ينبغي أن يتمتع بها الجندي الخشن فالحرب ليست مغامرة أو لعبة.
وكان يتعمد المزيد من السخرية من الفتاة التي تظهر حماسا رغم أنها ترتدي نظارة سميكة لكنه فوجئ أنها استطاعت التصويب على الهدف بأربعة طلقات صائبة فصاح ضاحكا: برافو عليك" أم أربع عيون" سأوصي بدفعك إلى الجبهة مكافأة على حماسك وشطارتك.
رددت عليه قائلة : إذن عليك سيدي أن تدربني على الأهداف المتحركة لأنني لم أتدرب إلا على الأهداف الثابتة كما تعلم، فانفجر ضاحكا وهو يقول انتي أخدتي الموضوع بجد ؟!
قلت بصوت هامس: ليس معنى أنني فتاة ولن يتم تجنيدي أن لا آخذ قضية الدفاع عن المحروسة بجد.
فقد كنت شاهدة على عصر نبيل غني بالأحداث الوطنية الحلوة والمرة توحدت فيه تجربتي الإنسانية الخاصة بتجربة وطني مصر .
وشاء القدر أن أتعرف على فرع جديد من فروع علم الاجتماع الذي أدرسه في كلية الآداب بجامعة القاهرة العريقة هو علم الاجتماع العسكري عندما أخبرتني أستاذتي الدكتورة حكمت أبو زيد أول وزيرة مصرية أنها تشرف على زميلنا الذي سبقنا في التخرج عام 67 وانضم إلى الجنود ليقضي فترة تجنيده التي امتدت حتى 73 وكان أحد أبطال حرب الاستنزاف وقد قرر أن يعد دراسته للماجستير في موضوع جديد هو علم الاجتماع العسكري وعندما تساءلنا هل يمكن أن يصبح الجيش موضوعا لعلم الاجتماع ردت أستاذتي بثقة العلماء :نعم فالجيش هو" الفئة الاجتماعية الوحيدة القادرة على الفعل السياسي المنضبط "واندفعنا إلى مدرج 74 بكلية الآداب لنجد زميلنا المجند أحمد خضر وقد جلس تحيطه قلوب زملاؤه وفي مقدمتهم رفاقه المجندين وقادته من الضباط.
فوجدتني أحاول التعرف على هذا العلم الجديد ولكن على استحياء فكوني فتاة لن يمكنني من الاقتراب والاحتكاك بخير أجناد الأرض فلن أتمكن من نيل شرف الجندية أو الالتحاق بالكليات العسكرية.
وانتصر الجيش المصري في حرب السادس من أكتوبر 1973
ولم يكتفي بالدفاع عن الحدود الجغرافية والسياسية لمصر، وإنما استمر يمارس دوره التاريخي في الحفاظ على تماسك الكيان الاجتماعي وقد مثل السياج المنيع ضد التشرذم والتفكك اللذان أصابا العديد من الأمم فزالت عن الوجود وغيبتها دهاليز التاريخ.
وقد استطاع الجيش المصري الحفاظ على "الضمير الجمعي"
لشعبه فتحقق للأمة المصرية البقاء والاستمرار على مدى التاريخ فما هو المقصود بالضمير الجمعي".
نقصد بالضمير الجمعي"حالة الذوبان الفردي الأناني بطبعه
في الكيان الجمعي بصورة إيثارية يقدم فيها الفرد الهدف الجمعي للوطن على الهدف الفردي .ويختصرالضمير الجمعي مجموع القيم والعادات والتقاليد التي يعتنقها المجتمع بالإضافة إلى الدين والأفكار ونمط الحياة ...إلخ.
وتكاد المجتمعات الإنسانية أن تتفق على خاصية امتلاك الضمير الجمعي لكنها تختلف بالطبع على تحديد العناصر الأساسية لضميرها الجمعي، ويرجع ذلك لطبيعة التكوين التاريخي والديني والثقافي لكل مجتمع، وما إذا كان ذلك المجتمع أصيلا بالمعنى التاريخي أو مصطنعا بفعل سياسات وأغراض دولية..إلخ.
وبقدر وعي أفراد الشعب بمناطق القوة في ضميرهم الجمعي بقدر ما يتمتع هذا المجتمع بالحصانة التاريخية والبقاء والاستمرار بدليل أننا نشاهد بعض المجتمعات والدول "تزول"
من صفحة التاريخ لكونها قد عجزت عن تطوير وعيها الجمعي بما يحفظ عليها نضج وثبات وعيها الجمعي.
والحقيقة أن الجيش المصري قد مثل على مدى التاريخ جهاز المناعة الذي يحمي الضمير الجمعي المصري من التعرض لآليات التفكيك التي تعمل على هدم المجتمع بفعل انتشار قيم الأنانية والتراخي والعزلة والتوقف عن شحذ الحس الوطني، ويثبت الهوية في ذاكرة الأفراد.
فإذا افترضنا أننا نتوزع على خريطة افتراضية للضمير الجمعي تكون على شكل دائرة فلا شك أننا نتوزع على أرضية تلك الدائرة وفقا لدرجة شعورنا القوي بالانتماء وإخلاصنا في لعب الدور الوطني الواجب لصالح الوطن والأمة وبقدر تجاوزنا لأنانيتنا الفردية بقدر اقترابنا من مركز دائرة الضمير الجمعي فلا يمكننا أن نضع المجرم والخائن والأناني والجشع من الأفراد إلا خارج الضمير الجمعي الذي يلفظهم، أما من يحرصون على الدفاع عن مصالح الوطن والتضحية في سبيله فموقعهم في قلب دائرة الضمير الجمعي كالفريق عبدالمنعم رياض بطل حرب الاستنزاف وعبدالعاطي صائد الدبابات الإسرائيلية في حرب أكتوبر والشهيد أبانوب ومحمد أيمن شويقة ...إلخ .فهؤلاء الذين اختاروا التضحية بالحياة والشهادة في سبيل بقاء الوطن.
وقد أكدت قراءاتي للتاريخ المصري والدولي أن الجيش المصري يتمتع بخاصيتين لا يتمتع بهما أي جيش من الجيوش الأخرى :
الأولى : أن رجال جيشنا منيعون ضد آفة "الارتزاق" التي أصيبت بها الجيوش الأخرى منذ كانت الجيوش تتكون من العبيد والمرتزقة والمماليك والانكشارية.
الثانية: أن الضابط المصري مثقف مهموم بالمعارف والثقافات المدنية علاوة على العلوم العسكرية وقد عرفنا في تاريخنا الحديث الضابط الشاعر محمود سامي البارودي الذي اشتهر بلقب "رب السيف والقلم" لشهرته المدوية في الشعر، وكذلك الشاعر حافظ إبراهيم والروائي يوسف السباعي ووزير الثقافة ثروت عكاشة الذي كان له الفضل في تأسيس وزارة الثقافة في ستينيات القرن الماضي.
ولا تزال الذاكرة الوطنية تسجل كيف أنقذ الجيش المصري الوطن من الوقوع في براثن التنظيمات الإرهابية للإخوان المسلمين في أعقاب ثورة يناير 2011 فكانت استغاثة الشعب المصري واضحة في هتاف المدنيين : واحد اثنين الجيش المصري فين؟! بعد أن عانينا من الفوضى التي ضربت استقرار المجتمع المصري وأمنه.
وعندما انطلقت الدبابات والعربات المجنزرة لنصرة الشعب القلق وقد اعتلاها "ملائكة الكاكي" استقبلتهم نساء مصر بالزغاريد فعاش المصريون لحظة العناق بين الشعب والجيش
وأنشد الشاعر عبد الرحمن الأبنودي:
"والجيش في مصر رباه شعبه على كيفه
الجيش يحمي شعبه والشعب يحتمي بجيشه"
ووجدتني أجلس إلى مذكراتي لأسجل لحظة الانتصار الجديدة
وأهتف : عاش الجيش المصري الذي خرج من رحم شعبه ليضم الوطن إلى قلبه .