إن أهمية بيوت الله لا تقتصر على أداء الصلاة فحسب، بل أهميتها تكمن فى رسالتها السامية فى إرساء قواعد التربية الروحية والقيم الأخلاقية، وإصلاح الفرد والمجتمع، وجمع شمل الأمّة، وتوحيد كلمتهم، وبث قيم التراحم والتسامح وإصلاح ذات البين، فى المجتمعات وتثقيفهم وتوجيه سلوكهم لما فيه خير الدنيا والآخرة.
ففى المسجد تسقط كل الفوارق والطبقية والاختلافات السياسية والحزبية والاجتماعية وتختفى العنصرية والعائلية والقبلية؛ الناس فيه سواسية، حيث تتجلى الانسانية بكل تفاصيلها الوحدوية والأخوية فى صلوات الجماعة.
وبما أن أغلبية مجتمعاتنا العربية من المسلمين، وبالفطرة يميلون إلى الالتزام الديني، وبالتالى فإن المسجد بالنسبة لهم يعد البيت الذى يقضى فيه المسلمون أوقاتهم للعبادة والروحانية وإقامة الشعائر الدينية، وقدومهم للمسجد يعتبر من الأعمال التى يتقربون بها إلى الله، وأن الإمام والشيخ أو الواعظ كلامه مصدق عند الناس، ولذا يكثر على ألسنة الناس (قال الشيخ كذا...).
هذه الثقة البريئة النبيلة تتطلب الحفاظ عليها بمستوى أهمية المسجد بالنسبة للمسلمين.
وخصوصاً أن المسجد ليس بحاجة إلى وسائل إعلامية وجهود دعائية لتجميع الناس للقدوم إليه، فالمصلون يأتون إلى المساجد بمجرد سماع الأذان، لارتباطهم بالمساجد وتعلقهم بها، وبالتالى تكون المساجد منابر مجانية تجعل مهمة استغلال عقول كثير من رواد المساجد من بعض الأشخاص والأحزاب أكثر سهولة فى توجيههم فكرياً وسياسياً، وتتيح لهم استخدام المسجد لنشر رواياتهم الحزبية بسهولة أيضاً، دون عناء فى الاستقطاب الحزبي، وذلك باستخدام الدين وسيلة لتحقيق أهدافهم، مستخدمين التحريض ضد كل المخالفين لأحزابهم باسم الدين، وكأنهم الناطقون الحصريون باسم الحق والدين، مع أن الحق والحقيقة أوسع منهم، وتبالغ فى تكفير وتخوين الآخر وتكرس عنصرية العبادة واحتكار الدين، وبالتالى قد يتم تحويل المساجد إلى منابر لتأجيج الحزبية الضيقة، وتعميق الكراهية وتعزيز الفرقة ونشر الفتنة وبث سموم بعيدة كل البعد عن رسالة المسجد الشرعية، باستخدام الخطب الحزبية البراقة والمواعظ الجذابة والدروس العامة والخاصة، والتى تؤثر فى الغالب على فئة صغار السن والشباب والمراهقين وتزداد الخطورة بغياب الثقافة وافتقاد تلك الفئة القدرة على التقييم والتحليل والنقد.
وهنا تكمن الخطورة فى إبعاد المسجد عن مهامه الدينية بقصد التجييش للحزب، مما يحتم علينا التمييز بين الغث من السمين.
إننا بحاجة تضافر جهود كل المؤمنين بقوله تعالى" وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" وبحاجة لكل المخلصين والحريصين على وحدة الأمة وقوتها، ونحن بحاجة إلى رقابة مجتمعية فاعلة، لحماية المساجد وإبعادها من المخاطر التى تسوّق باسم الاسلام ورفع مستوى الثقافة الدينية والسياسية، والوعى المجتمعى وترسيخ قناعة المجتمع المسلم بأن المساجد يجب أن تكون بعيدة عن خلافاتنا الحزبية.
إن المؤسسات الدينية الرسمية فى الدول العربية والاسلامية هى الجهات الدعوية الوطنية المسؤولة بشكل مباشر عن المساجد، والتى يقع على عاتقها حمايتها ورعايتها بكل تفاصيلها المهنية والادارية والإشرافية والانفاق عليها وصيانتها، ومسؤولة عن مهمة إبعادها عن الاستقطاب والتجييش الحزبي، والقضاء على ظاهرة اختطاف المساجد، واستباحة منابرها، والأهم من ذلك، الحرص على أن تحقق المساجد الأهداف التى أنشئت من أجلها فى الدعوة والإرشاد وجمع كلمة المسلمين. وهذا يتطلب من المؤسسات الدينية وضع الخطط ورسم السياسات فى كيفية اختيار الخطباء والوعاظ، وتنظيم عملهم ومتابعتهم، وإعداد البرامج الدعوية الوسطية والتوعوية الهادفة التى تحقق رسالة المسجد غير الحزبية، عنوانها، قوله تعالى: "وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً"
فهل مجتمعاتنا العربية والاسلامية والمؤسسة الرسمية قادرة على إعادة دور المسجد فى تأدية رسالته التى وجد من أجلها؟!