شهدت حياة المصريين، على مدار آلاف السنين، عددا هائلا من الأساطير، التي نسجها أبناء المحروسة، حول حب الأجانب لبلادهم، وعودتهم إليها، بل ورغبتهم الجامحة في عدم مغادرتها حتى الموت، وردد المصريون على مدار التاريخ، عددا من هائلا من الأمثال الشعبية، التي تؤكد هذا المعنى، كان أشهرها على الإطلاق، أن من يشرب من مياه النيل، سيعيده اشتياقه إليها، وإلى مصر مجددا، حتى أن لقب «أم الدنيا»، صار ملازما لمصر؛ بسبب كرم ضيافتها للوافدين، وحبهم الشديد لها، وبقي السؤال معلقا، يدق الرؤوس، ما السر في تلك الأقاويل، والأمثال؟ وهل هناك دليل على صدقها تاريخيا؟!
نظرة واحدة فاحصة على تاريخ مصر الضارب بجذوره في أعماق التاريخ؛ تكشف بيسر شديد، عن وجود عشرات، بل ومئات الأدلة على أن من حب «أم الدنيا»، ملأ قلوب أهل الدنيا، حتى أن عددا هائلا، ممن عاشوا على أرض المحروسة ورفضوا مغادرتها، حتى دفنوا في ترابها.. هذا بالضبط ما تحكيه لنا مقابر الأجناب في مصر.
الأرمن
يعتبر الأرمن، من الشعوب التي عشقت تراب مصر، وعاش الكثيرين منهم على ترابها، لا يتمنى سوى الحصول على الجنسية المصرية؛ ليضمنوا عدم إجبارهم على مغادرتها حتى الموت.
ونتيجة لانتشار الأرمن في مصر، وجدنا العديد من المقابر لهم، فهناك مقابر «مارمينا» بمنطقة مصر القديمة، و«أميناين سربوتس»، أي القديسين، بمصر الجديدة، إلى جانب مقابر للأرمن الكاثوليك في القاهرة، والإسكندرية، ومقبرة جماعية في بورسعيد، للأيتام من أبنائهم، الذين احتضنتهم مصر، بعد هروبهم من ممارسات الإبادة التي نفذها ضدهم الأتراك.
وأقام الأرمن الفارين من مذابح الأتراك، في مخيمات خُصصت لهم منذ 1919، وبالتالي كانت لهم جبانات شهيرة، في مصر القديمة، يرجع بناؤها إلى أكثر من 100 عام مضت، وتضم أكثر من 50 مقبرة، مدون عليها أسماء أصحابها.
ويقول محمد حمزة، القائم بأعمال الحرسة على مقابر مصر القديمة، إنه منذ أن تولى حراسة المقابر، قبل عشر سنوات، لم يشاهد سوى عدد قليل جدا من الزائرين، يحضرون في مناسبات ثابتة.
أما أبانوب فانوس، أحد المتبرعين لخدمة المقابر، فيقول إن لديه عشق كبير للأرمن؛ لأن علاقته بهم بدأت منذ الصغر، عندما كان يعيش في مدينة الإسكندرية، مشيرا إلى أن الأرمن كان عددهم في مصر يصل إلى حوالي 40 ألف فرد، عندما تولى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الحكم، إلا أن هذا العدد تقلص كثيرا؛ خوفا من الشائعات التي صاحبت فترة حكم ناصر، من أنه عدو للأجانب، ويسعى للسيطرة على أملاكهم، وتأميمها.
الأتراك
عندما تصل إلى مقابر الأتراك، تشعر أنك أمام سر دفين، فتلك المساحة الشاسعة والتي تقع على ناصية «السكة البيضة» المتفرعة من شارع النصر المؤدي، إلى حي مدينه نصر، يحيطها سور شاهق الارتفاع، لا تستطيع أن تشاهد من خلاله ما بداخله، ويزينه باب حديدي صغير، مغلق دائما بأكثر من قُفل.
ويقول موسى، الحارس الخاص بهذه المقابر، إنه يعمل في حراستها منذ خمس سنوات، ولم يشهد في أي يوم من الأيام أي زوار لتلك المقابر، سوى السفير التركي، وبعض الرجال الذين يرتدون ما يشبه الزى الموحد، من البدل الأنيقة.
الفخامة الشديدة والرقى هما أكثر ما يميز تلك المقابر من خلال استخدام الرخام ذي الأوان، والسلالم والفسقيات، واللوحات الضخمة هي الاخرى من الرخام.
وتحكي هذه المقابر تحكي ملخصا لحياة ٤٥٠٠ شهيد، ماتوا على الجبهة الفلسطينية، أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي امتدت بين عام 1914، وعام 1918، قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية.
حارس مدافن الأتراك أكد أن الزائرين الذي يشهدهم دائما هم من السفارة التركية، التي تهتم بالمقابر بشكل كبير، ويشدد عليه المسؤولون أن يهتم بتنظيفها والحفاظ عليها، وألا يسمح لأحد بدخولها، دون تصريح مكتوب من السفارة التركية بمصر، حفاظا على خصوصية هذه المقابر.