الخميس 2 مايو 2024

«نجع بريطانيا العظمى».. رواية كلاسيكية ممتعة

مقالات2-12-2021 | 13:53

العودة للماضي ضرورة من ضرورات تأمل الحاضر واستشراف المستقبل، وفي الرواية تصبح العودة للماضي أحيانًا سببًا من أسباب شغف القراء بتلك النوعية من الروايات التي نطلق عليها "الرواية التاريخية".

 ولكن مع رواية "نجع بريطانيا العظمى" للروائي المتميز حسام العادلي، نكون أمام أسباب أخرى للاستمتاع بالقراءة حيث تقدم هذه الرواية مصر في النصف الأول من القرن العشرين بكل جرأة في طرح إشكاليات الحداثة والتحديث الكامنة في الوعي سواء لدى النخبة أو لدى العامة.. إضافة إلى ذلك، نجاح حسام العادلي في تقديم متعة حقيقية لقارئ الرواية رغم استخدام القالب الكلاسيكي في بناء الرواية.

إن اجتناب التجريب في استخدام تقنيات ذات سمعة طيبة بين كتّاب الرواية والنقاد والوعي بأن البناء الكلاسيكي للرواية هو البناء المناسب للتجربة الروائية "نجع بريطانيا العظمي" يوضح إلى حد كبير أننا أمام كاتب روائي يسعى لتجسير الفجوة بين ضفة "الرواية الجماهيرية" التي تحقق انتشارًا واسعًا بين القراء خاصة ممن يبدأون عقدهم الثاني، وضفة "الرواية النخبوية" التي تعجب  النقاد والقائمين على الجوائز الأدبية إضافة للقراء الذين أصبح لهم ذاكرة قرائية مؤسسة على سلسلة طويلة من الروايات التي تشكل علامات في تاريخ الرواية العربية.

بداية من حرفية اختيار العنوان المثير للعجب والدهشة نجدنا أمام حرص من حسام العادلي على جذب القارئ لتلك المفارقة، تتحقق الدهشة لدى القارئ من استبعاد أن يكون هناك نجع /قرية صغيرة في مصر يحمل اسم الإمبراطورية التي كانت  لا تغيب عنها  الشمس "بريطانيا العظمي"، والأهم أنها القوة التي كانت تحتل مصر، فلا يمكن لفلاحين مصريين أن يقبلوا على أنفسهم أن يسموا قريتهم باسم المحتل الغاشم. ومن ثم فرؤية الكاتب تتجسد في العنوان حيث الروائي هو المسئول عن تسمية "نجع السعداوية" الذي يُقدمه في الرواية بنجع بريطانيا العظمي على سبيل النقد والإدانة.

 إن المبالغة في صناعة هذه المفارقة سلاح ذو حدين فقد تأخذنا لتوقع روح تهكمية ساخرة داخل الرواية مما يجعل سقف توقعات القارئ تجاه الرواية ملتبسًا بالسخرية والتهكم، وقد تكون المفارقة مجرد جذب للقارئ لتوريطه في تراجيديا محبوكة سرديًا للكشف عن كيفية تحول الاحتلال الإنجليزي العنصري بطبيعته من الوجود الفيزيقي على أرض مصر إلى الوجود النفسي والمعرفي في الوجدان لدى قطاع كبير من المصريين خاصة من أولئك الذين كانوا أعوانًا له وحققوا وجودهم ومكانتهم بفضل ارتباطهم به.

تشتمل الرواية على أحد عشر فصلاً، لكن الأول والأخير من هذه الفصول يمثلان نقطة زمنية واحدة ومكانية واحدة وهي اللحظة والبقعة التي قرر فيها الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس وهي القاهرة 1956.. وبين الفصلين هناك تسعة فصول عبارة عن ثلاثة أماكن ينتقل الراوي العليم مع كل فصل بسلاسة من مكان لمكان، ولكل مكان حضوره في الرواية بقدر عدد الفصول التي تغطي أحداثه.

 يظهر بوضوح أن "نجع السعداوية" هو المكان الأكثر حضورًا في الرواية بل هو المكان المركزي الذي يستحوذ بشكل مباشرة على عنوانين لفصلين دالين على تحول في هوية النجع ذاته عبر الزمن نجع السعداوية" و"نجع السعداوية سابقًا" .

 كما يستحوذ نجع السعداوية بشكل غير مباشر على ثلاثة فصول أخرى "الجنازة /المأتم/الكامب/ مقام سيدنا الطشوطشي".. وفي المقابل تأتي لندن عنوانًا لفصل واحد بشكل مباشر وعنوانا يحيل لعالمها وهو " وأنت ابنة زنا".

أما المكان الذي تتجمع فيه خيوط المكانين "النجع/لندن" روائيًا ليتم تضفيرها على نحو يفسر مصائر الشخصيات ويكشف دواخلها فهو "روض الفرج" حيث عالم التجارة ونقطة تلاقي الطبقات بل ونقط الوصل بين الماضي والحاضر ليتصل زمن الجد الأول في النجع وهو السيد حليف هاريس القائد الإنجليزي للكامب في النجع بزمن الحفيد زين الحالم باستعادة زمن سطوة الجد على النجع بعد أن ضربت ثورة الضباط الأحرار مجد العائلة في مقتل حين مكنت الفلاحين من الشكوى والاعتراض خاصة بعدما سحبت الثورة منهم العمودية وعينت بدلا منه ضابط شرطة.

إن الرواية هي عبارة عن زمن رحلة زين من نجع السعداوية الواقع بين محافظتي أسيوط/جرج (سوهاج) إلى روض الفرج استغاثة بعمه الهارب من جريمة قتل يوم جنازة أبيه (العمدة السيد الطاغية)، ليعيد للعائلة هيبتها بعد سنوات زالت عنهم السلطة والهيبة رغم استعدادهم لأن يكونوا حلفاء لأي نظام يأتي يمكنهم من السيطرة على النجع لكن ثورة الضباط الأحرار لم تر فيهم حليفًا واعتبرتهم من العهد البائد.

إن الرحلة الأكثر إمتاعًا هي تلك الرحلة داخل النفوس البشرية، وقد كان التحدي أمام حسام العادلي فيما أظن أن يتمكن بتقنية الراوي العليم الكلاسيكية من تقديم النفس الإنسانية شديدة التعقيد خاصة حينما يكون ذلك الراوي العليم متلبسًا بروح شخصية الجلاد وليس الضحية.

 من المدهش أن تدفعك رواية "نجع بريطانيا العظمي"، رغم كلاسيكية القالب المتمثل في استخدام تقنية الراوي العليم وحدها طوال الرواية، إلى أن تًصغي السمع إلى صوت صبي يحلم باستعادة جبروت جده الطاغية لترى بعينيه كيف ينظر إلى فاطمة تلك الفتاة ابنة مغاوري الفلاح وهو يطأ جسدها بعنف وشراسة لينتقم من أخيها الذي لم ينزل من على الحمارة وهو يسير أمام دوار العمدة ، الأمر الذي دفع والده للاعتذار لمغاوري حين هدد بعمل محضر ضد زين الذي ضرب ابنه!

ومن المدهش أيضًا أن تكون الجملة الحوارية الوحيدة التي قدمها الراوي العليم في الرواية هي الجملة الفاضحة للإمبراطورية الإنجليزية حيث الاتهام المتبادل بين هاريس وكارمن.

-     أنت وضيع!

-     وأنت ابنة زنا.

بهذه الجملة يعلن هاري الأب شكه في نسب كارمن إليه، وتعلن كارمن احتقارها لمن تحمل اسمه لوضاعته الاجتماعية حيث كان ابن الخادمة الذي قبل أن يتزوج سيدته رغم علمه بعشقها للفرنسي لابان وحملها منه مقابل أن يحصل على وظيفة مرموقة في مصر!

مصر استقبلت التشوهات النفسية والصراعات الاجتماعية التي كانت تموج بها لندن في تلك الفترة وأعادت إنتاج تلك التشوهات والصراعات، وهو ما نجحت رواية "نجع بريطانيا العظمي" في طرحه بعمق فكري وبمتعة سردية في الوقت نفسه.

أ د سيد ضيف الله.. أستاذ النقد الأدبي

Dr.Randa
Dr.Radwa