السبت 23 نوفمبر 2024

ثقافة

في ذكرى وفاته.. ننشر مقدمة سهير القلماوي لأول دوواين أحمد فؤاد نجم

  • 3-12-2021 | 21:55

أحمد فؤاد نجم وسهير القلماوي

طباعة
  • بيمن خليل

في الذكرى الثامنة على وفاة فاجومي الشعر، الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، والتي تحل اليوم 3 ديسمبر، عرفنا عنه أنه شاعر الفقراء وسفيرهم، فهو الذي سمعنا دوي صوت أشعاره من خلف جدران السجون لترتجف قلوبنا بصدى قصائده، فأول دواوينه التي تعرفنا عليها وعرفتنا  بوجود شاعر يحمل من معجم الكلمات العامية غزيرها كانت من السجن.

أصدار الفاجومي ديوانه الأول بعنوان (صور من الحياة والسجن) في 11 مايو 1962، وفي آخر سنة له في المعتقل، حيث قام بجمع قصائده في ديوان من واقع معاناته في الحياة والمعتقل، وتقدم به في مسابقة أدبية، وأعجبت بديوانه الدكتورة سهير القلماوي، والتي أوصت بنشره وغير ذلك كتبت مقدمته أيضًا، يقع الديوان في حوالي 61 صفحة، ولدى الكثيرين شغف بقراءة المقدمة التي كتبتها القلماوي في ديوان نجم الأول، وماذا قالت عنه وعن ديوانه، لذا تنشر لكم بوابة دار الهلال المقدمة التي كتبتها سهير القلماوي كاملة.

 

مقدمة ديوان (صور من الحياة والسجن) بقلم الدكتور سهير القلماوي:

المقدمة..

في هذه المجموعة الصغيرة من الأزجال التي ينشرها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، يحس القارئ أن برعما يتفتح في عالم الزجل بقوة وإيمان وإصرار. لقد خاض المؤلف تجربة مريرة، فإذا التجربة تفتح هذا البرعم على نار الألم والحزن، وفي السجن البارد المظلم – حيث تموت كثير من الآمال، وتذوي مظاهر الحياة – اكتسب البرعم حرارة من قلب معذب، فإذا هو ينضج على الألم والندم، وفراق الأبناء، والزوج والأحباب، كما ينضج على آمال الشعب وتطلعه إلى المستقبل.

في هذه المجموعة نرى صورًا من الحياة وأخرى من السجن، ولكنها كلها تصور روحا شابة لابن من أبناء الشعب الأصليين يرى الحياة من حوله بأفراحها وأحزانها، فينفعل بها، ثم يرى السجن بقسوته فينفعل به، وإذا المزيج من كل هذا صرخة حارة تريد الحياة، بل تريدها حرة كريمة.

يصور أحمد فؤاد نجم الحياة في السجن بأسلوب بسيط هين، هو أسلوب الزجال ولمسات منتقاة، وينتخب ألفاظا من قاموس الواقع والمتحدثين، فإذا الصورة تنبض بالحياة الطلقة الحرة، تطابق الفن وتحافظ على الأمانة للواقع. ففي السجن "سجان" هو رجل صديق. وفيه "مدير" ترفع إليه طلبات المسجونين وتظلماتهم، وكثيرا ما يستجيب في كرم لها (طلب لمبه) وفي السجن رفاق قد لا يتجاوب شعوره معهم في عمق خارج السجن، ولكنهم في داخله أخوة لطول العشرة ووحدة الأزمة.

ولكن في السجن شقاء هو الشوق إلى ما في خارج السجن من حياة تكسوها أضواء الحرية بكل جمالها وطيبها. حياة الجماعة وحياة الأسرة. ووجوه حبيبة تطل على ظلام السجن وجوه الابن (بابا) والابنة (بنتي) والزوجة والأم (عيد الأم) وخارج السجن مواسم وأعياد تلقي ظلالا كئيبة على جدرانه، ولكنها تفجر في صدر المسجون حرقة وألما "سجين يخاطب العيد" والعيد يذكر بالأهل وبالأم وهي نقطة الارتكاز وعماد الأسرة فيناجي السجين "أمه في العيد".

ولكن في السجن بعض الحياة، فهذه مجلة ينشر فيها قصيدته "عيد الأم" فينال عليها جائزة ويكرمه مدير المنطقة فينطلق الشاب يتغنى بالمناسبة. ويأتي "عيد القيامة" وفي السجن أخوة مسيحيون فيهنئهم بالعيد.

وهذه مدة السجن تنتهي، وغدا يخرج السجين إلى الهواء الطلق، إلى الحياة، إلى الأحبة، ولكن ألم يألف هذا السجن؟ ألا يحس الرهبة والخوف لمواجهة الحياة من جديد؟ ماذا بها مما سيرحب به؟ وتنفجر العواطف المضطربة بشعر يودع فيه السجن (الوداع) و "بخواطر قبل الإفراج" وهناك "بلبل" يغنى، فلتغن يا بلبل وهناك شروق ولكن ما بال السجين ليس فرحا كل الفرح، وهذا هو يؤكد لنفسه "أنه فرحان" ولكن أحقا هو فرحان؟

وما يكاد يخرج من السجن حتى يلقي الظلال السود التي مدها على حياته، وإذا أبواب العمل تقفل في وجهه. نعم إلى حين، ولكن من كان يدريه أن هذا الشقاء إلى حين؟ وهنا ينفجر في أزمته تلك بأحسن قصائده "صحيفة الفيش".

والشاعر إنسان، وكل إنسان يفجر الحب في نفسه معاني كثيرة، وتمر بالمحب ساعات فرح وساعات آلام، وأشد هذه الآلام آلام الفراق. والسجين خير من جرب آلام الفراق، وآلام الفراق أكثر ما يفجر الشعر عند المحبين، وإذا شعر أحمد فؤاد نجم الغزلي يفيض بشكوى الهجر، ولكنه يفيض أيضًا بالحب السعيد وبالشوق وبالغزل، يعتمد على الحركة والحدث أكثر مما يعتمد على الوصف المادي للصور الصامتة.

فهو في عزلة يتحرك في سرعة، فهذه "حكاية قلبين" و "لقاء" و "بعد هجرك" و "يا ضيّ العين" و "كفاية". وهو أحيانا في قصته يكرر الموقف البارز بعد كل خطوة والموقف حركة كما نرى، ففي لقاء يكرر و "اتقابلنا" ولا يكرر وصفا جامدا أو إحساسا من زاوية الوصف وحدها.

ولعل أبرز ما في هذه المجموعة إيمان الزجال بالشعب وبالكفاح، واستبشاره بالمستقبل وهو لا يؤمن بذلك عاطفيا فحسب، وإنما هو واثق عقلا بما يريده الشعب وبالطريق الذي سيوصله إلى ما يريد، ففي قصيدته طريق الكفاح يكرر "أنا الشعب ماشي وراسم طريقي" ويتجلى إيمانه بالشعب في سخط على من ابترّوا عرقه واستحلوا جهده "الأرض" كما يتجلى في حب لأفراده ولعادتهم ولحياتهم البسيطة القوية.

"أحمد غريب" و "زفة العروس" حيث نحس نبضات قلب الشعب قوية طيبة خيرة. ولا ينسى إخوانا له من العرب وإخوانا من الإفريقيين يخرجون مثله من سجن رهيب، وما زالت أغلالهم عالقة بأقدامهم تعوق حركتهم الحرة. "صرخة أفريقيا".

وهكذا نجد في هذا الديوان موهبة أصيلة تتنسم عبير الانطلاق نحو الآفاق لتحلق فيها. موهبة متفاعلة بما حولها متعمقة ما في نفسها محاولة بهذا وذاك أن تخرج لنا صورا من الحياة ولا أريد أن أذهب مع المؤلف فأقول: وصورا من السجن؛ لأن صور السجن عنده كانت مفعمة بالحياة مشربة بالأمل معبأة بالثورة والسخط في طريق السلام والبناء لا طريق التدمير والتخريب؛ لذلك أراها كلها صورا من الحياة: الحياة بأفراحها وأتراحها وأزماتها وتطلعاتها. ولعل الشاعر وقد صحح وضعه في الحياة وأجد من ظروفه اليوم ما يغذي ملكته، ويفجر شعره، ويغني تعبيره عن الحياة، فيخرج لنا دواوين كلها صور من الحياة.