بقلم – عزت بدوى
أسوأ ما أفرزته ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ الانفلات الأخلاقى، الذى لا تقل خطورته على المجتمع عن الانفلات الأمنى والفوضى، التى عمت البلاد فى تلك الفترة.. فالقيم والأخلاق المصرية صفات راسخة تتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل منذ نعومة أظافرهم وتغرسها الأسر المصرية فى نفوس أبنائنا منذ نشأته الأولى وهى ما تعرف بأخلاق القرية المصرية، التى تحكم تصرفاتهم وسلوكهم اليومى بداية من احترام الكبير والعطف على الصغير وقدسية المرأة المصرية وصيانة شرفها وكرامتها ودونها تذهب الرقاب.
الوسطية فى تصرفاتهم دون التطرف لأقصى اليمين أو أقصى الشمال ومساندة المظلوم ومقت الظالم وإغاثة الملهوف ونجدة المستغيث والتضامن وقت الشدائد والملمات والمصائب، هو ما أدى إلى تماسك نسيج الوطن ووحدته بغض النظر عن الدين أو الجنس أو اللون.
اشتهر المصريون بسمات نادرة قلما تجدها في شعب آخر كالمروءة والشهامة والتسامح والأخلاق السامية، التى ترفض سيئ الألفاظ والأفعال أو الخروج عن تقاليده وعاداته المتوارثة أو الشتم والسباب أو إهانة الكبير والتحقير منه أو الاعتداء علي امرأة أو طفل حتى ولو كان مخطئًا.
إن هذه التقاليد والقيم السامية، التى مثلت نبراس حياة للمصريين وميزتهم عن كثير من شعوب العالم تعرضت لهجمة شرسة كادت تطمسها فى الفترة الماضية فغابت ثقافة الحوار وحلت محلها ثقافة تبادل السباب والشتائم والبذىء من الألفاظ النابية التى للأسف الشديد اقتحمت الأسر المصرية دون استئذان إما عبر الفضائيات أو القنوات الأرضية والإذاعات المسموعة، كما غابت أو كادت تختفى ثقافة الخلاف فى الرأى فى مناقشتنا لمشاكلنا وقضايانا ومشاغلنا الحياتية واليومية سواء الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية لتسود ثقافة التشبث بالرأى حتى ولو كان خاطئًا أو لا يعتمد على معلومات أو أدلة أو أسانيد مقنعة تؤيده.
بل الأخطر من ذلك كله هو اتهام من يخالفنا الرأى حتى ولو كان رأيه سليمًا وصحيحًا إما بالخيانة أو العمالة أو الفساد!.
وإذا كان المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والصحافة، برئاسة الكاتب الصحفى الكبير مكرم محمد أحمد، قد بادر فى الأسبوع الماضى- وبحكم مسئوليته القانونية عن مواجهة الفوضي والعشوائية التى تفشت فى وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية قد سارع بوضع كود أخلاقى للصحف والقنوات الفضائية والأرضية يحدد الأسس والمعايير الأخلاقية، التى يجب الالتزام بها فى هذه الوسائل في تناولها للقضايا الخلافية العربية، مؤكدًا على حق كل إعلامى أو صحفى في مساندة وجهة نظر بلاده بكل السبل والطرق والوسائل، وبكل ما تضمنه من حرية الرأى والتعبير، وأن ينحاز لوجهة نظر بلاده بأى وسيلة.. إلا أنه عليه أن يلتزم بألا تتضمن عباراته سبًا أو قذفًا أو تجريحًا للأشخاص، وأن يكون الرأى والنقد محل الخلاف موجهًا إلى جوهر القرار محل الخلاف ولا ينسحب على شخص بعينه.
لقد خاطب القرار نقابتى الصحفيين والإعلاميين بتطبيق هذا الكود على أعضائهما ومحاسبتهم على الخروج عليه، والقرار لا يصادر على حرية الرأى والتعبير ليس للصحفيين والإعلاميين فقط، وإنما لأى مواطن يستخدم هذه الوسائل الإعلامية، لكنه يعيد الأمور بالفعل إلى نصابها الحقيقى فى التصدى للخروج عن القيم والأخلاق، التى يجب أن تسود الحوار فى حالة الخلاف في وجهات النظر.
وحسنًا أن فرض المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام عقوبات مالية على المنفلتين في وسائل الإعلام، سواء القنوات الفضائية أو الأرضية، والذين يسيئون إلى المشاهدين والمستمعين باستخدامهم ألفاظًا نابية وبذيئة فى حواراتهم فى وسائل الإعلام سواء فى المسلسلات أو المناقشات أو الإعلانات، وجعل العقوبة غرامة فورية ٢٠٠ ألف جنيه على كل قناة فضائية أو أرضية أو تذيع ألفاظًا تدخل ضمن فاحش القول، وتمثل سبًا وخروجًا على الآداب العامة، وتسب الأب أو الأم أو الدين، وأن تحصل هذه الغرامة على كل مرة يتم فيها إذاعة هذه الكلمات على الشاشة مع تعليق ترخيص الشاشة إذا امتنعت عن دفع الغرامة الفورية، ويسحب ترخيصها إن تكرر الخطأ ثلاث مرات خلال ٦ أشهر، ولاتمارس نشاطها إلا بترخيص جديد.
إن هذه القرارات الجريئة التى أصدرها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام تتطلب وقفة مجتمعية من جميع مؤسسات الدولة بداية من البرلمان إلى المدرسة والمنزل إلى الثقافة، إلى المؤسسات الدينية لمواجهة الانفلات الأخلاقى، الذى طرأ على حياة المصريين وأهدر قيمهم وأخلاقهم المتوارثة، التى حمت المجتمع ونسيجه الوطنى وغرسها من جديد بداية من ثقافة حق الخلاف فى الرأى فى القضايا الخلافية وعدم التخوين والعمالة والاتهام بالفساد لمن يختلفون معنا في الرأى، فالوطنية ليست حكرًا على فئة دون أخرى أو فصيل دون فصيل والخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية.