لا أعرف في الحقيقة ماذا يمكن أن يكون اختيار النساء في الواقع، إذا ما طُرح عليهن السؤال الصعب الذي فرضته الظروف على "محبوبة" بطلة رواية غيوم فرنسية، فأن تكوني مُخيّرة بين البقاء في الوطن أو السفر مع الحبيب/ الزوج المنضم لصفوف العدو، سؤال ليس سهلًا على الإطلاق، لكن قد تسهل الإجابة إذا كانت هذه المرأة أو تلك تعاني اضطهادًا وتعذيبًا جسديًا وتهميشًا ثقافيًا ودينيًا في ظرف تاريخي مضطرب، الأمر الذي قد يدفعها لاختيار رفقة الزوج في وطن آخر يكفل لها صونًا للجسد والنفس، لقد كان اختيار محبوبة مثيرًا للتعجب، لكنه التعجب الذي قد يصحبه إعجاب وفي الوقت نفسه يدعونا لتامل تلك المرأة المصرية التي تدير الحياة من وراء ستار في أشد المحن، وحين تعود الحياة لمسارها الطبيعي لا أحد يلتفت لما تركته المحن على جسدها وروحها من علامات لا يمحوها الزمن.
إن اختيار محبوبة لا شك لم يكن دون سند لديها، ربما كانت تستند لتاريخ طويل من التعايش راهنت أن الاضطرابات السياسية والعسكرية التي أنتجتها الحملة الفرنسية لن تؤثر في طبيعة العيش المشترك الذي نعمة فيه بصحبة زهرة ابنة الشيخ العطيفي في طفولتها، وربما راهنت بفطرية شديدة أن من جاء محتلاً لن يقدم لك وطنًا كامل الاوصاف إذا فقدت في مصر العائلة والأصدقاء وذكرياتها في الكنيسة والحارة.. إلخ.
إن مسار محبوبة مسار امرأة تراهن على الزمن في مواجهة لحظة قاسية منه، ومع ذلك لا يمكننا أن ننفي أن ثبات محبوبة على موقفها ورفضها الرحيل من الوطن وتشبثها بموقف بطريرك الكنيسة المصرية من المعلم يعقوب وحملة بونابرت لا يعني ان ثوابت الهوية لديها لم ينل منه الزمن، فمحبوبة الشابة ذات الجسد المتعطش لريه بماء فضل الزوج ماتت من أجل تحيا محبوبة الأم التي هي في الحقيقة لا تحيا سوى من أجل فضل الصغير!
إن خبرة الحياة جعلت من محبوبة امرأة أكثر قدرة على السخرية من المجال العام وأكثر وعيًا بتناقضاته وزيفه، الأمر الذي يعني تغيرًا قد حدث في تقييمها هي نفسها لماضيها ولقراراها ولموقفها من قرار زوجها بالرحيل لكن الزمن لم يعد يتيح لها فرصة الاختيار للمرة الثانية.
في "غيوم فرنسية" هناك نساء آخريات تمتعن بفرصة الاختيار الثانية للهوية أو بالأحرى كان لهن نصيب من التفاعل مع الظروف المحيطة بهن ولم يعولن فقط على الزمن ليفعل فعلته المرجوة، من هؤلاء النساء تلك الجارية سعيدة في بيت أحد المماليك التي استعادت هويتها الأصلية كمواطنة فرنسية ثم جعلت من نفسها امرأة فاعلة في المجتمع المدني الفرنسي، ومنهن أيضًا فرانسواز التي بدأت من نقطة تمرد حادة ضد دور العالم المحيط بها في صنع هويتها لنجدها في اللحظة التي تحلع ملابسها بشكل مفاجي أمام فضل تستعمر حواسه وجسده ليكون مفعولا به في ساحة الأجساد بعد أن اعتاد أن يكون فاعلا في ساحة محبوبة زوجته وفي ساحة المعارك الحربية، ومع ذلك نجد هذه الأنثى المتمردة على قوالب الهوية الجاهزة تسعى بعد سنوات لسلام نفسي تجده في الانضمام لحركة التصوف الكاثوليكية. إن تحولات الهوية لدى الجارية سعيدة/جين فلوي، ولدى فرانسوز، لا يمكن النظر لها بمعزل عن منجزات الحركة النسوية الفرنسية في تلك الفترة، ومن ثم يأتي نموذج المناضلة النسوية مارتين /ماري فالكور في هذه الرواية ليوضح شكلاً آخر من أشكال التشبث مختلفًا عن الشكل الذي قدمته محبوبة. فالتشبث لدى ماري فالكور كان تشبثًا بالحقوق المدنية التي تكفلها الدولة الحديثة للنساء. لقد كان صراع ماري فالكور مع وضعية القمع المجتمعي والسلطة البونابرتية المستبدة والتي لم يجد وسيلة لمنعها من المطالبة بالحقوق الإنسانية للنساء سوى وضعها في المصحة العقلية لسنوات وسنوات!
نلاحظ أن تشبث ماري فالكور تشتبث بما يمنعه المجتمع عن النساء لا بما يمنحه المجتمع أو يفرضه عليهن، كما نلاحظ أن المجتمع السليم يصحح من أخطائه ولو بعيد حين فيعترف ولو متاخرًا بما كانت تتطالب به ماري فالكور من حقوق مدنية. في مثل هذا السياق واستنادًا للحركة الدائرة بين وعي المرأة بذاتها ووعي المجتمع بها وبذاته كان هناك مساحات مختلفة أمكن لكل من الجارية سعيدة/جين فلوي، ولفرانسوز أن تمارس قدرًا عاليًا من التفاوض على هوياتهن فنجد متغيرات الهوية لدى كل منهن دليل على وجود فرص عديدة أمام الأفراد لتشكيل هوياتهم بحسب التفاعل بينهم وبين السياقات التي يعيشون فيها أو التجارب التي يمرون بها، والأهم أن التعبير عن تلك التحولات يكون واضحًا للجميع ولا يتم التستر عليه.
الجسد والهويات وفن التفاوض:
رأينا أن نظرة فضل الله المسيحي ونظرة محبوبة المسيحية للجسد قد أثرت على تصور كل منهما لذاته ولللآخر سواء في العلاقة الجنسية أو حتى في علاقته بالوطن. فالخوف من عدم الحصول على الخلاص والوقوع في الخطيئة جعل من الجسد مصدر تهديد لاستقرار الهوية بل ويصبح خفوت الرغبة في الجسد علامة على فقدان الرغبة في الانتماء بالمعنى التقليدي. يتكشف أثر التصور المسيحي للجسد على تشكل هوية فضل الله، فخوفه من الجسد يصل به لدرجة محاولته قص عضوه الذكري باعتباره سبب الدنس، ليصبح صراخ عبارة كنسية محفوظة "زاني خارح ملكوت الله وألقوه خارجًا" (الرواية ص158)، مزلزلاً لكيان فضل الله ولا يقدر على مقاومته سوى بصوت أكثر ضجيجًا منه لكي يشوش عليه وهو وصت المدافع في الحرب.
إن الخوف محفز أساس لتكوين هوية فضل وهيمنة المكون الديني عليها في تلك الفترة، لكن عندما يواجه جسد فرانسواز المتمردة على دور العالم من حولها في تشكيل هويتها الفردية يصبح أمام الشيطان الذكي الذي هرب منه في مصر فيرى نفسه مستعمَرًا بحسد لا يقوى على النطر إليه، "وبدون مقدمات تعود وتقف أمامي عارية تمامًا، أغمضت عينيي كمن لا يستطيع أن يستطيع أمام الضوء الشديد أن يرى".
- الرجل الذي لا يقوى على النظر إلى جسد امرأة لا يستحق أن يكون فارسها.(...)
- كانت تقودني إلى كل شيء". (الرواية، ص140-141).
يلجأ فضل الله إلى الكنيسة الكاثوليكية لطلب الاعتراف رغم الاختلاف المذهبي الذي من المفترض أنه واعٍ به من قبل السفر لفرنسا، ومع ذلك في مشهد كان يحتاج لتحبيك سردي أدق لتفسير تناسي فضل الله هذا الاختلاف المذهبي الذي يحرمه من الاعتراف به مسيحيًا ومن ثم من الوقوف بين يدى أب اعتراف كاثوليكي.
"انظر إلى يدي، ألا ترى صليبي، أنا نصراني، أتيت إلى هنا لأني نصراني"(الرواية، ص46).
إن الحرمان من المكون الديني للهوية القبطية في فرنسا لفضل الله جعله أسير تصوره عن ذاته بوصفه دنسًا لا نجاة له، فماتت فيه رغبته في الحفاظ على ذلك الجسد ولم تعد لأجساد الآخرين من الرجال في الحروب قيمة في ذاتها.
" في ساحات القتال لم أعد أخشى الموت، ولا يؤثر في شيء سوى التمتع بالقتال"(الرواية، ص150).
ومع ذلك نلاحظ أن الصعود الاجتماعي الذي أحرزه فضل الله في فرنسا بفضل صعوده كمحارب لا يعطي للأجساد أي اعتبار، نتج عنه مستوى من الرفاهية والثراء من ناحية وصاحبه في الوقت نفسه وهن في الجسد المحارب ذاته، غضب الجسد على فضل الله فلم يعد يتحمل آلام المعدة و التي لا دواء لها سوى التوقف عن الطعامن بعدما توقفت الشهوة في الجسد ذاته بعد احتقاره لجسده باعتباره بيت من الدنس يسكن فيه مضطرًا.
"فكما عافت معدته الطعام، فقد عافت نفسه النساء" (الرواية، ص109).
لقد تحول فضل الله إلى ذات مكتفية بذاتها، تستمد وجودها من أنها تعوف الآخر /الأنثى بقدر ما عافت جسدها ذاته. والمدهش أن هذا التشبث بالتصور الديني عن الجسد ظل المكون الأساس لهوية فضل الله ولم تؤثر فيه رحلته لفرنسا وصعوده الاجتماعي ليقدم لنا شكلاً آخر من التثبث بهوية ورفض التفاوضات المطروحة على الذات في سياقات عديدة مثلما رفضت محبوبة الدخول في التجربة وتشبثت بما هو معلوم ومعاش والاعتماد على الزمن في أن يقدم حلاً لمثلما قدم لها المشكلة!
إن بناء شخصية فضل الله الذي اختار الانضمام للمعلم يعقوب خروجًا على التصور السائد بين المسيحيين فضلاً عن المصريين وقتئذ لا يوحي بتطور تلك الشخصية التي لا تستطيع أن تخرج عن تصوراتها عن ذاتها المبنية على تصور ديني تلقاه طفلاً في الكنيسة القبطية، الأمر الذي يجعلنا نتوق لمعرفة كيفية التحول التي حدثت لفرانسواز على الجهة المقابلة في رحلة مغايرة من مركزية الجسد في بناء الهوية إلى البحث عن الذات وسط مجموعة من المتصوفة الكاثوليك.
وللحديث بقية