الجمعة 24 مايو 2024

«السهراية».. شارع الجمهورية


محمد فيض خالد

مقالات12-12-2021 | 15:34

محمد فيض خالد

وعيناه تلتمعُ كَقطرِ النَّدى فوق عيدان البرسيم، تَرنّ كلمات " عمي" في عَفويةٍ مُحَببة بجُرسٍ وهَاج، يَهمزُ كَتِف حماره الهزيل، قائلا بنبرةِ مُلاينة :" ابقى سوقنا من شارع الجمهورية، عيش وطعمية سُخنه"، يشعر وقتئذٍ ببردِ السّلوى مُنطَلقا في ساعةِ الهجير، كان هذا أولَ عهدي بهِ، لتتوالى الصُّور مشحونة بالأماني العذبة، الحقيقة التي لا يُمكِّن إنكارها أنّنا لم نطق صَبرا ؛ نَفتأ نلعن الفقر الذي حَالَ دون الوصول إليهِ، يتطاول " سلامة النحلان"، يُجَاهِد بصره الكليل من تحتِ أهدابٍ غِزار، تلمع بوارق السّعادة من وجههِ النّحاسي، يُخاطب جلسائه في ترفعٍ : " اذهبوا لدكان الحاج موسى، قولوا له من طرف النحلان، موجود في شارع الجمهورية "، لم يبقْ في نفسي ريبٌ من أنّه جنة عدن التي وُعِدَ المتقين، موشاة بأزاهيرِ المتعة والنَّعيم، بَاتَ لِزاما فكَ هذا الطّلسم الذي سَحَرَ قلبي وشغفه حُبّا، تملأ أقاصيص من سبقونا إليهِ الأسماعَ ليلَ نهار، تحتَ الجميزة الكبيرة يتَغزّل " رمضان الأطرش" في ثرَوتهِ النَّامية من أغطيةِ " الكولا " يقولُ في بَطَرٍ مُتَهاونٍ :" هناك أسفل الثلاجات أجران منها، استطيع جلبَ المئات " لكن تأوه " سلامة " بائع البصل وأنفاسه التي صهرتها نيران الألم، انتزعتنا من متعِ الخيال الجامح :" شارع الجمهورية مأوى النّور والنشالين، قطعوا السّيالة وسرقوا شقا يومٍ كامل "، يُؤمّن " عيد مرزوق " على كلامه بإيماءةٍ مُنكسرة، طفحت تلكَ الوساوس برأسي، لم أجد من وسيلةٍ تُزيل عني تلك الفِخَاخ، لم يبق للشمسِ إلّا حُمرة طفيفة بين أوراقِ الصّفصاف، ساعة انفرجت شفتا الحاج "طه عكر" أخَرجَ من جيبهِ علبة السّجائر البلمونت، في تصنّعٍ طوّح يده في الهواء ؛ يقدح عود الثقاب، انسابت أنفاسه متتالية كمدخنةِ القطار، رَدّد مُبتهجا :" غدا لفة المحمل في شارع الجمهورية، من الفجرية نقصد باب كريم " ألقى بكلامهِ وكأنّه قد اطّلع على خبيئةِ نفسي، ظللت افركُ في مكاني َكقطّ صَغير، اشعر أنّ وثاقا من القُربى، ورابطا من المودةِ يربط بيننا، منذ شهر كنتُ قد اقتطعت قروشا من " صيفة" القطن آن لها أن تخرج، خميرة لا بأس بها، فجأة دبّت الحياة في جيبي المهجور، اشعر بلهفةٍ لذيذة، في صمتٍ جعلت اجترّ كلامهُ، وتحتَ خيوطِ شمس الضّحى الواهن، هبطنا من العربةِ، تبَدّى أمام نواظرنا "شارع الجمهورية " برَاحا مُتَّسعا، صُفّ بواجهاتِ المَحال الفخمة التي أخذت زينتها، لم يقف شذوذ " الحاج طه" عند حدٍّ، شَرَعَ يسدي إلينا نصائحه الغالية، يقول بشيءٍ من التّهيبِ :" اقبض على جيبك، النشالين يسرقوا صوابع إيدك، إذا افترقنا اللُّقيا عند محلِ العصير "، على حينِ بغتةٍ اهتاجت بينَ جوانحي رغبة مُلحة في الفرارِ، لكن إلى أين ؟! هذا هو السؤال، أخالها أشبه بهواجسِ ما قبلَ الموت، الفرار من المجهولِ الذي َ يتربصني، شخصت أمامي كلمات أمي وهي تقولُ بعينينِ زائغتين وكأنّها تقرأ من كتابِ الغيب :" لا تذهب، وارسل من يأتيكَ بحلوى المولد "، مضت الدّقائق كئيبة رتيبة توقّف الزّمن، بالكاد ابتلع ريقي المُتحَجر، استعيذ باللهِ من شرِّ الشيطان وكيده، فما كدت استريح من هذا الخاطر، حتى تعالى صراخ "الحاج "، يَضربُ الأرض مولولا يَسبّ ويلعن، كمن لم يُترك له خيطا من خيوطِ الأمل، قال في فجعةٍ :" لقد سُرقت، لطشَ أبناء الحرام المحفظة "، في عَفويةٍ أمسكت بتلابيبِ جيبي أكادُ اعصر قماشه، استقبل كلام الرجل استقبال من انقطعت بهِ أبوابَ الرجاء، تضاءل أمام عيني المتّسع الكبير الذي بهرني منذ قليل، اُطَالِعُ الرّجل المغدور وقد بدأ ينزع نَزعا يطير له اللُّب، ينتابه هول الخارج من معركةٍ القته في فلاةٍ قفرة موحشة، يُعالج هما ثقيلا، مفجوعا برزئهِ الذي نَزَلَ بهِ دون حساب، يدع الله من قلبٍ مُنفطر أن يُبدله خيرا منها زكاة وأقرب رحما، ساعتئذٍ لو كشف الله عن خبيئة نفسي ؛ لوليت منهم فرارا ولملئت رُعبا، دقائق وتوزّعَ الجّمع، ساحوا في الطرقاتِ لكلٍّ وجهة هو موليها، استطعت بعدَ لأيٍّ أن اشقّ طريقا بين الزِّحام، احسّ الخوف واستشعر التّهيب، على يافطةٍ سوداء كبيرة وبأحرفٍ بيضاء غليظة، وقعت عينيّ " مطعم الشعب " حينذاك تبدّت قصور أمانيّ المزهرة، هبّت نسمة طرية تخترقُ أمواج البشر بقوة ٍ، تحمل بين تلافيفها رائحة " الطعمية " الشّهية، انسللت مُنجَذبا نحوها، يتراقص قلبي طَرَبا مع طشّطشةِ الزيت الذي ألهب عواطفي، لأدلفَ في الأخير داخل المطعم قائلا في نبرةٍ مستهينة :" قرصين طعمية ورغيفين يا ريس " رويدا رويدا عاودتني الثقة، وأخذت أحيا لحظات لا يعكِّر صفوها مُعَكِّر .