السبت 20 ابريل 2024

جولة عبر آثار مصر الخالدة (2)

مقالات13-12-2021 | 16:33

معبد الكرنك

لم يكن غريباً أن ينبهر العرب به عند رؤيتهم له، وتتلبسهم الدهشة، ويتملكهم العجب بأساطينه الضخمة، ومسلاته الفارعة، ومقاصيره الكثيرة وتماثيله المتعددة ونقوشه البديعة الغريبة، وهم الذين قدموا من صحراء الجزيرة العربية، لم يألفوا تلك الأبنية الضخمة الحجرية، ولم يشاهدوا مثلها من المباني العجيبة والقصور الفخيمة، أو يعرفوا، إلَّا قصور فارس والحيرة.

 فكان أن أطلقوا عليه "الخورنق"، تشبيهاً له بقصر النعمان ابن المنذر ملك الحيرة شمال شرق الجزيرة وجنوب العراق، وهي كلمة فارسية الأصل تعني المكان الحصين، أو القرية الحصينة، وقد بناه في القرن الرابع الميلادي، وورد عنه في أشعار العرب وأحاديثهم، وارتبط في تراثهم الشفهي بالمثل الشهير "جزاء سنمار"، حيث تتصل حكاية الخورنق بحكاية المهندس الروماني "سنمار"، الذي صمَّم القصر، وأشرف على بنائه، حتى إذا ما فرغ منه أخبر صاحبه بأن في القصر آجرة لو زالت لسقط القصر كله، وأنه لا يعلم مكانها غيره، فما كان من صاحب القصر إلا أن ألقاه من أعلى القصر، كي لا يخبر أحداً عن تلك الآجرة، فضُرب فيه المثل الذي لا زالت تحتفظ به الذاكرة العربية. هكذا صار اسم الكرنك محرَّفاً عن الخورنق، وصار معروفاً به إلى اليوم.

وقد يكون هذا الاسم محرَّفاً، كما يرى البعض، عن الأصل المصري القديم (كار – نجح)، بمعنى "مقصورة الأوزة المسماة نجح"، التي ترمز للمعبود آمون، الذي قيل إنه ظهر في إحدى روايات أساطير الخلق على هيئة ذكر الأوز وصاح أول صيحة في الوجود.

لكن المؤكد أن اسمه قد تغيّر من عصر لعصر، كما تغيّر شكله وحجمه من وقت لآخر، فقد أطلق عليه المصريون القدماء في عصر الدولة الوسطى "ابت-سوت" وتعني بالمصرية القديمة الأكثر اختيار أو البقعة المختارة، و"نيسوت-توا" أي عرش الأرضين باعتبار أنه معبد المعبود آمون "سيد عروش الأرضين"، و"أبيت-إيسيت" أي "المقر الأروع".. ولا شك أنه كان الأروع في نظر المصريين القدماء ما دام هو "بِر آمون" أي بيت آمون، أو معبد آمون، وما دام هو البقعة المختارة والمصطفاه كما كانوا يعتقدون.

فقد كان آمون المعبود الرئيس لمدينة طيبة فترة طويلة من الزمن، ولهذا بلغ المعبد قدراً كبيراً من الثراء، وأصبح لكهنته قوة سياسية كبيرة.. وكانت طيبة هي المدينة التي ينتمي إليها الملوك الذين وحدوا مصر بعد عصر الانتقال الأول، وبذلك أصبحت واحدة من أهم مدن مصر، وتصاعدت أهمية المعبود آمون بالتوازي مع صعود المدينة إلى الصدارة.

غير أن الكرنك لم يخصص للمعبود آمون وحده، كما أنه لم يكن معبداً واحداً، بل معابد ومقاصير عديدة، فهناك "معبد أمون رع" الكبير، ومعابد "بتاح ومنتو وخنسو وآتون"، إلى جانب معابد الإلهتين "موت "و"أيبت".

 كما لم يتمَّ بنائه في عهد بعينه، بل امتدت مساحته، واتسعت رقعته، وتُوسع في بنائه، على مدار مئات السنين، فزيدت عليه المقاصير والمسلات والتماثيل، التى أهدت إلى ثالوث طيبة المقدس: "آمون، وزوجته "موت، وابنهما "خنسو"، واستمر تكريس وبناء وتشييد هذه المعابد مدة ألفي عام، منذ الدولة الوسطى وحتى العصر الروماني، ففي ضوء أقدم الأدلة الخاصة بالمعبد بداية من عهد الملك انتف الثاني (حوالي2112-2063 ق.م)، أي قبل بداية الدولة الوسطى (2055-1650 ق.م)، وحتى العصر اليوناني الروماني (332 ق.م. - 395 م).

وبعد أن كان معبد آمون بملحقاته لا يتعدى ستة وأربعين فداناً، صارت المساحة الكلية لمعابد الكرنك بعد الإضافات المتلاحقة مائتين وسبعة وأربعين فداناً.. فقد ترك كل ملك من الدولة الحديثة (1550 - 1069 ق.م) أثراً له في هذا المعبد.. فكان معبد الكرنك هو أعظم ما شُيّد من مبان لعبادة الآلهة، ويحيط بمعظم هذه المنشآت سور سميك من الطوب اللبن وبه ثمان بوابات وقد أقامه أحد ملوك الأسرة الثلاثين.. صار معبد الكرنك، أو بالأحرى معابد الكرنك، سجلا حافلاً لتاريخ وحضارة مصر القديمة ودليلاً شاملاً لمراحل تطور العمارة المصرية القديمة والفن المصري القديم وربما الديانة المصرية القديمة أيضاً.

نحن أمام شعب متدين عبر التاريخ، يضحي لأجل معتقداته، من الملوك الذين يبنون للآلهة المعابد والمقاصير، إلى عامة الشعب الذين يقدمون النذور والقرابين، حتى وإن كانوا ضحية خداع الكهنة طول الوقت. فقد كان الملوك يتقربون للآلهة بإضافة المباني والمنشآت، وإقامة التماثيل والمسلات، وتقديم العطايا والهبات، فلما بلغ المكان مداه في الاتساع أقام الملوك مبانيهم في أكثر من جانب، كما قام بعض الملوك بإزالة مباني سابقيهم ليشيدوا في مواقعها مبانيهم.

تحتل الكباش مدخل المعابد في طريق طويل يصطفون على جانبية في سكون وثبات، بطول 52 متراً وعرض 12 متراً. ويبدأ المعبد من صرح الملك (نختنبو الأول) من الأسرة 30، ذو برجين مبني من الحجر الرملي، ويتوسط البرجين مدخل ذو بوابة بارتفاع 26 متراً ومنه، إلى الفناء الكبير وهو فناءٌ مفتوحٌ تبلغ مساحته ثمانية آلاف متر مربع، ويرجع إلى عصر الأسرة الثانية والعشرين، وقد ازدان جانباه القبلي والبحري بالبواكي التي تحملها أعمده مستديرة تيجانها على هيئة براعم البردي، وأمامها تماثيل كِباش لرمسيس الثاني. الصرح فناءٌ مستطيل مكشوف على جانبيه صفان من ستة عشر عموداً ثمانيةٌ على كل جانب وأمام كل عمود تمثال للملك. 

ثم ثلاث مقاصير لثالوث طيبة وهي الأقصر من عهد (سيتي الثاني)، ومنه إلى صالة الأعمدة الكبرى التي تحوي 134 عموداً تتميز بارتفاعها عن باقي الأعمدة، وتعد أكبر صالة أعمدة في العالم فتبلغ مساحتها ستة آلاف متر مربع، يؤدي إليها مدخل أعاد بناؤه بطليموس الثالث والرابع، وهذه الصالة هي أعظم ما شيد من مبان دينية إذ يحمل سقفها 134 عمودا من الحجر الرملي في ستة عشر صفاً.

ثم بعدها مسلة تحتمس الأول ثم مسلة حتسبشوت، ثم قدس الأقداس، ثم نصل إلى الفناء الذي يرجع إلى عهد الدولة الوسطى، وبعده صالة الاحتفالات الضخمة ذات الأعمدة التي ترجع إلى عهد الملك تحتمس الثالث.

وهناك حديقة آمون هي عبارة عن بهو مستطيل يحمل سقفه أربعة أعمدة بردية مضلعة في صف واحد وقد سجل على جدرانها كل أنواع النباتات الغريبة وكل أنواع الزهور الجميلة التي جلبها "آتون".

البحيرة المقدسة تقع خارج البهو الرئيسي لمعبد الكرنك أنشأها تحتمس الثالث بطول 80 متراً وعرض 40 متراً وعمق 4 متراً، وكان يحيط بها سورٌ. ويوجد على جانبيها الشمالي والجنوبي مَقياسٌ للنيل، له مدخلان أحدهما من الجهة الشرقية، والثاني من الناحية الغربية بكل منهما سلالم حجرية. 

وكان يستخدمها المصريون القدماء للتطهر، إضافة إلى احتفالات ومناسبات تتويج الملوك في الحضارة المصرية القديمة، وبالقرب منها يوجد تمثال لجعران من عهد الملك الفرعوني أمنحتب الثالث، يطوف حول العامة لجلب الحظ في طقس لا يمت للمنطق بصلة.

نحن أمام مبنى يتدثر بالتاريخ، يتضخم ويتسع عبر مئات السنوات، تأثرك ضخامة بناياته، وتصيبك بالرهبة والجلال هندسة عمارته، وارتفاع أعمدته، وجمال نقوشه، وبهاء ما تبقى من آثار ألوانها، لا شك أنه كان رائعاً عندما كان كاملاً ملوناً، وعندما كان يعج بمرتاديه وزواره، وكأني بصوت محمد عبد الوهاب، الرخيم، وألحانه الرصينة، والتي تتوافق ومهابة المكان وجلال عمارته وتاريخه، يتردد في جنبات المعبد، من كلمات لا تقل روعة للشاعر المبدع أحمد فتحي:

فى رياضٍ نضَّر الله ثرَاها  ... وسقى من كرمِ النيلِ رُبَاها

ومشى الفجرُ إليها فطواها  .... بين أفراحِ الضياءِ الغامرِ

ها هنا الوادي وكم من ملكٍ ... صارعَ الدهرَ بظلِ الكرنكِ

وادعاً يرقبُ مسرَى الفلكِ  ... وهو يستحيي جلالَ الغابرِ

أين يا أطلالُ جندُ الغالبِ ؟ ... أين آمونُ وصوتُ الراهبِ ؟