حوار: سمير أحمد - عدسه : صبري عبد اللطيف
من منا لايتذكر الشيخ الجليل احد القراء البارزين في مصر والوطن العربي الملقب «بقيثارة السماء» عندما يهل علينا شهر رمضان المبارك من كل عام، هذا الشيخ الذي ولد في حي المغربلين بمنطقة القلعة بجوار مسجدى الرفاعي والسطان حسن بالقاهرة.. الشيخ محمد رفعت والذي اقام أول مدرسة للتجويد القرآني في مصر فقد كان رحمة الله عليه يمس بل يمتلك قلب كل من يستمع إليه ويسرد آيات الله بسلاسة ومهتما بمخارج الحروف واعطاء كل حرف حقه كما نزلت الآيات علي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلما لنقل المعاني الحقيقية الي صدر المستمعين إليه من خلال صوت جميل رخيم رنان بدون تكلف كما ان صوته كان ينقلك الي مقامات موسيقية مختلفة واحداً تلو الآخر دون أن يشعرك وقد كان لنا هذا الحوار مع السيدة هناء ابنه اصغر ابنائه حسين رفعت والتي حملت علي عاتقها عبء المحافظة علي تراث جدها الذي تركه لنا.. حدثتنا هناء كل ما سألناها عنه من مواقف وأسرار كثيرة فى حياته فأجابت بصراحة ووضوح عبر هذا الحوار..
كيف كانت علاقتك بالشيخ محمد رفعت ؟
أنا البنت الكبري لاصغر أبناء الشيخ وعلاقتي به كانت علاقة خاصة لاني عشت في بيت تغمره «الحنية» والعطف من قبل جدي رحمة الله عليه كما كان يقول والدي حيث إنه توفي والوالد في سن الثلاثين من عمره وقد انقطع عن القراءة قبل الوفاة بثماني سنوات نظرا لمرضه وكنت أري والدي في عز الشتاء يكرس جهده ويضبط الاسطوانات التي نسمع من خلالها تسجيلاته ولكنه كان لايحب الخروج مكرساً وقته لكل ما يطلبه منه.
ماذا عن نشأته؟
كان اسمه مركباً محمد رفعت محمود رفعت محمد رفعت، ولد في حي القلعة في درب "الاغوات" وكان له أخ أكبر اسمه محرم فقد كان جدي الشيخ رفعت جميلاً جدا بشكل فوق الوصف وكان والده فرحا به ويحمله في اغلب الاوقات ولكنه في عمر سنتين كما يقال اصيب بالحسد في عينيه كان هذا سنة 1882 وتم علاجه بطريق الخطأ ففقد بصره فبدأ والده يهتم بتعليمه القرآن الكريم وحفظه وهو في سن خمس سنوات علي يد الشيخ فاضل الذي كان يعتز بصوته ودائما يقول اقرأ ياشيخ محمد وقديما كان إحياء أي مناسبة بالقرآن الكريم سواء «فرح - مأتم- عيد ميلاد» وكان شيخه يقدمه لاحياء هذه الليالي وقد ابتلي كثيرا ولكنه كان صابرا وقريباً جدا من الله وتربي علي القرآن ولم يكن مجرد قاريء وإنما كان يتفهم معاني كلمات القرآن الكريم وتحمل المسئولية وهو في سن تسع سنوات بعد وفاة والده فبدأ يقرأ في الليالي.
الشيخ رفعت كان يتميز بالخشوع أثناء التلاوة ما السر في ذلك ؟
تلاوته كان فيها خشوع وتبتل لله والسر في هذا أن هذه كانت شخصيته لأنه كان زاهدا جداً في الحياة وكان لايجري وراء مال طيلة حياته وهذا ما سمعته من شيوخ كثيرين كالشيخ أبو العينين شعيشع لانها قصص تتوارث عبر الأجيال وكان يفضل دائما القراءة بدون أجر عند الفقراء رغم ظروفه حيث كانت تأتيه فتوحات من الله فكان يريد المحافظة عليها وكان يستغرب من هذا، لذلك استطيع أن اقول إنه عارف بالله لأنه عاش حياة الزهد لا يهمه الا رضا الله والحفاظ علي الموهبة التي اعطاه إياها..
متي بدأ يلمع نجمه ؟
بدأ نجمه يلمع وهو صغير عندما أتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن خمس سنوات عندما كان في كتاب «بشتك».
عندما بلغ تسع سنوات عين في مسجد فاضل باشا والذي كان الكتاب ملاصقاً له وظل بهذا المسجد حتي اعتزل القراءة وحتى آخر يوم في عمره وكان هذا وفاء منه لهذا المكان الذي تعلم فيه ورفض الكثير من المساجد الكبيرة الأخري وكان التجار يأتون يوم الجمعة من كل محافظات مصر فيتوجهون الي مسجد فاضل باشا لكي يستمعوا للشيخ محمد رفعت فبرغم حجم المسجد إلا ان كان شديد الزحام، وقرأت هذا في مذكرات فكري أباظة حيث انه ذهب في يوم الجمعة في العاشرة صباحا فلم يجد مكاناً فاضطر الذهاب في الجمعة التالية في الثامنة صباحا حتي يجد مكانا فكانت شهرة الشيخ رفعت حتي قبل افتتاح الاذاعة علي مسمع الكثيرين.
يقال إن الشيخ محمد رفعت كانت له علاقات كثيرة بالفنانين فما السر في ذلك ؟
عندما ذاع صيته التف حوله كل المثقفين أدباء ، شعراء، فنانين، كلهم كانوا يحبون سماع صوته و كان يقيم صالوناً ثقافياً داخل بيته لانه كان عبارة عن ثلاثة أدوار الدور الاول كان عبارة عن ثلاثة "منادر " وكان يطلق علي مكان الجلوس " مندرة " كانت ملتقاهم وانا اعرف انه كان يذهب اليه الشاعر أحمد رامي وأيضا نجيب الريحاني وبديع خيري وأم كلثوم في بداياتها كانت تذهب إليه هي وليلي مراد اما الصداقة الحميمة فكانت مع عبد الوهاب الذي كان يقول إنه صديقي الي أن يقرأ القرآن اجلس تحت قدمية كخادم له كانت علاقة جميلة وأيضا مطربة القطرين فتحية احمد وصالح عبد الحي كان صديقه جدا وأيضا اخته كانت صديقة الاسرة كانت تتزاور هي وعمتي ايضا، والشيخ زكريا أحمد الذي كتب اغنية لحنها وغناها في يوم مولد ابن عمتي، وايضا علماء الازهر وكان والدي يقول إنه كان مستمعاً جيداً لكل زائريه ولايدخل في جدال أبدا كما انه كان يمتلك مكتبة ثرية جدا ليس في الدين فقط وإنما مليئة بكتب في شتي المجالات وكان يستعين بوالدي ليقرأ له عندما كانت سنه عشر سنوات فيخطيء في التشكيل فكان والده لايفوت شيئاً له بينما الدموع تنهمر منه وكان والدي يتعجب من بكاء جدى الشيخ رفعت فعرفت بعد ذلك أنه كان بكاء لرقة قلبه الشديدة وتعلقه بالله اثناء ماكان يقرأ له.
ما أهم الصفات التي كان يتميز بها الشيخ ؟
دمعته كانت قريبة جدا ويرجع ذلك "لحنيته " وطيبته الشديدة.. كان شديد الاحساس، حكي لي الشيخ أبوالعينين انه ذات مرة وجد الدموع تنهمر منه فأخذه في حضنه وقال له هون علي نفسك يامولانا، فهوكان عندما يقرأ يحس في نفسه ان الله هو الذي يكلمه فتدمع عيناه بخلاف كثير من الشيوخ عندما يقول لهم المستمعون الله عليكم فتسعدهم الكلمات ..... كان دائما مؤمناً بمقولة إذا أردت لأن يكلمك الله فعليك بقراءة القرآن وإذا اردت أن تكلم الله فعليك بالصلاة.
ما البلدان التي زارها لإحياء الليالي الرمضانية ؟
رفض زيارة الهند بعد طلب احد المسئولين الكبار هناك بأن يحيي الليالي مقابل مائة جنيه في الليلة وقتها. ويرجع ذلك لزهده الشديد لكنه طاف الكثير من المحافظات داخل مصر وعندما كان يطلب منه أحد الباشوات احياء ليلة وتصادف ليلة اخري لاحد الفقراء فكان يذهب لإحياء ليلة الفقير.
ماذا عن تراث الشيخ وماذا فعلتم لكي تحافظوا عليه ؟
بالنسبة لتراث الشيخ كله طبعا تراث صوتي لتلاوات القرآن الكريم و المصحف ليس كاملا والإذاعة لم تسجل له شيئاً ولكن كان هناك احد الباشوات محباً لصوته كان يجرى تسجيلات منزليه بدون علمه حتي انه مرض وجاءت مجلة المصور لإجراء حوار معه وتم تصويره وهو طريح الفراش لكن مشاكل الحياة أسرع فلم يعيروا اهتماما لكن القراء تعاطفوا معه لحبهم له وكتبوا له خطابات كثيرة يعطون فيهاالنصائح وجمعوا مبلغاً كبيراً من المال له ارسله رئيس لتحرير في وقتها لكنه رفض وقال اهل القرآن لايهانون أبداً ورفض هذا المبلغ وقال فليذهب لمن يستحقه وعندما سمع زكي باشا مهران غضب جدا لمرضه وأخذ اسطوانة عليها سورة مريم وعرضها علي الاذاعة فقالوا له ما طلباتك فقال لهم يجب أن يكون للشيخ رفعت معاش شهري يعينه علي ظروف الحياة لكنه كان قد فارق الحياة قبل ان يتقاضي أي مبالغ وهذه قصة حب للشيخ من قبل الباشا واخته في ان يهدياه جميع الاسطوانات التي لديهما لنا وعملنا كل ما في وسعنا لكي نستمع الي الـ30 ساعة الموجودة في الاذاعة حتي الآن ونحن كأحفاده حوالي 16 حفيداً نجتهد لاظهار الـ30 ساعة الاخري للحفاظ علي هذه الثروة ومدرسته التي لن تتكرر لاني اعتقد ان شخصية الشيخ رفعت حالة ولن تتكرر.
يقال كانت للشيخ محمد رفعت بعض الكرامات اذكري لنا بعضا منها؟
سمعت قصصاً كثيرة جدا انه كان وليا وله كرامات وأنه كان صوفيا ويتبع الطريقة النقشبندية وكان يدخل خلوته ويناجي ربه والوالد كان يحكي لنا انه كان يسمع صوته في مناجاته للخالق وسأحكي واقعة حكاها لي والدي هى ان جدي بعد ان صلي العشاء استدعي ابنه الكبير محمد وكان بمثابة سكرتير له وايضا ذراعه اليمني وقال له احضر "الحنطور" ثم قال له توجه بنا فظل يصف المكان الذين سيذهبون إليه حتي وقف أمام ليلة مأتم كانت لاحدي السيدات نزل وألقي السلام وقابل أحد ابنائها وقال له ياابني امك اوصتك بأن يقرأ الشيخ رفعت في ليلتها فلماذا لم تنفذ طلبها فقال الابن " إيش " أوصلنا للشيخ رفعت ولم يكن يعرفه،فقال الشيخ استأذن لي أن اقرأ لاني أنا الشيخ رفعت فهذه كرامة له فكيف عرف كل هذه الامور وهناك موقف اخر حدث له مع أحد اصدقائه كانوا يصلون المغرب جهرا فوقع الشيخ علي الارض ولما افاق الشيخ سأله صديقه ماذا حدث؟ فقال قرأت آيات النار والعذاب فوقعت من شدة خوفي من عذاب الله وقصة أخري انه كان محبا لأهل البيت ويقطن خلف مسجد السيدة زينب وعندما يمر أمام المسجد يرفع يديه ويلقي السلام أكيد هي علاقة روحانية وله من الحكايات مثل هذه كثيرة.
ماذا عن المواقف المشرفة في حياة الشيخ رفعت؟
حياته كلها كانت مشرفة ولكن تتعجب عندما تعرف انه عندما بلغ تسع سنوات وكان يذهب لاحياء إحدي الليالي ولانه يدرك مسئوليته عن اسرة كبيرة بمن فيها خالته فكان يأتي بالمبلغ الذي تقاضه ويعطيه لها هذا موقف مشرف في حد ذاته ويرفض آلاف الجنيهات لاحياء ليالي رمضان خارج مصر حبا في أن يقرأ للناس الطيبين غير القادرين وكذلك رفضه أيضا مبلغاً كبيراً أثناء مرضه وهو كان في أشد الاحتياج له وأيضا عندما يعرض عليه المهراجا الهندي احياء ليالي رمضان في الهند ويرفض وعندما احيا إحدي الليالي واعطاه صاحب الليلة مليما بدلا من جنيه ذهبي وعاد إليه ليصحح خطأه فرفض وقال هذا ما قسمه الله لي واصر ألا يأخذ إلا المليم كلها مواقف مشرفة تحسب له وتشرفنا نحن أسرته جميعا.
ماحكايته مع آلة العود والمقامات الموسيقية ؟
كان يحب هذه الآلة وكان يمتلك واحدة عنده وكان يحب سماع الموسيقي الشرقية والموسيقي العالمية ومن الذي تركه لنا في مكتبته موسيقات لبيتهوفن وموتسارت ومرة اسمعنا والدي إحدي الاسطوانات الكلاسيك التي كان يسمعها فكان ذوقه عالياً جدا وايضا كان يبدع فيها أثناء قراءته للقرآن الكريم بالمقامات وحصل علي أجازة لإجادته القراءة بالقراءات ومعي مايثبت ذلك كانت طبقات صوته تنقلنا من مقام الي مقام دون أن نحس وهذا ماقاله لي الشيخ نعينع.
وفي نهاية الحوار قدمت السيدة هناء حسين حفيدة شيخنا الجليل محمد رفعت الشكر لـ «الكواكب» لاهتمامها بالشيخ وتعريف القاريء بتلاوته وعذوبة صوته المرتبطة بشهر رمضان الكريم والذي يعتبره الناس هدية من الله عز وجل لجدي وسيبقي صوته متواجد لقيام الساعة واتمني من خلال منبركم أن يكون هناك اهتمام من قبل المسئولين في إخراج الثلاثين ساعة الأخري من تراثه لانني بمفردي لا استطيع فعل شيء واملي في أن تستمتع بها الجماهير العريضة في مصر والوطن العربي كما أسعدهم الثلاثين ساعة الاولي ليبقي اسمه يضيء لنا حياتنا وفي ذاكرة الأمة الإسلامية ويذكرنا بالماضي الجميل أثناء فترته التي عاشها.