الجمعة 7 فبراير 2025

مقالات

هل كان اختلاف الفقهاء رحمة؟

  • 16-12-2021 | 11:53
طباعة

بداية لابد من الاعتراف بأن هذه الكتابة ليس المقصود منها إثارة فتنة ما، أو اتهام أحد الأطراف ونصرة طرف فقهي على آخر، بل المقصود منها هو إعادة قراءة لتاريخنا الفقهي وكيف اختلف الفقهاء في المسألة الواحدة وهل كان هذا الاختلاف رحمة بالأمة أم ادخلها في صراعات وصدامات لم تنتهي حتى الآن وكان من نتيجتها حروب في الماضي وتكفير وإرهاب في الحاضر، كل ما نحاول الوصول إليه من إعادة قراءة المدونة الفقهية وتحليلها  تجنب الصدامات التي كانت في هذا التاريخ، وإنتاج فقه يتناسب مع عصرنا الحالي يدعو للتعايش السلمي وحرية الرأي والتعبير والمعتقد بعيدا عن التكفير والاحتراب والتطرف والإرهاب.

ونبدأ هذه السلسلة في مسألة اختلف فيها الفقهاء لأخذ كل واحد منهم بحديث مفرد اتصل به، ولم يتصل به سواه، ما روي عن عبد الوارث بن سعيد أنه قال: قدمت مكة فألقيت بها أبا حنيفة، فقلت له: ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا؟، فقال: البيع باطل والشرط باطل!
فأتيت ابن أبي ليلى فسألته عن ذلك فقال: البيع جائز والشرط باطل.

فأتيت ابن شبرمة فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط جائز، فقلت في نفسي، سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة! 
فعدت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدرى ما قالا لك؛ حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله عن بيع وشرط، فالبيع باطل والشرط باطل؛ فعدت إلى ابن أبي ليلى فأخبرته بما قال صاحباه؛ فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة فاعتقها، البيع جائز والشرط باطل.

قال فعدت إلى ابن شبرمة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر قال: بعت النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا وشرط لي حملانه إلى المدينة، البيع جائز والشرط جائز.انتهى من كتاب الإنصاف للبطليوسي ص70،71

هذا النص المقتبس والأحاديث مذكورة في البخاري ومسلم إنما يؤكد اختلاف الفقهاء حول البيع المشروط، مسألة واحدة اختلف فيها فقهاء العراق الثلاثة، وليس الخلاف بينهم في هذه المسألة فقط ولكن أخذنا هذه المسألة كمثال ليس إلا، لاختلاف فقهاء العراق فيما بينهم حول مسألة فماذا لو عرضنا أراء فقهاء باقي الامصار في نفس المسألة ونعلم أنه كان هناك فقهاء في المدينة ومكة ومصر والشام، لنتبين فيما بعد أن الاختلاف بين هؤلاء الفقهاء إنما اوجد زريعة التكفير بينهم فقد أدى خلاف أبي حنيفة مع فقهاء العراق الى تكفيره والتعريض به وبأصحابه فيما بعد ولنذكر هنا بعض آراء الفقهاء في أبي حنيفة من كتاب البغدادي "تاريخ بغداد": 

1- عن سفيان الثوري، يقول: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين.

2-عن  أبي زرعة الرازي، يقول: كان أبو حنيفة جهميا.

3- عن سفيان الثوري، والأوزاعي، يقولان: ما ولد في الإسلام مولود أشأم على هذه الأمة من أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة مرجئا يرى السيف.

4- قال سفيان بن عيينة: نظرنا فإذا أول من بدل هذا الشأن أبو حنيفة بالكوفة (يقصد أول من حرّف الدين).

5- عن عبد الرحمن بن مهدي، يقول: ما أعلم في الإسلام فتنة بعد فتنة الدجال أعظم من رأي أبي حنيفة.

6- عن شريك بن عبد الله، يقول: لو أن في كل ربع من أرباع الكوفة خمار يبيع الخمر، كان خيرا من أن يكون فيه من يقول بقول أبي حنيفة (يقصد أن أبي حنيفة أخطر على الإسلام من شرب الخمر).

7- قال عدد من العلماء أن قوله تعالى "يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون" [التوبة : 32] يقصد به أبي حنيفة.

8- عن الأوزاعي قال: عمد أبو حنيفة إلى عرى الإسلام، فنقضها عروة عروة.

9- قال عدد من العلماء أن ابي حنيفة كان رجلا (أجرب).

هذه لمحة مما كتبه المحدثون لتكفير أبي حنيفة وشتمه، ومن يريد الاستزادة فليقرأ كتابين "السنة لعبدالله بن حنبل" المتوفي عام 290هـ  و "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي المتوفي عام 463 هـ

وربما يتبادر للذهن سؤال: لماذا هذا الهجوم على أبي حنيفة؟ وربما تكون الإجابة النموذجية بأنه رفض أحاديث الأحاد وقال بالرأي والقياس، فمعظم الذين هاجموه وكفروه هم محدثون يركنون للنقل والرواية ولا يعترفون بالعقل والدراية.

يقودنا هذا إلى القول بأن التشكيك من قبل كل مذهب بالمذاهب الاخرى قد يصل الى حد الاخراج من الملة، وهذا يترتب عليه إنتاج حتمي للعداوة والفرقة التي توهن من عزم الأمة وتجر الى انحطاطها وتجعل بأس ابنائها فيما بينهم.

ولنتذكر سريعا بعض من الفتاوى و الاحداث بين الفرق المتباينة لنستنج بعد ذلك حجم الدمار الذي خلفه هذا الصراع:

- علماء الشافعية يحرمون زواج الشافعي من حنفية إلا بالقياس على الكتابية (جمعٌ من الفقهاء قال بكراهة الزواج من الكتابية وقسم آخر حرمها)، أما الأحناف فيحرمون الصلاة خلف الشافعية.

- في سنة (469 هجري) بعد الاقتتال العنيف بين الحنابلة والشافعية حاول نظام الملك حل المشكلة، فقال رئيس الشافعية (فأما هؤلاء فيزعمون اننا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافرا، فأي صلح يكون بيننا؟).

- يقول الشيخ محمد بن موسى الحنفي المذهب(ت 506 هجري)(لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية).

- وفي سنة 407 هجري، ارتكب المعز بن باديس (المالكي، ت 454 هجري) افضع المجازر بحق الشيعة شمال افريقيا حتى ذكر أنه تسبب في انقراض الشيعة في تلك البلدان، وقد قتله أبو زيد الهلالي(الإسماعيلي المذهب).

ما قمنا بتقديمه هنا ليس إلا مقدمة لما سوف نتناوله في المقالات القادمة من هذه السلسة والتي سوف نطلق عليها "حرب المذاهب" ونذكر هنا أن أبي شامة رضي الله عنه قال في مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول: سئل بعض العارفين عن معنى المذهب فأجاب أنه معناه دين مبدل، قال تعالى: ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ص10

فما الذي كان يقوله العارفون الذين نقل عنهم أبي شامة قولهم في المذهب لو كانوا معاصرين لنا وشاهدوا هذا الكم الهائل من الجماعات والتنظيمات والحركات الإسلامية والمنتشرة في مشارق الأرض ومغاربها شمالها وجنوبها!

الاكثر قراءة