الثلاثاء 16 ابريل 2024

‎فوضى المفاهيم

مقالات18-12-2021 | 21:04

من العظائم الكُبرى في سردية المفاهيم العربية، إسقاط مفاهيم ذات سياقات مختلفة على سياق آخر في استلاب للدلالة اللغوية، مثل إسقاط آيات نزلت في مشركين في زمان مُعين على مخالفين مسلمين في زمان آخر، لذلك لا غرابة أن تجد لصاً يستخدم مُصطلحات الأمانة والشجاعة وجوهره لص ذروق.

الأفكار والمفاهيم الصلبة لا تستمد قوتها من البلاغة والزخرفة اللغوية، هي لا تحتاج إلى محام وفيلسوف ومُفكر، قوتها تنبع من وجودها على الأرض وتمامها منطقياً بمحض الإرادة، وأخطر ما يمكن التورط به والانزلاق في وحْله هو سحر الفصاحة والبلاغة وحذق فن "الخطابة".

إن من الكلام إبهار ومن البيان سحر.. بيد أن المُتلقي اللبيب هو من يتعرف ما وراء الخطاب ويحرز حقيقته ومدى المنطقية فيه. وما أكثر ما سنجد خلف هذا السحر المبين منطقاً أعوج وحديثاً فارغاً على عواهنه، فهنالك جحافل من شياطين التفوه الذين يسبكون العبارات الخرقاء والمفرَّغة من المعنى ويهندمونها بكافة الأشكال اللغوية البرّاقة، وفي الوقت نفسه لا تعكس اللغة الجافة عمق المضمون بالضرورة. وهذه أمور تعود إلى رهافة حس القارئ وفطنته وهذا ما لا يمكن تعليمه.

لذا فعند شعورك بالحاجة إلى الدفاع عن أفكارك بالبربرة، فأعلم بأن أفكارك هشة فُرضت عليك قسرياً دون إرادتك. إن بذور الفكرة قد تكون موجودة ولكن تعوزها لغة غنيّة تصيب الهدف وتؤدي المعنى في أبهى صورة، إن اللغة فتح! تفتح أسرار المعاني وتضيء فحمة الظلماء.. إنها الكنز البشري الذي نأخذ منه ولا نشعر بقيمته. اللغة قد تكون هي الفكرة ذاتها، وإدراكنا للأمور بنسبة كبيرة يعتمد على اللغة، فاليونان مثلا لديهم مفردتين للإشارة للون الأزرق ولا يميزون بين درجاته عكس اللغات الأخرى، هنالك الكثير من الحالات المشابهه، فاللغة هي إحدى وسائل الإدراك وكذلك تخاطب العقل مع نفسه والآخرين.

وفي النهاية يجب التوضيح بأنه عندما يتم بناء المعرفة والثقافة والمفاهيم على الاستغفال وليس عبر الحوار والنقّد الشفاف، يتكون جسم ثقافي مُزيف هشّ ونفوس دونية جاهلة تجنح إلى التنفيس عن الكبت بممارسات بينية عدائية بطرق خسيسة، حيث الكل يحارب الكل للانتقام. وصناعة المفاهيم الصحيحة تحتاج إلى الاتساق مع الحاضر وصناعة فكر ومفاهيم منطقية، ليتم صناعة القوة التي هي حجر الرحى في تعديل موازين القوى، الخطابة والتذاكي والكذب والفبركات والتقعيد والسّب والصياح ونظريات المؤامرة التي يخلقها العقل المأزوم لن تفلح أبدًا.