الجمعة 27 سبتمبر 2024

عن الناصرية و 5 يونيو ونهاية العرب

20-6-2017 | 16:54

د. جمال حمدان

عبدالناصر هو أول حاكم أو زعيم مصرى يكتشف جوهر شخصية مصر السياسية ووضع يده على صيغة السياسة الخارجية لمصر كما ينبغى فى التخطيط السياسى الأمثل. لم يخترعها بالطبع (لا أحد يخترعها، إلا أن تكون الجغرافيا والتاريخ) ولا كان هو أول من شخصها وتعرف عليها نظريا، فكثير من عناصره كان شائعا بين مثقفى المرحلة ونوقش مرارا فى وسائل الإعلام والثقافة العامة، ولكنه كان أول من بلورها فكريا إلى حد ما ثم طبقها عمليا إلى أقصى حد، ونقلها من الفكر السياسى أو السياسة النظرية والنظرية السياسية إلى التطبيق السياسى أو السياسة التطبيقية، ومن هنا كان أول - وللأسف آخر - حاكم أو زعيم مصرى “جغرافى”، أى عرف وطبق جغرافية مصر السياسية كما ينبغى أن تكون، ولا تنس أن دوائره الثلاث هى صيغة جغرافية (تصوغ) خريطة جيوبوليتيكية أصيلة، طبعاً وليس معنى هذا أنه كان جغرافيا بالطبع أو الحدس، ولكنها الحاسة الجغرافية الكامنة فى كل من يتصدى للعمل الوطنى القومى بالضرورة.

الذى فعلته مصر مع العالم العربى والشرق الأوسط، بخروجها من الصراع ضد إسرائيل، هو تماماً كالذى فعله الاتحاد السوفيتى مؤخراً مع الولايات المتحدة بخروجه من الصراع وإعلان الاستسلام والعجز والتسليم، (وكل من مصر والاتحاد السوفيتى انتحر).

الفراغ الذى تركته مصر تحاول تركيا وإيران ملأه فى الشرق الأوسط، أما الفراغ الذى تركه الاتحاد السوفيتى السابق فهو يشمل العالم أجمع.

عبدالناصر فى جوهره هو محرر «مسودة» draft للمستقبل. بروفة، تجربة، بروتوتيب Blue-pint للمستقبل، مجرد بداية لا نهاية.

المسألة ببساطة هى أن الناصرية هى الانتماء العلمى لمصر فإذا روضتها روضت الانتماء لمصر أى عاديت مصر. وهذا متاح فقط لغير المصرى، ولكنه من المصرى خيانة سافرة للوطن. الناصرية هى الوطنية العملية السوية، هى الوطنية الحميدة فى التطبيق Benign هى أصول جغرافية مصر السياسية فى التطبيق العملى القديم، ولذلك لا يمكن لأى حاكم مصرى إلا أن يكون جغرافى مصر السياسى التطبيقى وإن لم يدر أو يرد.

مشاكل مصر لا حصر لها فى الداخل والخارج ولكن مشكلة واحدة ستحدد مصير مصر فى النهاية وهى نفسها التى حددت مصير عبدالناصر من قبل فكما قلنا إن عبدالناصر سيبقى أو يسقط على أساس قضية واحدة هى فلسطين/ إسرائيل ، فكذلك ستبقى مصر أو تسقط إلى الأبد على نفس القضية، ما عدا ذلك، فدجل مقصود.

وقاعدة عملية ثابتة لا تتغير كل يوم أو يمكن أن تذهب كالمذهب ثم تجىء وتذهب إلخ، وأخيرا فهى قانون علمى موضوعى لا بديل له ولا تبديل يقع خارج الأشخاص والأزمان.

ببساطة قانون مصر السياسى  الحتمى وقانون السياسة المصرية كما ينبغى لهذا فلا ترتبط بعقد القاهرة ولا تنتهى بانتهائه، وهى فرض على كل حاكم بعده ولو كان حتى ضده، باختصار وتلخيص نهائى أن الناصرية هى المصرية كما ينبغى أن تكون، أى المصرية كما ينبغى أن تكون المصرية.

وأنت مصرى إذن أنت ناصرى، ولو كرهت ولو كره الكافرون، إلا إذا كنت غير مصرى أو ضد - مصرى!.

وكلنا ناصريون حتى لو لم ندر أو لم نقبل وفعلاً «كلنا جمال عبدالناصر» كما قال هو مرارا، حتى ولو انفصلنا عنه أو رفضناه كشخص أو كإنجاز، وكل حاكم بعد عبدالناصر لا يملك أن يخرج على الناصرية ولو أراد، إلا وخرج عن المصرية، أى كان خائنا، وهذا فعلاً ما فعل الخائن السادات وتابعه خلفه مبارك، والنتيجة أنك إذا كنت ضد ناصرى (لا ضد ناصر) فكنت ضد مصر، أى خائن لمصر أى خائن وطن، أى فاشى أعظم أو أحقر.

ويمكن لكل مصرى (وهذا حقه المطلق) أن يرفض عبدالناصر، ولكنه لا يستطيع أن يرفض الناصرية إلا وكان رافضا لمصريته، فأنت لا تستطيع أن تهرب من الناصرية، فهى قدر مصر رغم أنفك أو رغبتك، ببساطة لأنها بوصلة مصر وقبلة مصر.

فى ظل الاستعمار البريطانى فى العالم العربى ولم يكن البترول قد ظهر أيضاً، كانت زعامة وقيادة العالم العربى لمصر تلقائيا ومنطقيا وبلا منازعة ومنازل.

فى ظل الهيمنة الأمريكية الآن، وأمركة العرب، مع طفرة البترول المجنونة، انتقلت الزعامة خارج مصر، إلى “البتروليين” الأماركة (اللوبى العربى الأمريكى) أو على الأقل لم تعد مصر قائدة العرب لا .

فى المرحلة الانتقالية بين المرحلتين السابقتين وصل  عبدالناصر قمة زعامته، ولكنها للأسف كانت قصيرة العمر، ولم يستطع أن يرى نذر المستقبل الأسود (أى البترول).

لم تكن الناصرية لغزا أو طلسما أو فلسفة غامضة محلقة معقدة، وإن كانت غير محددة تماما وهلامية نوعا. ولعلها شعار كبير رنان لمبدأ بسيط أولى، وهو «مصر كما ينبغى أن تكون، مصر المثالية» فالناصرية ببساطة هى «مصر العظمى»  great Egypt وليس greater Egypt  ولذا فالناصرية هى «بوصلة مصر الطبيعية» وكل مصرى طموح يريد صالح مصر قوية عزيزة غنية مستقلة (بكل ما يعنى ويتطلب هذا داخليا وخارجيا، بما فى ذلك فلسطين/ إسرائيل، العرب، العالم، العرب.. إلخ) هو ناصرى قبل الناصرية وبعدها وبدونها.

لا يمكن أن يكون هناك ذرة شك فى أننا حتى اليوم مازلنا نعيش “عصر الهزيمة”، منذ 5 يونيو نعيش فى كل نتائجها وأعقابها (إلا قليلا جدا) والمنطقة كلها مهزومة راكعة مضروبة..... حتى اليوم، بل إن نتائجها السلبية تتزايد كل يوم بمعدل الربح المركب بأنها تراكمية.. ونحن ننحدر ونتدحرج كل يوم إلى أسفل سافلين أكثر من المس، وغدا أكثر من اليوم وهكذا.

لا يشك عاقل أن مصر منذ كامب ديفيد لم تعد مستقلة ذات سيادة، وإنما هى محمية أمريكية تحت الوصاية الإسرائيلية، أو العكس، محمية إسرائيلية تحت الوصاية الأمريكية.

كامب ديفيد كانت إعلانا من جانب مصر لإسرائيل أن خذى ما تقدرين عليه من فلسطين، وليأخذ الفلسطينيون ما يقدرون عليه منها أو منك (أى ما تبقى إن وجد).

يعنى كامب ديفيد: إطلاق يد إسرائيل فى فلسطين، مقابل إطلاق يد مصر فى سيناء!

كانت كامب ديفيد هى بداية لعبة (أو لعنة) الدومينو بين العرب.. إشارة البدء لسائر العرب أن ينجو كل بنفسه، ودعك من فلسطين أن سعد فقد هلك سعيد! ولا غرابة أن نجد الدول العربية جميعا القريب منها والبعيد عن إسرائيل تهرول خفية أو علنا للاعتراف والتطبيع.. إلخ.

نهاية التاريخ العربى، نهاية العرب:

كانت 5 يونيو بداية النهاية (للعرب ولمصر).

وكانت كامب ديفيد نهاية النهاية (للعرب ولمصر)

موقف المعارضة فى مصر من النظام هو كموقف النظام من إسرائيل: مهادنة وتعايش وقبول - أى استسلام وركوع وخيانة. لقد انتهت المعارضة فى مصر، إما قبل قيامها وإما بعدها بقليل!

كانت فلسطين/ إسرائيل هى ببساطة كالآتى .. طلبت الصهيونية العالمية دولة لليهود فى فلسطين فأسسها لهم العرب!

المعنى: قيام إسرائيل وضياع فلسطين هو مسئولية العرب والعجز العربى والخيانة العربية والجبن العربى والتفرق العربى.

الذى حدد نتيجة الصراع العربى - الإسرائيلى هو الصراع العربى- العربى.

الفلسطينيون لم يبيعوا فلسطين لليهود ولكن العرب هم الذين باعوا فلسطين والفلسطينيين لإسرائيل!

إسرائيل تدرك تماما أن الحل السلمى إذا تحقق وأسفر عن دولة فلسطينية مستقلة، فإن هذا لن يكون نهاية المطاف أو نهاية الصراع بل نهاية إسرائيل بداية النهاية، لماذا؟ لأن هذه الدولة الفلسطينية ليست هدفا.

لا معنى للعرب وللإسلام، لا معنى للعالم العربى ولا للعالم الإسلامى، بغير فلسطين.

ضياع فلسطين هو زوال للعروبة والعرب والعالم العربى والإسلام والمسلمين والعالم الإسلامى.

محور الكون والوجود والحياة أصبح فلسطين حتى تعود.

من كتاب «العلامة الدكتور جمال حمدان ولمحات من مذكراته الخاصة»