الأربعاء 15 مايو 2024

الضئيل العالق في غمر الأسلاف

21-6-2017 | 10:58

خالد حسان - باحث مصرى

في دراسة لنصوص «السريون القدماء» لمؤمن سمير فرق مجدي أحمد توفيق بين صورتين أو اتجاهين كبيرين داخل منجز قصيدة النثر العربية. يطمح الاتجاه الأول إلى تقديم الحياة اليومية كما هي دون زيادة أو نقصان، من خلال لغة تنزع إلى الأداء الشفاهي، متوسلة بكل ما هو معتاد، وممكن ومألوف لتحقيق مجازٍ كلي، فيما يسمى بقصيدة التفاصيل، وهو اتجاه بدأه الشاعر السوري محمد الماغوط وتلقفه جيل التسعينيات، وأصبح مشروعهم الأثير داخل منجز القصيدة. أما الاتجاه الثاني فهو ما أطلق عليه توفيق: قصيدة الوعي التي" تحاول أن تُسمعنا صوت الإنسان الذي لا يسمعه أحد غيره لأن حديثه يدور داخله بينه وبين نفسه ولما كان هذا الحديث الداخلي لا يخلو من الاستطرادات أو الحذف أو شطط الخيال، فإن القصيدة تحاول أن تخفي عمليات التنظيم التي تجريها على معطيات الحديث الداخلي وتحاول أن تبدو طليقة متموجة حية مثله.

 ومنجز مؤمن سمير الإبداعي هو تاريخ التأرجح بين هذين الاتجاهين بدءا من ديوانه الأول "بورتريه أخير لكونشرتو العتمة" 1999 وصولا إلى ديوان "عالق في الغَمْر.. كالغابة كالأسلاف"، والذي انحاز بشكل كامل إلى الاتجاه الثاني في الكتابة، أقصد "كتابة الوعي" التي ترتبط بشكلٍ ما باللا وعي داخل الإنسان، والتي تنطوي على مجموعة غير محدودة من الغرائز والمحرمات والمكبوتات، كما ذهب فرويد. إن الشعر في ديوان "عالق في الغمر" يخرج من تلك المنطقة الغائرة بين الوعي واللا وعي، ليصور حديث النفس الإنسانية بما يعمل داخلها من خبرات حياتية معيشة وعوالم غرائبية ودوافع وغرائز وأفكار.

يشي عنوان الديوان بمنطلقات الشاعر الفكرية وطموحاته الجمالية، فهو ذلك الجُرم الصغير الذي انطوى فيه العالم العلوي والسفلي، هو ذلك الشيء الصغير العالق في التدفق اللانهائي للعالم، وكأنه يرسم لنا صورة لتدفق هائل يعلق به شيء ضئيل وتافه، التدفق الهائل هو التاريخ الإنساني بما يحمله من خبرات متراكمة، وهكذا يردنا العنوان إلى ثنائية "يونج" في اللا شعور الشخصي واللا شعور الجمعي حيث يشتمل الأول على خبرات الحياة في حين يشتمل الثاني على مخزون المعارف المتراكمة والتجارب والصور التي يشترك فيها كل البشر، أي أن ذكريات الإنسان تقبع في اللا شعور الشخصي بينما تقبع ذكريات الجنس البشري في اللاشعور الجمعي وهو وعي / لا وعي مشترك بين جميع البشر، وهكذا يصف الشاعر نفسه بأنه ذلك الضئيل العالق في غمر من اللا وعي الجمعي، ويعلن بذلك أنه مجرد كائن ضئيل، ليس نبيا أو عرافا أو أي شيء متعال، مجرد كائن ضئيل لا يقوى على الصمود بتاريخه الشخصي أمام تدفق لا نهائي من المعارف والتجارب والصور. يكتب وكأنه يحيلنا مرة أخرى إلى صورة الضئيل العالق في الغمر: "تم قنص النصوص بدءا من 2001" وكأن ذلك الضئيل العالق في التدفق اللا نهائي للتاريخ لا يقف في موضعه مستسلما وإنما يصارع من أجل وجوده الشخصي وهو إذ يفعل ذلك لا يكتب شعرا وإنما يصبح كقناص يقنص ما يمكن اعتباره مبررا لوجوده. وعلى الرغم من أن اللغة مجازية إلا أنها تختلف عن ذلك المجاز الذي اقترن بقصيدة النثر منذ تدشينها على يد جماعة "شعر"، فالمجاز هنا لا ينطلق من أية تصورات كلية أو رؤى ميتافيزيقية. إن الشاعر هنا هو ذاته الإنسان العادي النسبي الهش لكنه مُحمل بأعباء وذكريات ومعارف ورؤى غيره من الأسلاف، يتكلم مؤمن سمير كأنه ينبش في الوعي الجمعي، فيقول:

    نحن المطاريد، الشياطين المكلفة.. التي تصنع لهذا الجبل شرابه الممزوج.. التي تضع الظلام، على كف الوحش.. ولا ترضى عن نفسها حقا إلا ساعة تفتح الطريدةُ عينها، لينط فينا الشفق".

    هنا تتداخل الضمائر والصفات بشكل لا تستطيع معه أن تميز – بشكل حاسم – من المطارد ومن المطارد، هنا تتحلل جميع الروابط والعلاقات المنطقية وتتداخل المفردات في تراكيب وصيغ جديدة تشكل بدورها صورا غريبة ومتلاحقة، إلى الحد الذي يجعل القارئ يبني تأويلا ما ثم تأتي تركيبة جديدة تجعله يقوم بعملية تعديل أو هدم للتأويل السابق وإعادة بناء تأويل جديد. إن عملية البناء والهدم تصبح بمثابة المتعة الجمالية التي يقوم بها المتلقي وتكشف كذلك عن الدور المحدود للشاعر فيما يكتب وكأنه إذ يقنص هذه الصور والتراكيب من ذاكرته ويلقي بها أمامنا، يقوم هو نفسه بنفس عمل القارئ في الهدم والبناء. هنا نلمح خصيصة أسلوبية ملازمة لإنتاج مؤمن سمير وهي أنه يعول كثيرا على فكرة كسر أفق التوقع لدى القارئ وصرف ذهنه عن أي معنى قريب، وهي خصيصة تنطوي على فهم معين للشعر بوصفه ذلك الكيان القادر على تذويب كم هائل من المعاني وصهرها وإكسابها دلالات جديدة، ويصبح دور المتلقي إزاء هذا الفهم محاولة إقامة مجموعة من التأويلات وهدمها وبناء تأويلات جديدة وهكذا يصبح النص الشعري ثريا وطازجا وقادرا على إثارة المتلقي دائما وأبدا لإنتاج معان أخرى.

    لعل من أهم ما ميز "قصيدة التفاصيل" نزوعها إلى تصوير الواقع عبر لقطات مشهدية، والغريب أن هذه المشهدية لم تغب داخل إنتاج "مؤمن" في نزوعه نحو إطلاق طاقات اللا شعور كما أوضحنا فهو مازال مهموما بنقل مجموعة من المشاهد الحياتية لكنه يقدمها بلغة مجازية مراوغة قادرة على كسر أفق توقع القارئ وإرهاقه في دوامات من التأويل، يمكن أن نجد هذه المشهدية في نص عنوانه "الحجرة":

"سقطت القُبلة، حتى أن "الصييت" رقق النغمة.. لما استند على الجدار وغاب". النص يصف مشهدا لرجل وامرأة بداخل حجرة مغلقة غير أن هناك صوت "صييت" يصل إليهما في نغمات رقت حينما قبلها، الشعر هنا ينهض على محاولة تحفيز المتلقي لتخيل أثر تلك القبلة التي كما لو كانت القبلة الأولى لعاشقين اختلساها من قبضة الزمن، القبلة سقطت وكأن معجزة حدثت للتو، حلاوة القبلة جعلت لحن "الصييت" رقيقا في أذن الرجل وجعلت الرجل يستند إلى الجدار ويغيب عن الوعي في حالة تشبه السكر. وبعد هذا المقطع تتدفق العديد من المقاطع الشعرية وغير الشعرية لمؤلفين وشعراء ومغنيين أحال إليهم في آخر الديوان، يبدأ هذا التدفق "الغمر" الهادر بمقطع شعري لعلي منصور، وينتهي بمقطع شعري لعباس بيضون.

    هذا التدفق الهادر يحيلنا مرة أخرى لصورة الضئيل العالق في غمر الأسلاف وتاريخهم، إنه غير قادر على التغريد بمفرده، فالتاريخ يقبع داخله كمحتل خسيس، لا يقدر الشاعر على طرده أو حتى التطبيع معه. يستدعي مؤمن سمير هذا التوحد، فيغرد بأصوات الآخرين، أو من خلالهم، أو يذوب فيهم فيتلاشى تماما ولا تبقى غير أصواتهم الخالدة. النص الذي ينتجه مؤمن سمير نص كبير، ومراوغ، ولا يحتاج إلى قارئ عادي، ولكن يحتاج إلى قارئ واع، صبور، قادر على الغوص في طبقات المعاني التي ينتجها النص، والحقيقة أن النظر إلى إنتاج الشاعر يظل قاصرا طالما اكتفينا بالنصوص وما تحمله من معان ولم نلتفت إلى السياق الذي يحوي العملية الإبداعية من إنتاجها إلى تلقيها، من خلال النظر إلى إنتاجه بوصفه خطابا له منتج ومستقبل، وهذه أطروحة لم تكن من أهدافي في هذا المقال الذي أردت فقط من خلاله أن أقف على بعض الملامح الجمالية وطرائق وآليات إنتاج الشعرية في ديوان "عالق في الغمر" لشاعر يعد من أهم كتاب جيل التسعينيات المصري، وعلامة مضيئة في ذاكرة قصيدة النثر العربية.

    Dr.Radwa
    Egypt Air