الإثنين 29 ابريل 2024

حمادة العوّام.. دمية أنقذت الإنسانية من الغرق!!


جورج ضرغام

مقالات19-12-2021 | 23:02

جورج ضرغام

اسمه ليس "ماو"، ولا "ينج".. ولا يمت بصلة قرابة لـ"جاكي شان"، أو "مو يان" (صاحب نوبل للآداب). ولا يحمل لقب "شوكو زوكو" (أي كبير كهنة معبد التنين القرمزي. بحسب تفسير احمد مكي للقب العظيم في مسلسل "الكبير أوي"!). ملامح وجه ذي العينين الضيقتين، وانفه الصغير، وشعره الأسود المنسدل قليلا. قد تعطيك انطباعا أولي أنه صيني! احذر.. فالملامح خدّاعة، وقد ضللت كثيرون من الآباء والأجداد الذين اشتروا هذه الدمية السبّاحة لأبنائهم وأحفادهم الصغار.

الدمية التي اقتناها، ولعب بها أغلب جيلي السبعينات والثمانينات، مصرية خالصة (الصنع.. والفكرة). اسمها "حمادة العوّام"، وصممتها السيدة "نتالي ضرغام"، وباعتها في متجرها الصغير للعب الأطفال، الكائن في شارع الجيزة (شارل ديجول حاليا)، وقريبا من مسكن الوجه الحقيقي لبطل الدمية المنقذة!

القصة الحقيقية للدمية الشهيرة، المجهولة المصدر لدى اغلب من أقتناها، وكنتُ طفلا شاهد عيان على أحداثها. تبدأ من نهم طفلا مسكين اسمه "حمادة عبد الحليم" (13 عاما)، مصابا بـ"متلازمة داون"، من أسرة فقيرة، أبوه يعمل بوّابا لإحدى البنايات المطلة على "حديقة الحيوان" بالجيزة، والقريبة من "النيل"، و"كوبري الجامعة". عملا شريفا لـ"عبد الحليم"، يكسب منه قوت يومه، ويعول من رزقه اليسير أسرته. لكن فقره حال دون أن يوفر لأطفاله ما يشبع غريزة الطفولة من اللعب والتنزه. فلم يجد "حمادة" متنفسا لطفولته سوى الركض بطول سور "حديقة الحيوان" تحت نظر أبيه الجالس على كرسي قديم أمام مدخل البناية يمارس عمله اليومي المعتاد.

بجوار البناية سيارة خربة معطلة منذ سنوات، وضعت كلبة من كلاب الشوارع (الأليفة) أجراءها الصغيرة تحتها، كملجأ آمن لهم من إزعاج البشر! أما "حمادة" فببصيرة الطفولة وبراءتها، قد رأى جرو يبدو متسخا، فاصطحبه في غياب امه، كي يحممه في "النيل"! وذهب للشارع المجاور، والقى الجرو في النهر فغرق، ثم وقف مستمتعا بالمشد الأليم.. وصمم على تكراره! ولا أثم عليه ولا خطيئة، فهو لا يدرك حجم جريمته، فـ"ذوي الهمم" ملائكة الله على الأرض، ومنزهون من التكليف الإلهي للثواب والعقاب، وما عليك تجاههم سوى أن تلقي الشفقة، أو تلقي دمية.. كما فعلت "نتالي"!

السيدة الأربعينية عرفت من الجيران أن ابن البوّاب، يلقي الكلاب في "النيل"! فأخذتها الشفقة والرأفة تجاه الإنسان، والحيوان معا، وصممت دمية تسبح، تبدو عليها ملامح  الطفل المصاب بـ"متلازمة داون"، واسمتها "حمادة" (على اسمه)، واهدتها له كي يلهو بها، ويعدل من فكرته وخطيئة تسليته بإلقاء الجرو في "النيل". لكن "حمادة" الحقيقي لم يكف عن نهمه البريء بأن يحمم الكلاب في النهر. فذهب في يوم آخر بجرو آخر.. ولم يعد إلا غريقا، وانتهت حياته.. وانتهت القصة، وبقيت "نتالي" لسنوات تقدم للأطفال دميتها الجديدة بوجه "حمادة" القديم  الذي لا يغرق! لأنها قد صنعته يجيد السباحة.

الخيال منحة إلهية لمن يروا الواقع قاسيا، أو أليما!! فربما آمنت "نتالي" بإيماننا –  نحن أدباء وأبناء ذاك الجيل-  بأن أسوأ مهنتين في تاريخ الإنسانية هما: بائع الكتب، وبائع لعب الأطفال. فكليهما يجب أن يقدما بالمجان، أو يباعا بأثمان رخيصة. فالدمية بالنسبة للطفل أغلى من الحليب والخبز، بل وإن ندر الحليب، أو تأخر الطعام في البيوت.. اعطوا طفلهم الصغير دمية يتلهى بها. الكتاب غذاء العقول (كما يقولون)، أما الدمية فغذاء البراءة.. وسندا لجوعة القلب الصغير!.. ولو وجد "حمادة عبد الحليم" ما يكفي براءته من غريزة اللهو، ما مات، وما أمات معه جروين صغيرين.

مات "حمادة عبد الحليم" غرقا في النهر (الأزرق)، ولحقته "نتالي ضرغام" (بعد سنوات) إلى السماء (الزرقاء)، وبقي من سيرتهما المثالية، "حمادة العوّام" تكفيه لمسة من يد صغيرة كي يتحول من دمية إلى آدمي يكمل سيرته الذاتية.. ويشكرني!!

وبمهارة الراوي (شاهد العيان) نزيد على الرواية الحقيقية سطرا مجازي أخير.. أو ثرثرة يوتوبية: مات "حمادة" تاركا رسالته لدميته التي تشبهه، وصُنعت من أجله: أوصيك بذوي الهمم.. وكلاب الشوارع!

Dr.Randa
Dr.Radwa