الخميس 16 مايو 2024

الدراما الرمضانية تنجو من فخ التنميط والجمود

21-6-2017 | 13:59

بقلم – العميد: خالد عكاشة

اعتادت الدراما المصرية منذ عقود، على تقديم شخصيات بعينها فى صورة نمطية تكاد تتكرر فى معظم منتجاتها من المسلسلات أو الأفلام، وكثيرا ما حرمت تلك النمطية الأعمال المصورة من ميزة التنوع والثراء فى بناء شخصياتها، وربما بعض الشخصيات أو المهن ذاتها كانت ضحية هذا التنميط والتكرار لفترات زمنية بعينها، كمثال رجل الأعمال فى فترة ما بعد الانفتاح الاقتصادى فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى..

 

بدت شخصية رجل الأعمال طوال تلك الحقبة «عقدين كاملين» له طابع انتهازى فاسد على الدوام، لا يظهر منه على الشاشة ولا يبدو فى تعامله مع الآخرين سوى ملمح الجشع والكذب والاحتيال، بالضرورة هذا تسطيح مخل لتلك الشخصية فمن غير المتوقع أن يكون كل رجال الأعمال بهذه الصورة، لكن التكرار والاستسهال وضع تلك الصورة فى موقعها الجامد من دون أدنى تعمق أو اتساع للرؤية، حيث المنطق يستوجب توقع شخصيات صالحة وأخرى صاحبة مشوار مهنى محترم وأخرى ضحية لصراعات المنافسين ... إلخ، وهى زوايا بدأت تظهر على استحياء لتكسر هذا القالب الذى ظل راسخا لمدة طويلة. هناك مهن أخرى سقطت هى الأخرى فى فخ الصورة الدرامية، التى أصرت على صناعة القالب، منها الباشوات وملاك الأراضى فيما بعد ثورة يوليو ١٩٥٢م، ومنها أصحاب المهن والحرفيين فى عصر الانفتاح، والموظفين فى عقود طويلة أيضًا ربما حتى الآن، لكن المدقق فى تلك الأنماط يجد سريعًا أن شخصية «رجل الشرطة» ربما ظلت هى الأكثر تداولا بصورة وقالب واحد لم يتغير إلا فى حالات نادرة. حيث ظل رجل الشرطة سجين الشخصية العنيفة الباطشه، غير الإنسانى فى معظم تعاملاته مع الآخرين داخل عمله أو فى حياته الخاصة.. وكان الخروج من هذا الإطار يبدو خجولا وفى إطار أعمال عكف على كتابتها شخصيات موضوعية كان يهمها أن يخرج العمل بالصورة الواقعية المتزنة، ولم يرد هؤلاء من الكتاب والمخرجين أن يكون ضابط الشرطة مجرد شخصية باهتة داخل القالب المكرر، بل ذهبوا إلى المناطق الأكثر حيوية فى عمل رجل الشرطة من أجل إثراء عملهم والرغبة فى الوصول به إلى قيمة حقيقية.. وربما فى هذا السياق ليس المقصود أن تكون الصورة الدرامية لرجل الشرطة خيالية، أو رغبة فى رسم حالة ملائكية هى بالأساس غير موجودة بالواقع، إنما تنوع التناول والبحث عن الزوايا المتعددة لرجل الأمن وهى فى الأصل مهنة ثرية دراميًا، وتحوى بداخلها تجارب ومواقف ومشاهد يمكنها صناعة محتوى درامى متميز يصب فى صالح الشاشة والمشاهد.

فى رمضان هذا العام وسط زخم درامى واسع، كنا على موعد «المؤكد أنه من دون اتفاق» مع أكثر من شخصية جديدة لرجل الشرطة، المهم فيهم أنهم جاءوا بعيدين كل البعد عن النماذج المكررة «وأظن فى هذا كان الاتفاق»، حيث كانت الأعمال الدرامية تضع النجاح والوصول إلى المشاهدين هدفا رئيسيا لهم، مما أخرج أعمال حازت انتباه وترحيب القطاع الأكبر من متابعى هذه الساحة الدرامية المتنوعة.. ربما فى المقدمة من تلك الأعمال جاء مسلسل «كلبش» وبطله الفنان «أمير كرارة» ليتمكن من نقل صورة واقعية ثرية للعمل الأمنى بتعقيداته المختلفة، الصدق والإتقان فى مفردات العمل الدرامى جعلا مسلسل «كلبش» وبالأخص أمير كرارة يحظى بأعلى نسبة مشاهدة واهتمام حتى الآن، القصة بقدر واقعيتها هى جذابة للجمهور وحظى كرارة، الذى يقدم شخصية «سليم الأنصاري» ضابط الشرطة بترحيب وتعاطف كبير من الجمهور، خاصة وهو يتعرض لعدة أزمات فى عمله، مما جعله مهددا بالخروج من الخدمة رغم إخلاصه الشديد فى بذل الجهد تجاه المخاطر.

والواقعية هنا عبرت عن نفسها بكون ضباط الشرطة «أمير كرارة» ربما يرتكب أخطاء غير متعمدة، لكنه طوال الوقت يحرص على مكافحة جرائم الكبار رغم حروب ومكائد زملائه ضده.

وبالنظر إلى ما تم عرضه من تلك الشخصية حتى الآن، أجد أن شخصية «سليم الأنصاري» هى الأقرب شكلا ومضمونا من قطاع عريض جدا من الضباط، وهذا ما دفع الكثيرين لاعتبار مسلسل «كلبش» هو الأفضل بين من تناولوا العمل الأمنى بهذا الاقتراب وهذه اللمسات الحياتية والوظيفية الصادقة، واستعراض زملاء كرارة بالعمل الدرامى يقترب أيضًا من نقل صور التنوع ما بين الضباط بعضهم البعض، وأن توقع وجود اختلافات ما بينهم هى نظرة واقعية تضفى على الشخصيات والعمل الدرامى الثراء، الذى ظل مفقودا لفترة خلال الالتصاق النمطى بالصورة الجامدة لرجل الشرطة.. وهو فى هذا العمل الدرامى حاول القائمون عليه أن يضعوا عمل رجل الشرطة داخل سياق مشاكل وهموم المواطن المصرى العادي، فنجحوا فى تقديم علاقات ومشاهد ناجحة للعلاقة الشائكة دائما ما بين رجال الأمن والمواطنين.. وأظهر تقاطع الأحداث مع مكافحة الإرهاب وملاحقة العناصر الإجرامية قدر الجهد المبذول من رجال الأمن من أجل تحقيق معادلة الأمن بالشارع المصري، وهذا مما نجح المسلسل فى نقله على الشاشة بصورة تفاعل معها الجمهور وصدق تفاصيلها، التى خرجت بصورة محترفة، خاصة فى أداء «كرارة» وفى حرص السيناريو على الإتقان وفى الجهد الإخراجى، الذى غلف مكونات هذا العمل المحترم.

نموذج آخر لـ»رجل الأمن» استطاع أن يفلت من فخ نمطية التناول، جاء فى مسلسل «واحة الغروب» بطولة النجم «خالد النبوي»، حيث تدور أحداث المسلسل فى حقبة تاريخية ظلت دوما غائبة عن الدراما المصرية رغم ثرائها بالأحداث والشخصيات.. المسلسل المأخوذ عن رواية الكاتب الكبير بهاء طاهر وهى الرواية الفائزة بجائزة البوكر للرواية العربية ٢٠٠٨م، تجرى وقائعها خلال نهاية القرن الـ١٩ أثناء حكم أسرة محمد على لمصر، وتبدأ من حيث فشلت الثورة العرابية وبدء الاحتلال البريطانى لمصر ١٨٨٢م، وعلى إثر ذلك تقوم السلطات بنقل ضابط البوليس صاحب الأفكار المؤيدة للثورة «خالد النبوي» من الإسكندرية، حيث عاصر وشارك فى مقاومة الغزو البريطانى للمدينة إلى «واحة سيوة»، فى إجراء ظاهره تكريم وباطنه كان عقابا على تبنيه وتماهيه مع الأفكار الوطنية، التى كانت ترفع من قبل الزعيم «أحمد عرابي» وزملائه من ضباط الجيش المصرى حينئذ. وهو جانب آخر تمامًا وصورة جديدة كلية لأدوار مشرفة ووطنية قام بها العديد من ضباط الأمن على مر التاريخ الحديث، لم يعتد أى من كتاب الدراما تناولها أو إلقاء الضوء عليها، مثل الأدوار، التى قاموا بها فى الثورة العرابية وثورة ١٩١٩م ومقاومة الإنجليز فى يناير ١٩٥٢م بمدينة الإسماعيلية وسقوط شهداء بالعشرات من الضباط وبلوكات النظام، فى اليوم، الذى اختارته وزارة الداخلية ليكون «العيد الرسمي» لرجالها إحياء لذكرى الوطنية والبطولة، التى قاموا بها فى مواجهة المحتل الإنجليزى حينها.

حتى جاء الكاتب الكبير بهاء طاهر، ليخط بقلمه رواية بديعة لشخصيات من لحم ودم بها كافة عناصر التشويق، فضلا عن القيم الإنسانية والوطنية، ويبدع من خلالها صورا وأشكالا لتعقيدات العمل الأمنى فى تلك الفترة، التى كانت فيها مصر تحت الاحتلال، وكيف يواجه ضابط البوليس «محمود عبد الظاهر» الذى جسده باقتدار الفنان «خالد النبوي» تحديات تلك المرحلة من خلال الأبعاد النفسية والوظيفية للضابط فى هذه الفترة الحرجة من عمر مصر.. ورحلة النفى إلى منطقة يسافر لها لأول مرة وتصحبه فيها زوجته الأيرلندية المهتمة بالآثار الفنانة «منة شلبي»، ليصطدم الاثنان بالوضع الأمنى وحالة حرب بين أهالى «واحة سيوة» وطبيعة العلاقات الشائكة داخل هذا المجتمع ذى الخصوصية، التى تحتاج لمهارة التفهم والإدراك قبل أداء العمل الأمنى الروتينى، الذى يمكن قبوله فى محافظات مصر الأخرى.

هذان النموذجان حقيقة هما من المحاولات الجادة، التى نجحت بالفعل حتى الآن من فك الإطار الحديدى الصارم، والذى بدا كثيرا مسطحا ومكررا لشخصية رجل الأمن لتظهر الشخصية خلالهما كيانا من لحم ودم لها جانبها المضيء والإيجابي، بجانب نماذج أخرى من الواقعية أيضا استعراضها والتأكيد على أنها موجودة بسلبيات وأداءات مرفوضة ولن يمنع أحد من ضرورة توجيه النقد لها.. لكن اللافت والذى يستحق الإشادة بالفعل هو البحث فى كلا العملين على مناطق جديدة فى حياة «رجل الشرطة»، والعمل فى سياق تقديم نماذج حية للمشاهد تحظى بالجاذبية، كما هو متوافر المصداقية بالنسبة لها.. وفى جانب منها تأكيد على أدوار وأداءات وطنية إحدى مهام وواجبات الدراما أن تضعها كنماذج إيجابية، نريد لها أن تكون هى الصورة العامة والمتميزة لرجل الأمن لتنتقل من الدراما إلى الحياة الواقعية، خاصة ومساحة ترحيب وتقدير المشاهدين لتلك النماذج يجعلها تجارب فنية قابلة للتكرار طالما خرجت بهذا المستوى الفنى الراقي، وهى فى كل أحوالها أضفت نوعًا من الثراء على شاشاتنا بعيدا عن الاستسهال أو الاستخفاف بوعى وعقول المشاهدين، من دون إغفال أهمية الشق التربوى والقيمى، الذى ينتقل من الأعمال الدرامية إلى جموع المشاهدين، وله تأثير كبير فى صناعة الشخصية تمامًا كقدر المتعة والإثارة فى ذات المنتج الدرامى أو الفني.. وهو يظهر أيضا بدور الحماية للنشء من أجيالنا الجديدة التى يستهويها متابعة مثل تلك الأعمال، فيكون بقدر القيم والمثل والأفكار الصحية والوطنية، التى يبثها العمل الدرامي، يخرج حصادا إيجابيًا على سلوكيات وأفكار الأجيال الشابة، التى هى موضع مراهنتنا على المستقبل القادم.