بقلم – د. طارق فهمى
واهم من يتصورأن خيارات مصر فى الإقليم محدودة، وأن مصر يمكن أن تنصاع إلى دولة أو تجمع مثلما ينصاع الآخرون.. مصر دولة محورية فى الإقليم، ولا يمكن أن تنجح أية ترتيبات سياسية أو استراتيجية فى الشرق الأوسط بدون أن تحظى بدعم ومساندة وتأييد مصرى مباشر، ولأن مصر لا تعرف أنصاف الخيارات أو أشباه السياسات فإنها تتحرك من منطق سياسى وطنى مخطط له وليس مجرد المضى خلف أى سياسة أو أى توجه.. هذه المقدمة ضرورية لمن ظن أن السياسة الخارجية المصرية تدار بسياسة رد الفعل، وهو أمر غير صحيح شكلا ومضمونا خاصة أن الحركة المصرية فى الإقليم تنطلق من تأكيد دور مصرى حقيقى يقوم أولا على ثوابت الدور ومحوريته، ومن ثم فنحن لا نتحرك لممارسة مكايدات أو مناكفات سياسية من أجل طلب القيادة أو إقرار بحقائق الدور على الأرض، فى حين يتصارع الآخرون على هذا، واستخدموا عشرات السياسات من أجل تبنى دور أو الصعود على حساب الدور المصرى الذى رأى بعض الكتاب والأكاديميين أنه تهمش وانحصر وتم تطويقه وأن مصر فى حاجة لمراجعة سياسات معينة، وهو ما يتطلب ممارسة دور آخر من خلال استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة على اعتبار أنه لا توجد سياسات مثالية حقيقية وأن على مصر أن تختار.
ثانيا أن هناك تشخيصا جيدا لطبيعة المخططات الراهنة حول مصر، وصراع الأدوار الإقليمية من تركيا إلى إسرائيل وإيران، ومن ثم فإن على مصر أن تدخل فى منظومة الصراعات الجارية سواء فى ليبيا أو سوريا أو اليمن أو أمن الخليج لتحجز لها دورا مباشرا فى الملفات المفتوحة من الآن فصاعدا حتى لو دخلت مصر فى مواجهات عسكرية مباشرة للحفاظ على أمنها، وبرغم هذا التصور الذى يبدو أنه يمضى عكس التيار، إلا أن مصر مضت وقطعت شوطا كبيرا فى مواجهة التحديات والمخاطر على أمنها القومى، وهو ما لم يتوقف على حدود مواجهة الإرهاب بل امتد إلى تأمين حدودها مع ليبيا ومن تهديدات الجنوب وفى ظل تأسيس أسطول مصرى جديد للحفاظ على دورها السياسى والاستراتيجى الراهن والمحتمل، إضافة للتوجه لبناء منظومة دفاع استراتيجى متكاملة من خلال استمرار التدريب والمناورات، والتى قامت بها فى الداخل، ومع الدول العربية الشقيقة فى الخليج.
ثالثا أن الذين يطالبون بدور أكبر لمصر فى الإقليم يربطون بين ما تقوم به دول مشاغبة مثل قطر أو دول طامعة مثل إيران أو دول ذكية مثل الأردن أو ممالك راسخة مثل المغرب، وبين حدود الدور المصرى ومتطلباته وإمكانياته فى ظل ما تواجهه مصر، وهو أمر يحتاج إلى مراجعة فقد نجح الرئيس السيسى من خلال الدبلوماسية الرئاسية فى إعادة تقديم مصر للواجهة الدولية وإعادة تقديم مصر للعالم، حيث أصبح لمصر وجود ممثلا فى مجلس الأمن إضافة لعودة مصر إلى دائرتها الإفريقية والعربية، وهو أمر لم يقابل بترحاب من دول عديدة تناصب مصر العداء، وترى فى الحركة المصرية ما يقف أمام مصالحها وسياساتها واستراتيجيتها، وبالتالى محاولة إظهار مصر ضعيفة هشة غير قادرة على الحفاظ على مصالحها الحيوية فى مسألة سد النهضة أو تمرير موضوع الجزر أو الخضوع لمتطلبات الشراكة الأمريكية الجديدة متناسين أن مصر استطاعت أن تقف فى مواجهة مد الإرهاب وتنظيماته، وأنها وحدها التى وقفت تدافع عن استقرار المنطقة بأكملها ولم تسلم، ولن تسلم بفضل كفاءة جيشها الوطنى القادر على حماية المنطقة بمفرده ودون أن يلقى دعما من هنا أو هناك.
رابعا آن الأوان أن نثق فى إمكانيات الدولة المصرية وقدرتها على الحركة فى الإقليم وخارجه، خاصة أن مصر تملك الإمكانيات والقدرات المؤهلة لذلك، ومن ثم فإن الجدال حول قبول مصر بترتيبات أمنية تجرى الآن فى صمت أو التأكيد على حديث الصفقات أو التماهى مع أفكار بناء ترتيبات هندسية وسياسية جديدة فى المنطقة غير صحيح، لأن مصر لن تقبل بأى حال من الأحوال فكرة تأسيس ناتو عربى أو أمريكى أو إسرائيلى جديد على حساب الثوابت العربية والقومية المتعارف عليها، لأن مصر التى وقفت فى مواجهة الإرهاب وتنظيماته لن تقدم على خطوة استراتيجية دون أن يكون للصالح المصرى أولوياته الاستراتيجية والمصيرية والرسالة واضحة لمن ظن أن مصر ستقبل بمشروعات أو سيناريوهات عربية على حساب مصالحها الوطنية المعلومة للقاصى والدانى، ولا يمكن القبول بفكرة مناقشتها فى ظل سخافات البعض من الذين هاجموا القرار الوطنى المصرى الذى يدرس، ويخطط ويتخذ على أسس وقواعد، ووفقا لمعايير وضوابط محددة، وليس من خلال مواقع التواصل الاجتماعى أو المنصات الإعلامية لشخصيات لا نعرف تاريخها المهنى أو السياسى، ومع ذلك تكتب وتنتقد عن جهل واضح.
إن المنطقة العربية مقبلة بالفعل على خيارات صعبة وأمام صانع القرار فرص حقيقية غير صفرية للحركة والعمل، وليس صحيحا أن خيارات مصر محدودة أو هامشية كما يتوهم البعض حتى فى مسألة الأمن المائى المصرى، فإن لمصر خياراتها وسياستها التى يجرى الترتيب لها جيدا وفى ظل رؤية أكثر شمولا، كما أن دور مصر فى مفاوضات الصراع العربى الإسرائيلى لن يكون تابعا لطرف عربى أو لطرفى الصراع، وإنما سيكون مركزيا ومباشرا ولن تنجح أية اتصالات أو مفاوضات بدون مصر والرهان على أدوار أخرى لن يفيد، وهو ما تعلمه الإدارة الأمريكية جيدا وتدرك أن مصر بوابة العبور إلى الوصول لحل تاريخى حقيقى للصراع العربى الإسرائيلى، ولن يحسم الملفين الليبى أو السورى بدون دور حقيقى مباشر لمصر، ويكفى أن مصر لم تتورط فى قضايا الإقليم، ومن ثم فإن دورها يحظى بمصداقية يفتقدها الآخرون، وبالتالى فإن التسويات الراهنة والمحتملة لن تتم بدون دور لمصر شاءت القوى الإقليمية أو أبت، وبالتالى فإن مصر ولاعتبارات حقيقية قادرة على التأرجح بين الخيارات الوطنية والقومية، وليس صحيحا أننا لا نملك حسابات محددة لا نتحرك إلا من خلالها، وهو أمر يجب أن يفهمه الجميع الذين يرون فى صعود الدور المصرى واسترداده مكانته ما يزعج بعض القوى التى حاولت أن تمارس دورها على حساب مصر فى مراحل معينة.
مصر دولة ليست عابرة فى الإقليم، وحديثنا عن الريادة والقيادة لا يتعارض مع ما تواجهه مصر من تحديات نسلم بها ونتعامل معها وندركها جيدا، خاصة أن المخاطر التى تواجه مصر ليست سهلة وتفكيك عناصرها يحتاج إلى وقت وهو ما يجرى فى ظل قيادة وطنية حقيقية لديها رؤية، وتوجه لبناء مصر الجديدة ارتكانا لمكانتها ودورها التاريخى الذى لا يمكن أن يهتز أو يتهمش فقدر مصر أن تواجه وتقف فى مواجهة التحديات مثلما فعلت لسنوات طويلة، ولعل إحدى الإمكانيات الكامنة فى الشخصية المصرية قدرتها على التحدى ومواجهة الصعاب والتحديات.
إن استقرار الداخل يعطى الفرصة لصناعة قرار السياسة الخارجية على أسس واقعية ويساند القرار الوطنى الحقيقى، ويعمق فرص نجاح مصر دائما لمواجهة الصعوبات الحقيقية، ومن ثم فإن بناء مناعة وطنية مصرية يتطلب الالتفاف حول الوطن وليس وراء الأفكار الايديولوجية أو الحسابات الضيقة أو الانسياق وراء فكر المؤامرة.. فالوطن بأكمله لنا جميعا، ونحن مدعون لبنائه وإلا فإن البديل دفع مصر لحافة الهاوية وهو ما لن نسمح به أبدا.