الجمعة 17 مايو 2024

الدُّكان


محمد فيض خالد

مقالات22-12-2021 | 17:03

محمد فيض خالد

ظلّت لسنواتٍ أجهلها؛ مغارة " علي بابا" ممتلئة بما يسيل لرؤياه اللّعاب، لم تكن كنوزه ذهبا، بل شيء من مُغرٍياتِ الطُّفولةِ البريئة، حبات الكرملة وقِطع الطوفي وأقماعِ الجَلاّب ودقيق السُّكر المطحون، سألت بإلحاحٍ عجاىز دربنا عنها: "متى يا تُرى بُني هذا المعبد الرّصين؟" لم اظفر بإجابةٍ شافية، تُعَاجِلني "رسمية الدّاية" بصوتها الأبحّ الغليظ: "وأنت عايز إيه منها؟!"، تلوي بوزها في امتعاضٍ، وتعاود ترمي ببصرها الجدران ، وكأنّ سؤالي يستفزنا هي الأخرى ، تعوّدت أمرّر يدي فوق "طلاسة" الطين اتحَسّس بقايا الجير الأملس، أجدني وقد انجذبت إليها؛ أمدّ طرف أنفي المدبّب اتلقى تيار هواء بارد ، قادمٌ مِن فتحةٍ صغيرة في جسدِ بابهِ الخشبي وقتئذٍ يُجَنّ جنوني ، امتصّ بلا هوادةٍ روائحها المُنعشة بردا وسلاما، تَتراقص في مخيلتي صور شتى، أغوصُ في أحلامِ يقظةٍ هانئة، تترقرق الفرحة في عينيّ مُتلهيا، اخال المعجزة وقد تحقّقت، انفَلَقَ الخشب إيذانا  بتدفقِ ما حَوته الأرفف من طيباتٍ، تتمشّى على شفتيّ ابتسامة مهزومة اتلمظ كقطٍّ جائع، يمتلئ صدري بأريجٍ روائح ٍمُسلية ، خليطا من الفانيليا الشّهية، سرعان ما تربكني مُشاكَسات أبناء الدّرب ومضارباتهم، انتزع نفسي في تشظٍّ من هذا البراح السِّحري اعضّ أصابع النّدم، يظل " الدكان " كامنا في عجرفتهِ عَصيّا على الزّمنِ، يجذب القلوبَ إليهِ كالصَّنمِ الذي لا يشَبعُ من القرابينِ، تكسو بابه الخشبي ونوافذه المشرعة مهابة ووقار، تلحظ كُلّ هذا في بواقي طلاء بني محروق ينبئك عن عزٍّ غابر، ترميه خيوط الشّمس حين تحبو من فُرجةِ المشرق، فتكسوه ثوبا قشيبا، لم تكن المشاعر حِكرا عليّ وحسب ، بل كانت وردا ظَلّ يُردّدهُ أبناء الدّرب من المحرومين، الذين تهافتوا كالفراشِ، يُسَبِّحونَ بحمدهِ بُكرةً وأصيلا، ارتموا كطائرٍ نُتِف ريشه بجوارِ العَتَبة، يَسكبوا من قلوبهم الأماني، يتهامسون بنجوى؛ عسى أن تُصيبهم نفخة من نفحاتهِ، علاقتي" بالدّكان" نمت مع أولى حُروفِ الهِجاء، ومع قطع الطباشيرِ اخطّ كلماتي المُهتَزة فَوقَ جِدارهِ، سريعا وجدت من الجُرأة لاعلن عن نفسي في جملٍ قصيرة ركيكة المعنى، يكتمل المشهد إغراءً وتحتكم الشجاعة، فانزع إلى رَسمِ شَخصيةٍ هزلية "للأفندي" صاحب الدُّكان، رأسٌ دقيق، وأنفٌ كبير، وعصاة معكوفة، وضحكات تخرج من فمهِ: "ها ها ها ها" تعودت الغضب يكسو نبرانه، شَرِه النَّظرات يُحملِّقُ كالذِّئبِ الجَريح مُنفعِلا: "دي قلة أدب مقصودة"، كان صاحبنا من الغفلةِ، في أن لا يعتقد بأنّ سميره الوفي وجليسه المُخلص هو الفاعل، لم يكن على وئامٍ مع دُكانهِ ، يهجره أسابيعَ طِوال لا أحد يدري وجهته، إلّا "زكريا" الحصري، يقول في ثقةٍ وهو يبرم ورقة البَفرة: "إنّه يعمل في مصنع السُّكر في قوص ملاحظ عنبر التوريدات " يعودُ بعدَ غيبةٍ، يحمل "فتحي الكلاف " فوقَ حمارهِ، أجولة وكراتين ، بابتسامةٍ غريرة ؛ يُمرّر يده فوق الحِمل: "لقد عَادَ ليملأ الدّكان بخيراتِ الله، ربنا يجعلنا من محاسيبه"، لا يعترف أبدا بالهزيمة ولا يقرّها في قاموسه، استطاع أن يجذبَ عقولنا بخيطٍ رقيق مِن حرير، فعلى الرُّغم من خلوِ الأرففِ، ظللنا نتسمّع من ثقبِ الباب ضحكات علب الحلوى، ورنين حبات السوداني واللّب، وزَمجرة قطع البسكويت، يَرجعُ مع خيوطِ المساء يفتح الباب على مصراعيهِ، يُطالِعُ قرص الشَّمس حينَ يخنقهُ الأُفق، يعتصر آخر قطرة من حياتهِ، وعلى مَقربةٍ من "الكلوب" يُرسل فحيحه المأزوم، يشعَ نوره الأبيض النَّاصع، يُعلِّن عوده صاحبه، ذَاتَ مساءٍ عَادَ "الأفندي" بعدَ غيبةٍ طويلة، استنفدنا معها كُلّ الصّبر ، كرهنا الدُّكان ومللنا روائحه، التي بدت كئيبة ، فلم تعد تحمل غير السّأم والزّهق ، مشى بخطواتٍ متثاقلة وشّحته الشيخوخة بثيابها الخانق، وما إن تحرّكت شّمس النّهار البرتقالية جهة الغروب ، حتّى اغلَقَ صاحبنا الدُّكان ، خَرَجَ مُتأفّفا يلعن تصاريف الزّمن، يَضربُ كفا بكفّ، أكَلَ السّوس الأرفف، والتهمَ النّمل ما تبقى من البضاعة، فترك المكان قاعا صفصفا، قالَ في ابتسامةٍ واهنة:"لقد انتهى كُلّ شيء أيها الملاعين"، اجتمعنا من حولهِ كدودِ الأرض، تجللّت جبهته الفرحة كطفلٍ أهوج، جَعل يضحك في نهنهةٍ تُشبه البكاء، يشاهدُ مُتَسليا الوجوه وقد لطخها دقيق السُّكر المطحون.

مَرّت الأيام عَصية، وفي سَاعةٍ مُبكِّرةٍ، اطمئنَ قلبي بعد معاناةٍ، جعلت اُفتّش في شغفٍ عن كتاباتي القديمة، في زاويةٍ من زوايا الجدارِ، وجدتها وقد خلت ملامحها، تبحثُ مُتأرجحة عن الحياة، نظرت من حولي ومن نفس الفتحة مددت أنفي الكبير، لكنّي لم أثرا مما كان.