الخميس 27 يونيو 2024

رشاقة السرد في قصص محمـد روميـش

22-6-2017 | 15:50

فرج مجاهد عبد الوهاب - كاتب مصري

غامر القاص المصري محمد روميش (1931 ـ 1992) بدخول عوالم إبداعية قائمة أساسا على الحدث وإفرازاته التي تدفع أبطال قصصه إلى التشابك مع الحياة في مساحات مختلفة ومتباينة السمت والسمات منها ما له علاقة بالريف الذي يشتغل الحدث فيه على تنميط حياة القرية المصرية وتأطيرها، أو في مساحات الأحداث التي لعب السرد دوره المتنامي في معظم قصصه، حيث بنية الحدث قبل فاعلية الأحداث ومبرراتها ودوافعها ومن ثم نتائجها على المستوى الفردي أولا، وعلى المستوى المجتمعي والاجتماعي ثانيا، والفعل المحرك والمحرض دون الشخصيات هو المفاعل الأساس لبنية الحدث.

    والحدث يعني الانتقال من حالة إلى أخرى في قصة ما، ولا قوام للحكاية إلا بتتابع الأحداث، واقعية كانت أو متخيلة، وما ينشأ بينها من ضروب التسلسل أو التكرار، وقد ذهب بعضهم إلى أن الأحداث المترابطة في قصة ما، تكون فعلا، وبالتالي فإن الفعل بهذا المعنى، هو مجموع الأحداث المترابطة بحسب التعاقب الزمني، والترابط السببي، والحدث بطبعه وطبيعته هو الذي يُميز النص السردي من غيره فهو هنا عنصر لا مفر منه للذات، فكل عمل في القصة حدث. وقد رأى (لوتمان) أن خصوصية أي نص سردي يجب أن يبنى على تقابل ثنائي يرمز له بالحد الذي لا يمكن خرقه، وهذا الحد يمكن أن يتجسد في التمييز بين غني وفقير وبين مؤمن وجاحد، وبين مدينة وريف.

    وبالعودة إلى آلية شغل (محمد روميش) على الحدث وإلى أي مدى حقق معيارية التناغم بين الحدث والروابط والشخصيات والفعل، وهل حقق ما يمكن أن نقول عنه إنه شغل حدثي مرونق ومدقق ودقيق. ولقد صدر له مجموعتان قصصيتان هما "الليل.. الرحم" في سلسلة روايات الهلال (1986) وضمت سبع قصص، و"الشمس في برج المحاق" عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة (2008) وضمت عشر قصص. وعلى الرغم من التفاوت الزمني بين المجموعتين فلا بد من الإشارة أولا إلى البيئة التي أنتجت قصص كلا المجموعتين لأن ذلك سيفتح لنا دروب كشف الحدث أو الفعل الحدثي الذي شكل معمار بناء القصص جميعها.

    البيئة الحدثية في المجموعة الأولى "الليل الرحم" قروية حيث تتجلى وبكل بساطة وعمق فني عبقرية ريف خمسينيات القرن العشرين بروايات نهاره وحكايات لياليه وأسرار الحقول المزدانة بعرائس الذهب الأبيض، حيث كان القطن في قمة ازدهار زراعته، فتأخذك حكايات ابن الأرض وأديمها ورائحتها في موازاة عبقرية مؤلفها المسكون بعشق القرية كما قال عنه المبدع يحيى حقي في كلمة على الغلاف الأخير: "من قصص روميش أشم رائحة تراب القرية، وأرى أهلها أحياء وعلى المستوى الإنساني المحلي فحسب، وقد بقيت في ذهني من قصصه صورة امرأة قوية لن أنساها، هذا الامتحان الكبير للكاتب أن تدب في شخصياته نبض الحياة، وسمة التخصص والانفراد".

    فالبيئة فضاء مفتوح على أحداث القرية وحكايات الناس وسمرهم، ولهوهم وتعاطيهم كراسي المعسل مع الحشيش وحكايات الوسية، وناظر الأنفار وخناقاته مع العاملين وفي أعماق كل منهم حكاية إما يرويها جهارا نهارا أو يُخفيها في قرارة نفسه، يجتز أحداثها عندما ينفرد وحيدا في مساء مظلم تضيء بعض جوانبه لمبة جاز نمرة خمسة، فتتنامى الأحداث على مساحة القرية تجمل القطن وتبرز "ست أبوها" وكيف تتسرب نظرات إبراهيم لتتأملها، وتقف عيناه على خديها المتوردين، ويسألها إن كان بالفعل قد ذهب عواد لأبيها وطلب يدها منه.

    وفي قصة "فرح سلامة" حدث وحكاية من حكايات الريف حيث سلامة المضرب عن الطعام والعمل لأنه يريد أن يتزوج ووالده الحاج منصور لا يملك ما يساعد به ابنه الذي بدأ حركة العصيان المدني، يزور والده الشيخ عطية يطلب منه تأخير كتب كتاب سلامة على ابنته إلى السنة القادمة فيرفض ويطلب منه أن يبيع قنطاري قطن صيفي، يفكر الحاج منصور بالفكرة، وراح يبحث عمن يبيع القطن بنصف الثمن، ويتطور الحدث وينتهي وفي جيب عم منصور ثمن قنطار قطن وشيء آخر وهذا الشيء الآخر إنما يشكل وضعا متحركا لحدث نشط وغير ثابت.

    يجري الحدث من خلال روابط وشكليات ما بين ثابت، وحركي، ونشط، سمة فنية من سمات قصص المجموعة التي أنتجت حوادث وأحداثا أفرزتها واقعية حياة الريف المصري خلال الفترة الممتدة من أربعينيات القرن العشرين حتى قانون الإصلاح الزراعي (1952)، فقدم تتابعية مشهدية لجملة من الأحداث التي أشارت معظمها إلى طبيعة الواقع القروي الذي عرف الحب والكراهية والنميمة والعقل والصراع من أجل المال، وانتشار رجال الليل من لصوص البهائم، إلى جانب غيرة المرأة ودهائها، وكلها وقائع وأحداث متعاقبة ومتحركة شكلت سمة بارزة من سمات حياة الريف، لتتكامل البنية الحدثية في تنام متشابك مع أدق تفاصيل الحياة الاجتماعية قائمة في حقول القرية وبيوتها، مؤكدا على حقيقة فنية وإبداعية تشير إلى أن الذات في العمل الأدبي تعرف من خلال الحدث الذي يرتبط بهذه الذات أو بتلك وما الفاعل المحرك والمحرض أو العون الذي يمر في نصٍ من نصوص (الليل.. الرحم) التي أشارت إلى تقنية فعل الاهتمام بالفعل.. الحدث، في كل نصٍ أفرز حكاية أفرزت بالتالي حدثا أفرز هو أيضا آلية حركة الشغل الفني الذي امتاز به المبدع وهو الشغل على حدث قائم على روابط واضحة ومحددة.

    أما أجواء بيئة المجموعة القصصية الثانية "الشمس في برج المحاق" فمن الواضح أنها كانت إحدى إفرازات نكسة يونيو 1967؛ فالحدث يكتسب أهميته على كثير من المستويات السياسية والنفسية والاجتماعية، وقد هزت النكسة الوجدان العربي من محيطه إلى خليجه وبالتالي أسهمت بفرز أدب اعتبره بعضهم أنموذجا لأدب الثورة المضادة وقد اتسم بالسوداوية والتشاؤمية والإحباط وفقد الأمل مع إغراق في السريالية والغموض المغلق. والمدقق في تاريخ كتابة القصص يجد ست قصص كتبت بين عامي 1957 و1965 بالإضافة إلى قصة واحدة كتبت عام 1968 وقصتين كتبتا عام 1970.

    ومن ينعم النظر في طبيعة الأحداث التي كتبت قبل النكسة يلاحظ طبيعة بطل القصة الغارق في جبال الظلام يقرأ في الجريدة أخبارا عن الطائرات التي تضرب فيتنام بالصواريخ، وأحداث خليج تونكين وخليج السويس وخليج الخنازير مما يزيد في قلقه واضطرابه:

"إيه يعني السمسرة مش عيب، إحنا هاناكل من الأدب؟

 أدب إيه؟ وكلام فارغ إيه؟ خليك رجل واقعي، أنت كل ليلة تقول: واقعية، واقعية..".

   الحدث غوص في العمق النفسي وإحالة إلى واقع مأزوم لم يستطع مجابهته لا لضعف في قواه وإنما لتعددية الروابط المحفزة للحدث نفسه "الفيضان يتدفق فراقا في قنوات الإنسان الضيقة! متى خلت الأحلام من الرعب والكآبة، وصراخ الضياع".

   تتابعية الروابط رفعت من حرارة الأحداث ولذلك لم يكن التفاؤل إلا نورا خافتا وباهتا يُنير بعض جوانب الإنسان المحبط الذي بدا عاملا مشتركا في معظم القصص.

    في قصة "التراب" المكتوبة في 11 أكتوبر 1968يتجلى الحدث في أعمق صورة وهو يصور واقع الجنود في سيناء، وذلك عن طريق الحوار القائم بينهم "كان الملازم فهيم يلتقط الغمزة اللينة في مخاطبة جعفري لحميد.. بحضرة الصول.. ويلاحظ بخياله أو بعينه الغضب يتشكل على وجه الرقيب حميد"، ويتداخل الحدث مع ذكريات الجعفري وحكايات جده حتى يعطي الأرض التي يرابضون فيها ـ سيناء ـ قدسية الأرض، جدي المرحوم جعفري، مات في سينا أيام السلطة في الحرب الأولانية الكبيرة".

    في المقارنة بين نمطية الحدث في المجموعتين، يتجلى لنا أثر البيئة في تنامي الحدث وقوته فالريف كان أكثر فاعلية وحرارة وقوة لأن آلية تحرك الأشخاص على مساحات مفتوحة على مختلف العلاقات الإنسانية، بينما كان الحدث في المجموعة الثانية متوغلا في عمق النفس الإنسانية، حيث أفرزت إشارات كثيرة، وردت في سياقات القصص التي كُتبت قبل النكسة تشير إلى كثير من الأزمات الاجتماعية التي واكبت الأحداث، مما جعل فعل الكتابة والإحباط حالة عامة أصابت إنسان ذلك الوقت حتى في علاقاته الوجدانية "أدرك كامل مع دقات قلبه المتخافتة، وضعف سيطرته على ركبتيه الثملتين والطاحونة التي تدور داخل رأسه، أنه لم يصل إلى حل". حتى علاقات الحب بين ناس تلك البيئة اختلفت كثيرا عن علاقات الحب في الريف فبقدر ما كانت حيوية نابضة هناك كانت هنا علاقات متواترة أضعفها الفقر، وانتهك حرمة جمالياتها المستوى المعيشي والاقتصادي.

"ده معقول، واحد زيي يتجوز واحدة زيك! انتِ نسيتي إن أبوك كان خدّام عندنا"

ـ أبوك مش أحسن من المرحوم أبويا يا سامي.

ـ اخرسي يا قليلة الأدب، بابا شغل أبوك يكسب فيه ثواب وأنا خليتك بني آدم، تعمل خير ينقلب".

    مما لا شك فيه أن الحوار في القصص خدم الحدث وزادته قوة في الحركة والفعل والانفعال، فحقق المشهد الحواري الذي جاء فاعلا بين التساوي وزمن الأحداث.

    أولى المبدع محمد روميش موضوع الحدث اهتماما بالغا وليس مبالغا فيه، وهذا ما ميز نصه السردي حيث بدا عنصرا لا مفر منه ليس لتعميق الأحداث وامتداد أبعادها على المستوى الشخصي وإنما على مستوى الذات التي رأينا كيف لعب الحدث دورا في تفجير مكنوناتها والتعبير عن حالتها وإحالاتها.

    ومادامت الحكاية محاكاة لحدث يجب أن تكون تصويرا لحدث واحد يشكل كلا، استطاع محمد روميش أن يمسك به، ويحافظ عليه، ويتشكل على يديه نمطا أسلوبيا عرف كيف يشتغل على حدث يدين ببقاء تأثيره فأعطى الحدث السردي قيمته كشكل من أشكال المعرفة إلى جانب ما يفرزه من قيم أخرى جمالية وإنسانية، فالأحداث، والمواقف والشخصيات والزمان والمكان. وقد استطاع بفضل مهارته ومكنته الإبداعية أن ينظم مستويات الأحداث جميعها بحيث لا يمكن اللعب في أي وضع أو موضع، فهو إحالة فنية ومعرفية تسعى الأحداث خلالها لأن تندمج في بنية حبكة القص نفسه، لاسيما وأن الحبكة في مثل هذا المستوى تتمثل أساسا في انتقاء الأحداث وامتدادها إلى جانب الأعمال المروية وتنظيمها وهذا ما جعل مختلف الأحداث التي اشتغل المبدع عليها من المادة السردية حكاية لحدث نام ومتنام على المستويين السرديين: الأفقي والرأسي وهنا يكمن سر نجاح نشاط المبدع على الحدث الفاعل والمتفاعل كوحدة سردية ضامنة لنجاح القصة وتطورها شكلا انسيابيا وموضوعا له علاقات مترابطة بين البطل والشخصيات وخصوصية الأمكنة وانزياحات الأزمنة.