السبت 18 مايو 2024

كل شيء في فلسطين تهوّد إلا نحن .. الجندُ في بطن الحصان

22-6-2017 | 16:04

أثير صفا - كاتبة فلسطينية

كنت في طريقي إلى بيت لحم، حين تعطّل تطبيق تحديد المواقع (Waze)، وهكذا فقدت هداي، وقدت على عماي، وانحرفت سيارتي إلى مسارب القدس. ركنت السيارة إلى الجانب الأيمن من الشارع وحاولت تكرارا تحديد الهدف، والاستجابة واحدة: "يتعذّر الوصول إلى الشبكة حاليا"، وبالتالي يتعذّر الوصول إلى بيت لحم الواقعة على بعد 10 كيلومترات جنوبا من القدس.

   رافقتني في هذا المشوار صديقة حاولت بدورها إثبات نجاعة التطبيق في هاتفها الذكي، ولكنها لم تلتقط أيضا أية بادرة للذكاء. ولأن نظُم الحياة تتخذ تراتبية هرمية، فقد كان بديهيا أمر نزولنا درجة في السلم الحضاري بعد انتكاس التكنولوجيا، وهكذا صرت أخفف السرعة كلما لمحت لافتة شوارع، فاستبيان مضامينها في هذا التيه أهم من استبيان فلسفة ألبير كامو في العبث والتمرّد، بالذات بعد أن تخلّى عني الأب الروحي الذي اتبعت تعليماته أثناء القيادة. هذا بالطبع على أساس أن إسرائيل تتوخى الموضوعية في وضع لافتات تشير إلى بيت لحم أو رام الله أو أية مدينة في الضفة الغربية. ولأني بطبعي إنسانة حسنة الظن صافية النية، كثيرة هي عثراتي، فما بالك إن أحسنت الظن بإسرائيل؟!

   قطعت مسافة ولا أثر لوجهة فلسطينية على اللافتات، "نفي شالوم"، "شعري حيسد"، "هار تسيون"، "جفعات رام"، "شعري تسيدك"، "هار هتسوفيم"، "ميئة شعريم". وإن كان قلب ليلى مراد دليلها، فدليلي تطبيقٌ اكتشفت فيما بعد أن نبي الله موسى يقف وراء عُطله، ولافتات مسيّسة مؤدلجة بأسماء أحياء يهودية لا تعترف بأثر فلسطيني. فتحت شباك السيارة، حررت الهواء من صدري، أشرعت ذهني للكون، وفعّلت حواسي على اعتبارها بوصلة كما يُجمع مدربو التنمية البشرية. قسط من الصمت أتحت فيه الإمكانية للوطن أن يناديني، وللحنين أن يقودني، ولرائحة القهوة العربية أن تحملني إلى مبعثها، ولـ "لحمو" إله الكنعانيين ـ الذي سميت بيت لحم على اسمه ـ أن يغمزني بعلامة، وللسيد المسيح ـ المولود فيها ـ أن يهرّبني إليها، ولتراب هذه الأرض التي نبتُّ منها أن يبدي أي تعاونٍ معي، ولا حياة لمنادٍ. عند الوقوع في المآزق الواقعية، لن يسعفك توجّه روحاني أو أدبي، فهما ترف لا مكان له في ميدان المعركة، والإبداع والمجاز مُلحقان، ولذلك يظهر الألم في كتابة المغتربين أكثر من ظهوره في كتابة المعايشين للألم، ويتحدث شيوخ الفضائيات تحت التكييف عن رحمة الله أكثر مما يستشعرها الأسرى في المعتقلات، ويكتب خبراء الاقتصاد ذوو الرتب الجامعية مقالات حول الفقر لا يتسنى للفقراء حتى قراءتها. وهكذا جئنا كفيا على وجوهنا، أي وقعنا ولم يسمّ علينا أحد، لا نفعت معنا قصيدة في إيجاد ضالتنا ولا معتقد.

   قدت هكذا سيارتي على فيض الله، والغريب أنني وصديقتي بدأنا نلاحظ خلوّ الشوارع من الراكبين والمترجلين. بدت القدس التي تزاحمت الحضارات على احتلالها منذ فجر التاريخ مدينة للأشباح، هجرها أهلها أو هُجّروا، ثم لم يلبث أن رنّ الجواب رنا في أذهاننا: "كنيساة شبات"؛ دخول السبت، إنها الخامسة وعشر دقائق من مساء الجمعة. أقرب تشبيه لوصف مأساوية هذا الاكتشاف هو أن تستيقظ بعد قيلولة قصيرة وتجد نفسك في تابوت. تفضّل وأرني شطارتك في الخروج.

   وهكذا نظرت إلى صديقتي نظرة متعوسة إلى خائبة الرجاء، وقلت لها: "تْشَاهَدي"، فأخبرتني أنها لم تتوقف عن النطق بالشهادتين، ولكنني لم أسمع لأن تركيزي انصبّ على التقاط إشارات ما ورائية. لقد تزامن وقوعي في موطن الزلل مع وقوعي في "موطن" اليهود، بعيدا عن الأيديولوجية التي تقف وراء إشكالية الاصطلاح، فأنا الآن فعليا واقعة في عش الدبابير. وأي الأيديولوجيات تنفعك ساعة يلقيك تطبيق في التهلكة! مساء الجمعة يعني دخول السبت، اليوم الذي فرغ فيه الرب من عملية الخلق، وقرر أخذ break"". فوفقا لشريعة اليهود يُحرّم على البشر ممارسة أي عمل أثناء استراحة الرب، تجنبا لإقلاق منامه. في هذه الاستراحة الإلهية لا يستحمون، ولا يشغلون الأجهزة، كهربائية ويدوية، لا يضغطون على زر التكييف أو المصعد، لا يردون على الهاتف، لا يعدون الشاي لأنه يقتضي تسخين الماء، لا يكتبون أو يشطبون ما كتبوه، ولو انتقلت روح أحدهم إلى باريها يؤجل الإعلان عن الوفاة حتى مساء اليوم التالي، فالباري عندهم ليس متاحا على الدوام، ولا يوفر الخدمة خارج نطاق ساعات العمل.

   إمعانا في تعثّر الحظ وتنحيس النحس، صبّ الشارع الذي سلكته في منطقة ممتدة الأطراف من الأحياء التي يقطنها "الحريديم"، وهم التوراتيون الأصوليون الذين يتمركزون في القدس تحديدا، حيث يقبع حائط المبكى، يقصدونه للصلاة وحشو قصاصات ورقية في فجواته، يخطون عليها أمنياتهم ويتفجّعون في حضرته على خراب هيكل سليمان، على اعتبار الحائط آخر أثر باقٍ منه. وأنا في السيارة، في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ، وبجانبي صديقة كنت قد نسيت خطر حجابها في تأكيد هويتنا مع ارتفاع ضغطي وهبوط الشمس في الأفق، وأعمدة النور الفاقدة لوظائفيتها، بعد أن ضبط موظف شركة الكهرباء المسؤول عن هذه المنطقة المنبّه وفقا للتوقيت الإلهي، نزّل الأمّان، ونام.

   شوارع القدس في هذه الأثناء عبارة عن معسكرات يزحف فيها جيوش من الحريديم الذين استحلّوا الإسفلت. أنا مكاني بالكاد أستطيع التقدّم بالسيارة من كثرة الحشود التي تركت الرصيف جانبا، وعمدا توسطت الشارع. أضغط برفق على دواسة البنزين كي لا أدهس أحدهم، وهم لا يجفلون ولا يرفّ لهم رمش، يندفعون ويقبلون، يتخذون الوجهة ذاتها كالمنوّمين مغناطيسيا، ولا وجود لأية سيارة غير سيارتي، يحاصرونها من كل جانب كجسم غريب دخل إلى جسم منيع، أتقدم ببطء ذكّرني بموكب كينيدي قبيل اغتياله. أطالعهم بدهشة، ولا أدري من أي فتحة للصرف الصحي ينبعثون، للحظة خيّل إليّ أنهم ينبثقون من باطن الأرض، فلا أحد ينزل من بناية أو يفضي إليها، وإنما هكذا يفيضون جزافا من العدم، حاخامات يرتدون معاطف طويلة سوداء وقبعات عالية السقف سوداء أيضا، أطلقوا لحاهم وسوالفهم، تحتشد حولهم نساء وأطفال حريديون يلتحفون السواد. حرفيا يحتلون المدينة، حرفيا سادة الموقف، علية القوم، أصحاب الأرض، والقابضون على الحق والأرواح، يطالعوننا بسخط ولا يتزحزحون سنتيمترا لنمُر، مارقتان تجرأتا على حرمة السبت، شوّشتا سكينة الكون، وقضّتا مضجع الرب.

   على ما يبدو أننا لم نوقظ "يهوه" ساعتها، فمن المعروف أن إيقاظ الغاطّ في النوم يثير حنقه، فلو أزعجت حتى سبونج بوب سيقوم ويسخطك، فما بالك بإله بني إسرائيل الذي أرهقه اليهود لعقود، ويستحق شيئا من الراحة في الويك إند! صحيح أنه نام مقتولا ولم يستفق لصوت محرك السيارة، ولكن عباده المتحمّسين لتطبيق قانون العمل من الملتزمين بشريعته، بدأوا بالخبط على السيارة والتوعّد لنا بإحدى الإيماءتين: لف الكف عند الرأس كإشارة للمسّ بالجنون، أو تحريك الكف باستواء الأصابع بشكل أفقي عند الرقبة كتوعّد بالذبح، وهناك فتيان ارتسمت على وجوههم ابتسامة التشفّي بالشهادة على مصرعنا الوشيك.

   من عادة الفلسطينيين أن يقولوا حين يجزعون "يما يا حبيبتي" كلازمة كلامية تعبّر عن الخوف، وأنا لا أذكر أني استخدمت هذا التعبير من قبل، وها قد جاءت اللحظة التي أحرّر فيها هذا التعبير من كبته، ناديتها كثيرا وعبّرت لها غيابيا عن حبي. كأسراب الجراد يقبلون، يتدفقون في سبيل "يهوه" المستلقي على أريكة سماوية. لعلّهم ذاهبون بصمت إلى الصلاة، فالكلام ممنوع في هذا الوقت إلا للضرورة والذكر. ولفظة "يهوه" (Yahweh) تعني الإله القومي لبني إسرائيل، الذي اصطفاهم على العالمين، واتخذهم شعبا، وتعهّد بإنقاذهم وإيجاد أرض تلمّ شتاتهم وفقا للعهد القديم، وبذلك يختلف عن مفهوم "الله" الكلي المعروف لنا. وفي اليهودية لا يُلفظ هذا الاسم جهارا نهارا نظرا لعظم قداسته، فحصره بلغة ملفوظة ومكتوبة يقيّد دلالته، ولأنه غير محدود ينادى بألقاب بديلة يجوز جريها على اللسان مثل "هشيم" (الاسم) أو "أدوناي" (سيّدي)، وغيرها من الأسماء الرمزية.

   وإن كان يهوه متحيزا وعنصريا فما بالك بشعبه المختار من بني يعقوب؟ أولئك الذين ينوبون عنه حين يتغيّب، صغاره ومدللوه الذين تقتصر حياتهم على عبادته ودراسة التلمود والإنجاب، تماشيا مع الوصفة التوراتية السحرية لسيادة السلالة المقدسة للأرض. فالعمل الدنيوي محرم في عقيدتهم، ويصل عدد الأبناء في الأسرة الواحدة إلى عشرة أنفس وأكثر، والحكومة الإسرائيلية دقت على صدرها وقالت أنا لها، فتكفلت بتكريس الرواتب الشهرية لهذه العالات، تجني الضرائب من فلسطينيي الداخل، لتطعم خدَمَة الرب ورعاة الكينونة الإسرائيلية ومبرري وجودها في أرض فلسطين.

   الدنيا عتمة، وآخر الشارع مسدود بحاجز حديدي، مددت يدي إلى رأس صديقتي وبحركة لا إرادية خلعت عنها حجابها.. بررت لها بأن لديهم ما يكفي من الأسباب لقتلنا! الموت الحتمي أمامنا، جند عزرائيل يتحلق حولنا، قطعة حلوى وقعت على مستعمرة نمل.

   كلما لمحنا نهاية شارع وتراءى لنا حاجزه الحديدي، دخلنا آخر، وهكذا درنا في متاهة بلا مخرج، حوصرنا، صرنا ننفذ من بئر ونقع في بيارة، الشوارع مغلقة، والغاضبون لا تعرف من أي جحيم ينبثقون، يُبعثون مع العتمة سوادا على سواد، وتقدُمنا مع كثافتهم يصير أبطأ، والخلاص صار فكرة تقترب من دلالتها المسيحية وتبتعد عن معناها الحرفي كنجاة. واسم المنطقة التي وقعنا فريستها "ميئة شعريم" وهي تعني البوابات المئة، وأنا لم أتخيل مسبقا أن سبب التسمية قد يعود إلى وجود مئة شارع تنتهي بمئة حاجز حديدي كناية عن البوابات المئة.

   بعد مرور ساعة وربع من الدوران في حلقة مفرغة تراءى لنا في أحد الشوارع الفرعية فراغ بين الحاجز الحديدي والرصيف، وصادف أن كان الرصيف خاليا من الزومبي لجزء من الثانية، وصادف أن السيارة رباعية الدفع، بربلة ساق متشنجة على الدواسة طرنا من القفص، أفلتنا من الموت كما تفلت سمكة من خرق في ثقوب شبكة الصيد.

   أحب فيروز، لا يطل عليّ الصبح إلا من حنجرتها، ويوميا في طريقي إلى العمل أستمع إلى "زهرة المدائن". مع كل الملائكية في صوتها كانت هذه الأغنية كفيلة بشحذ جحافل من الجيوش، ولكن بعد تلك الحادثة صارت تملأني حزنا أكثر منه غضبا وثورية: الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان، الغضب الساطع آتٍ سأمرُّ على الأحزان، من كل طريق آتٍ، بجياد الرهبة آتٍ، وكوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آتٍ.. وفي الحقيقة هم الآتون، بجيادهم وإلههم، من كل الطرق التي صادروها واحتكروها، وسموها بأسماء حاخاماتهم.. سأدقّ على الأبواب وسأفتحها الأبواب.. والحواجز الحديدية الموضوعة باسم يهوه ومباركة نتنياهو تحدّ المسالك.

    بالتزامن مع مرور 69 عاما على النكبة اكتشفت نسبة السُمِيّة في زهرة المدائن، معالمها العربية تذوي وتنحصر في منطقة البلدة القديمة، التي طُوقت بعمران حديث يطغى عليه الشكل الاستيطاني في المعمار، عدد المستوطنين فيها بلغ 350 ألفا، بعد إحاطتها بالمستوطنات التي سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى ضمها وإلحاقها بيبوس الكنعانية، أمانة في تنفيذ توصية اللجنة الوزارية لشؤون القدس لعام 1973 برئاسة جولدا مائير، والتي تقضي بألا يتجاوز عدد السكان الفلسطينيين فيها نسبة 22% من المجموع العام للسكان، ولذلك لجأت الحكومات إلى تعزيز الاستيطان من ناحية وتوفير أسباب التهجير لفلسطينيي القدس من ناحية، كالتضييق في الرزق والعيش ورفض تصاريح البناء وتحديد التعليم الأكاديمي ومصادرة الأراضي واعتقال الشباب وهدم البيوت وأدلجة المناهج التعليمية وسحب بطاقات الهوية، مقابل الإعفاءات الضريبية لليهود، وتقديم الخدمات، وتوفير أسعار زهيدة للوحدات السكنية كتشجيع على تعمير القدس بالسلالة المدللة، وغيرها من الامتيازات.

   البيت لنا، والقدس لنا، وبأيدينا سنعيد بهاء القدس، تقول كلمات الأخوين رحباني والتي كتباها عقب الهزيمة العربية في نكسة 67. لم يعلم الرحبانيان أن النكسة أعقبتها انتكاسات، وأن الاستيطان تضاعف بنسبة 600% منذ توقيع اتفاقية أوسلو، وأن إسرائيل تسيطر اليوم على 85% من مساحة فلسطين. قال شارون مرة إن القدس ملك لإسرائيل وإنها لن تكون بعد اليوم ملكا للأجانب، وقالت جولدا مائير في أحد المؤتمرات إنها فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، ففلسطين هي أرض أجدادها، والفلسطينيون ليسوا إلا لمما.

   فبناء على أية إحصائيات البيت لنا والقدس لنا؟ على أرض الواقع، على أرضنا، لأي لقيط من روسيا وأثيوبيا حق في فلسطين أكثر من أهلها. لذلك أوقفوا إذاعة هذه الأغنية، وليتوقف الافتراضيون الوطنيون عن اقتباس محمود درويش، والخطباء عن التغني بتحرير يافا وحيفا وعكا والقدس، عابرون أنتم في كلامٍ عابر. تغيّر الواقع منذ الـ 48 حتى اليوم، أصبح أشبه بالخيال العلمي الذي لا هو بخيال ولا علم، تحوّل فلسطينيو الداخل (فلسطينيو 48) على أيديكم من رموز للصمود إلى خونة يزايد على وطنيتهم كل قاطع طريق، واللاجئون إلى باعة أراضٍ ومتخلّين. كل إرهاصات المشهد تنبئ بالمرحلة القادمة وتمهّد لها: حل الدولتين. تدريجيا يهمَّش فلسطينيو الداخل من قِبل العرب، تدريجيا يصير أسهل الطعن في وطنيتهم واحتسابهم على اليهود، وتباعا يُسقِط تخوين اللاجئين حقهم في العودة. كل ما يحصل محض سياسة، فالمصادفات الممنهجة لا تُسمى مصادفات، ولا وجود للعفوية في واقع خططت له إسرائيل وخطّته، كل ما يجري يستشرف الحل كحل. قالها غسان كنفاني: "يسرقون رغيفك، ثم يعطونك منه كسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم". هذا هو الواقع وما عداه أخيلة، سيلتئم الجرح في النهاية على ضلع معدني.

   أنا من فلسطينيي الداخل، العاهة في جسدٍ مثالي، ترصدنا عيون تُدب فيها رصاصة، ولدنا وسندفن هنا، لم تجمعنا مع أخوتنا العرب بيوت ضيافة ولن تجمعنا مقابر، لذلك ضعوا سيناريوهاتكم الهزيلة جانبا وخذوا الحقيقية من منبت الحقيقة: كل شيء في هذه النواحي تهوّد إلا نحن، فلا تتشدقوا بفلسطين الأرض في الوقت الذي تتنكرون فيه لأهلها، فعليا لم يعد هناك أرض لتعوّلوا عليها، نحن الباقون، والتهويد أيديولوجية، والأيديولوجيات لا تكتسب بالتعويد. أنا التي كانت في القدس عند دخول السبت لا أنتم، وأنا التي ينطوي مخزونها الثقافي على مفردات مثل النضال والحجارة والنكبة والأسرى والاحتلال والشهداء والمقاومة والمصادرة والحواجز وهدم البيوت والمعابر والمخيمات واللجوء والتهجير والانتفاضة وحق العودة ومفتاحها والحصار ومعركة الأمعاء الخاوية والمفاوضات والمستوطنات وجدار الفصل العنصري والتقسيم الإداري للمناطق أ، ب، ج. كلها مصطلحات الواقع الفلسطيني المعيش الذي تعرفونه أنتم على المستوى التجريدي للاصطلاح.

   كان أمل دنقل قد سأل في قصيدة "لا تصالح": وهل تتساوى يدٌ سيفها كان لك بيدٍ سيفها أثْكَلك؟ والإجابة يُنكّس لها الرأس: نعم، تساوت الأيادي يا عزيزي. لذلك توقفوا عن بث أغاني السيدة فيروز: راجعون، القدس العتيقة، أجراس العودة، خذوني إلى بيسان، جسر العودة، يا ربوع بلادي، يافا، سنرجع يوما إلى حيّنا، وزهرة المدائن.. فهذه الزهرة اليوم ليست إلا زهرة مصنّعة في مختبر، معدّلة وراثيا وتنمو في دفيئة... يمكنكم الإبقاء فقط على "وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان"، فالبشر هم الزهر الباقي بين العشب الداشر فوق الحيطان.

   أبقوا هذه الأغنية كما بقي فراغ ضيق واحد في شوارع القدس المغلقة بين الحاجز الحديدي والجدار، أبقوها كأمل في الفلسطينيين الباقين..الناس.. نحْنُ لا الأيقونات. لا تغلقوا برج الحمام على حمامة بين الغربان، وجودها وبقاؤها حية بعد 69 عاما منْ الاحتجاز ليس من البديهية بشيء، لا تتخلوا عنها بشكلٍ كلي، فعليها لا عليكم ولا على خطاباتكم الرهان، وإن كان الفرسان قد سقطوا عن ظهور الخيل، فهناك جندٌ في بطن الحصان.

 

    الاكثر قراءة