الأحد 9 يونيو 2024

السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط من صناعة الأزمة إلى مخططات التحديث .. الحرب بالوكالة.. 5 يونيو1967

22-6-2017 | 16:10

شذى يحيى - كاتبة مصرية

 النكسة ـ الهزيمة ـ حرب الأيام الستة، كلها مسميات للمعركة التي دارت بين إسرائيل والدول العربية في الخامس من يونيو1967 منذ نصف قرن ومازالت تداعياتها تؤثر على الشرق الأوسط والعالم.

   كل حدث وكل علامة في الصراع العربي الإسرائيلي والصراع العالمي بدءا من الحرب الباردة حتى ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مرورا قبلها بحرب الاستنزاف وحرب 1973 وغزو لبنان واتفاقيات أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، الجهاد في أفغانستان، حرب الخليج وغزو العراق، تنظيم القاعدة و11 سبتمبر 2011، الثورات العربية والحرب في سوريا اليوم، ظهور وبدايات أفول ما يعرف بدولة الخلافة الإسلامية، كلها نتاجات لمعركة غير متكافئة استمرت ستة أيام، وكان هدفها فتح الأبواب لما يعرف بالشرق الأوسط الجديد؛ فلم يعرف التاريخ معركة دارت في مثل هذا الزمن القصير وعلى رقعة جغرافية محدودة نسبيا من الأرض مازال لها أبلغ الأثر كحرب يونيو1967، فلم تكن مجرد فاتحة لكتابة شهادة وفاة القومية العربية والحرب على الاستعمار ودفنها في نفس القبر مع جمال عبد الناصر زعيم القوميين، كا كتب مايكل أورين في كتابه "ستة أيام من الحرب ـ يونيو1967 وصناعة الشرق الأوسط الحديث"، بل كانت أيضا النقطة المفصلية في صراعين الأول بين القوتين العظميين اللتين كانتا تخوضان حربا أخرى في فيتنام تفوق فيها السوفييت على الأمريكيين، والثاني هو صراع العالم الثالث بكل حركاته الوطنية مع الراديكالية والإمبريالية، كما كانت هذه الحرب بمثابة التتويج للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية لتصل لذروة التعاون والانسجام بعد أن أثبتت إسرائيل نبوءة لورنس العرب في 1919 بأنها هي التي ستستطيع إيقاف عدوى المد القومي في المنطقة العربية وأيضا فإن هذه الحرب كانت إشارة البدء التي آذنت بصعود مد مشاريع الإسلام السياسي الراديكالي والذي سيصبح له أكبر الأثر على المنطقة والعالم في الخمسين سنة التالية.

   لكن يونيو لم تأت من فراغ ولم تكن مجرد نزاع على حقوق الملاحة في خليج العقبة أو صراع بين قوتين إقليميتين، بل كانت إرساء لقواعد الإمبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط فكريا واقتصاديا لتملأ الفراغ الذي تركته الإمبرياليات الأوروبية العجوز وعلى الأخص بريطانيا التي وإن كانت قد خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية لكنها كانت قد بدأت بالفعل مرحلة الأفول والتحلل بالأخص بعد أن أصبحت السياسات الإمبريالية المعتمدة منذ العهد الفيكتوري غير مجدية، وفقد الحلفاء المحليون شعبيتهم ومصداقيتهم وقدرتهم على الفعل في مواجهة حركات تحرر وطني عمت مستعمرات الإمبراطورية في ما وراء البحار وعلى الأخص في منطقة الشرق الأوسط والتي كانت بريطانيا بعد اتفاق سايكس بيكو وسلسلة الاتفاقات والمعاهدات التي أتبعته قد حصلت على نصيب الأسد من تركة الإمبراطورية العثمانية المنهارة في الشرق الأوسط، وبموجبه أيضا سيطرت على موارد وبترول المنطقة واستطاعت تأمين قناة السويس بعد السيطرة على فلسطين وإقامة وطن قومي لليهود على أراضيها، ولكن وبعد انتهاء الحرب واستقرار خطوط سايكس بيكو فوق رمال الشرق الأوسط وجدت القوة العجوز نفسها في مواجهة حركات التحرر في وقت كانت الدول الغربية جميعا في حاجة ماسة لموارد الشرق الأوسط وعلى الأخص البترول بأسعار مناسبة، وكانت هي أيضا بحاجة لأسواق الشرق الأوسط لكي تبيع منتجاتها وتخرج من أزمات ما بعد الحرب، لذلك كان أكثر ما يقلق الغرب في تلك الفترة من التحرريين الجدد هو مشاريعهم التنموية فقد رأى الجميع أن بناء دول ذات اقتصاديات قوية قادرة على مواجهة تحديات تنمية الإنتاج وزيادة الدخل بمفردها وبجهودها الذاتية يشكل أكبر خطر على العالم الغربي أولا، لأن هذه الإمكانية قد تعرض الحدود المرسومة على أرض الشرق الأوسط والمتفق عليها للتغيير بما لا يتوافق مع مصالح الغرب وعلى الأخص عندما يتعلق الأمر بأماكن يسيطر عليها ما تعتبره هذه الدول وكلاء لإدارة ثرواتها عبر البحار أو بسيطرة هذه القوى التحررية على ممرات وطرق لإيصال هذه الثروات إليها، هذه القوى التي اعتبرتها بريطانيا وأوروبا على العموم غير حليفة كانت من وجهة نظرهم هي الأخطر في عالم ما بعد الحرب الثانية، إذ كانت في الأغلب الأعم حكومات قامت على أساس عمليات عسكرية فعالة غالبا ما يتم قيادتها مباشرة من قبل قوات الجيش، وتهدف بالدرجة الأولى لإزالة النفوذ الأجنبي من بلادها بالقوة.

   وكان النظام الناصري نموذجا لهذا التصور فهو في جوهر مبادئه القومية العربية التقدمية معاد تماما للاستعمار والإمبريالية، وقد أوضح منذ البداية أن أهم أهدافه تصفية قرن ونصف من التدخلات الأجنبية في شؤون مصر، وربما كانت هذه القناعة هي التي دفعت ببريطانيا لخوض تلك المغامرة البائسة في حرب السويس1956 بالتعاون مع فرنسا وإسرائيل في نفس التوقيت الذي كانت فيه الإمبراطورية الأمريكية الشابة والمتعطشة لحكم العالم تحسب هي الأخرى حساباتها فيما يختص بأمرين: الأول هو ضمان تفوقها الاقتصادي الذي سوف يكفل لها قيادة العالم وذلك بضمان مواد خام رخيصة ووقود لآلات صناعاتها الجائعة والثاني هو وضع فكر أيديولجي مضاد للفكر الشيوعي ونشره حول العالم ليكون قاعدة فكرية في صراعها مع الاتحاد السوفيتي في حرب باردة تدور بينهما قوامها الرئيسي الاقتصاد والأفكار، ولهذا تنبهت الولايات المتحدة مبكرا جدا إلى أن الفراغ الذي سوف تتركه الإمبراطوريات المنحدرة في الشرق الأوسط لا يمكن تركه ليملأ من قبل الحركات القومية ونظيرتها الأخطر التحررية وهي أخطر لأنها دائما ما تكون أكثر ميلا للفكر السوفيتي، ونشطت الاستخبارات الأمريكية في مناهضة هذه الحركات ولم تتورع عن دعم الرجعيين والدكتاتوريين في حربهم معها لدرجة أذهلت حتى حلفائها الغربيين ودفعت مسؤولا كبيرا في وزارة الخارجية البريطانية لأن يطلق مقولة أصبحت شهيرة طوال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين: "إن الولايات المتحدة قامت كدولة على مبادئ الثورة الفرنسية ولكنها في هذه المرحلة من التاريخ فقدت كل مبادئها لصالح الرأسمالية".

   وهكذا ومع بداية تبلور هذا الفكر في منتصف الخمسينيات أدرك صانعو القرار في البيت الأبيض أن أكبر عقبة ستواجه مخططاتهم في ملء  فراغ الإمبرياليين الأوروبيين في الشرق الأوسط وعلى الأخص في الخليج العربي بشكل يضمن المصالح الأمريكية هو نظام عبد الناصر ليس بسبب عدائه لإسرائيل أو لأفكاره التقدمية، بل لأن خططه التنموية تتعارض مع خطط الولايات المتحدة في السيطرة على الموارد الطبيعية ومصادر المواد الخام في الشرق الأوسط، ولأن سعيه لإنشاء قاعدة اقتصادية وطنية قومية بغض النظر عن توجهات نظامه أيا كانت ومهما كانت تقدمية أو قومية أو ليبرالية هي بمثابة الخطر على الاقتصاد الأمريكي، وكان رأي مستشاري البيت الأبيض أنه ينبغي تحجيم هذه القاعدة وأنه من الأفضل تدميرها تماما، وقد بدأت الإدارة الأمريكية في التنبه لخطورة هذه القاعدة حتى قبل إرسائها فعليا منذ عام 1955، فطبقا لنصوص المراسلات السرية بين الرئيس الأمريكي في تلك الفترة دوايت أيزنهاور والعديد من حلفائه الأوروبيين فقد دعا الرئيس إلى "وضع خطة ماكيافيللية تشارك فيها الأطراف المعنية وعلى أعلى مستوى لمواجهة الوضع في الشرق الأوسط بما يتناسب مع الخطر الذي يهددها وبما يتوافق مع مصالحها في تفرقة العرب وهزيمة الأعداء"، وقد كان سلفه هاري ترومان يرى منذ وقت مبكر جدا أن الشرق الأوسط هو بمثابة حجر الأساس للاقتصاد الأمريكي. وقد أكد أيزنهاور بتصريحاته أن الشرق الأوسط أصبح بمثابة الملعب الخلفي للسياسة الأمريكية وبؤرة اهتماماتها لأهميته القصوى للولايات المتحدة التي لديها الاستعداد الكامل لاستعمال القوة المسلحة في مساعدة أية دولة شرق أوسطية يتعرض أمنها للتهديد أو الاعتداء من قبل أي كيان وعلى الأخص الكيانات الموالية للشيوعية العالمية على حد قوله، وكان أيزنهاور صريحا في إيضاح أن الفراغ في الشرق الوسط لا بد أن يملأ من قبل الولايات المتحدة وليس أي دولة أخرى لأن أمن الشرق الأوسط مرتبط بالاقتصاد الأمريكي والذي كان بحلول عام 1950 يستورد حوالي مليون برميل من بتروله الخام سنويا. وقبل هذا منذ عام 1933 كانت لشركات النفط الأمريكية حصة الأسد في شركة آرامكو للبترول السعودية ولذلك رأى الرئيس الأمريكي روزفلت عام 1943 "أن الدفاع عن المملكة العربية السعودية هو بمثابة دفاع حيوي عن الولايات المتحدة"، هذه القناعات المبنية على المصالح هي التي جعلت أمريكا تكثف من أنشطتها الاستخباراتية في الشرق الأوسط منذ الخمسينيات وجعلتها من خلال التكتيكات والاستراتيجيات الاستخباراتية المتنوعة تواجه من تراهم أعداءها في المنطقة. فلم تتورع الولايات المتحدة عن دعم الاغتيالات وإثارة القلاقل والشغب بين الأقليات والجماعات العمالية واستعمال السلاح والانقلابات في بعض الأحيان بل دعم حركات إسلامية لتواجه الفكر التقدمي القومي لحركات التحرر المدعومة من قبل الاتحاد السوفيتي وقد آتى هذا الدعم أكله بالفعل في الثمانينيات عندما خاضت هذه الجماعات الحرب في أفغانستان وكانت من أهم عوامل انهيار الاتحاد السوفيتي.

   لكن الولايات المتحدة كانت تدرك تماما أن كل هذه الجهود ليست كافية لتدمير القاعدة الصناعية والفكرة القومية الوليدة، وأنه لا بد من تحرك أكثر فاعلية على الأرض يضمن شرق أوسط مطابقا للمعايير الغربية، وهو شرق أوسط ضروري لمصالحها على حد قول عالم الاجتماع دانييل ليرنر الذي رأى في مؤلفه "فناء المجتمعات التقليدية ــ تحديث الشرق الأوسط" أن "الفكر القومي الساعي إلى التحديث على طريقة أن نكون غدا في المكان الذي يقف فيه الغربيون اليوم، هو فكر عقيم وغير عملي فكل محاولات النهوض الصناعي العربي هي عبث مؤداه في النهاية الوقوع تحت الهيمنة السوفيتية"، وهي نفسها النظرية التي تبناها الباحث الشاب في تلك الفترة هنري كيسنجر في مقال كتبه عام 1959 متنبئا بأن الولايات المتحدة سوف تجد نفسها في لحظة من اللحظات في حاجة ماسة لتصفية القوميين في الشرق الأوسط لذلك يتوجب على من سيربح انتخابات 1961 أن يفتح باب التسليح على مصراعيه لإسرائيل، وأن يدعم دولا حليفة في الشرق الأوسط لتصبح تابعة اقتصاديا واجتماعيا للولايات المتحدة، وإلا فإنه سيتوجب على هذا الشخص أن يرى الشرق الأوسط واقعا في أحضان الكرملين، وقد حدث بالفعل أن عين الرئيس جون كينيدي والتر روستو الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والخبير الأسبق في إدارة أيزنهاور مستشارا خاصا له، بالإضافة إلى طاقم من المنظرين لفلسفة الحداثة في الاقتصاد والاجتماع لتنفيذ هذه الخطة. روستو الذي كان واحدا من مطوري نظرية الحداثة كان يرى في الولايات المتحدة أول أمة جديدة في تاريخ العالم وقد وضع مقياس لحداثة الأمة بناء على تاريخها وسياساتها الاقتصادية يرتكز في الأساس على معدلات النمو والاكتفاء الذاتي. روستو أقنع كينيدي بوجوب انضواء المستعمرات السابقة للإمبراطوريات الغاربة وعلى الأخص في الشرق الأوسط تحت مظلة نظرية الحداثة الاقتصادية والاجتماعية الأمريكية، وأن تحديث مواطني هذه المجتمعات سوف يجعلهم يعزفون عن التجربة الشيوعية والأهم عن إشعال حروب التحرر القومي والتي تشكل خطرا على استقرار المنطقة، فكانت إحدى أهم قناعات روستو ضرورة إلحاق الهزيمة بالنظام الناصري لكي يخرج المجتمع الشرق أوسطي من حالة المجتمع الاستاتيكي بكل تقليديته إلى مرحلة التهيؤ للانطلاق لمرحلة المجتمع الديناميكي المتحضر، وكسر أنماط القيم خلال فترة انتقالية ينطلق المجتمع بعدها نحو الادخار والنضج والاستهلاك الوفير من خلال ما يعرف بالأخلاق البروتستانتية والتي هي النتيجة الوحيدة لتطور الرأسمالية.

   اقتنع الرئيس الكاثوليكي بالنظرية التي تلخصت في وجود مسار واحد للحداثة هدفه الأخير هو الاقتصاد الصناعي والمجتمع المستهلك للبضائع المنتجة من خلال إعادة صياغة المجتمعات ما قبل الحداثية عن طريق سياسات مستنيرة وتحديثها من خلال مزج أفكار نظرية الحداثة الأمريكية بالبترودولار العربي، فالشرق الأوسط الضعيف وقليل المهارة والخبرة والقدرة على حل مشكلاته والوصول لطريق السلام والاستقرار والرخاء المنشود لا بد له من شيئين الأول هو مساعدة الولايات المتحدة لشعوبه لكي يتغير ويرسي قواعد جديدة مستقرة للحوار، والثاني وهو الأهم في الأولويات الأمريكية حل مشكلتيه الرئيسيتين المتمثلتين في النزعة القومية والميل لعدم الاكتفاء. وكانت رؤية روستو أن تحديث الشرق الأوسط وتبني أمريكا في العموم لنظرية الحداثة هو السبيل الوحيد للانتصار في الحرب الباردة. هذه الأفكار التي حددت سياسات واستراتيجيات أمريكية وضعتها إدارة كينيدي وأصبحت مدفوعة بهذه القناعات لمد جسور علاقة خاصة مع إسرائيل وفتح الباب على مصراعيه لتزويدها بالسلاح استعدادا للمواجهة القادمة لا محالة مع العرب لتصفية القوميين، لذلك كانت إدارة كينيدي هي من زود إسرائيل بصواريخ هوك، وكميات هائلة من الأسلحة المتنوعة والمتقدمة ورغم اعتراض الإدارة نفسها على البرنامج النووي الإسرائيلي فإنها استمرت في إمدادها بالسلاح، وهو الأمر الذي استمرت فيه إدارة جونسون بعد اغتيال كينيدي وعين فيها والتر روستو مستشارا للأمن القومي، وكان أول ما فعله جونسون الذي أكد للمسؤولين الإسرائيليين أنه سوف يكون أكبر وأصدق أصدقائهم في المرحلة القادمة وتمت المصادقة على بيع صفقة دبابات متطورة لجيش الدفاع الإسرائيلي، ولم يكن الإسرائيليون بعيدين عن المشهد الأمريكي؛ فإسرائيل التي كانت تعلن أنها لا تسعى لحرب جديدة مع جيرانها العرب والمهمومة في الحقيقة بأن هؤلاء الجيران مشغولون عنها بخططهم التنموية وكفاحهم التحرري وحروبهم الباردة مع بعضهم البعض رغم الآلة الدعائية التي لم تكف عن مهاجمتها ليل نهار خوفا من أن تفقد أهميتها الاستراتيجية بالنسبة للقوى الجديدة، كما أن هذه الخطط التنموية لن تصب في مصلحتها على المدى الطويل فضاعفت حصة الإنفاق العسكري من الناتج القومي منذ بدايات الستينيات كما مدت خدمة المستدعين للخدمة العسكرية الإجبارية لتصل لثلاثين شهرا ووضعت خططا تحضيرية لكيفية نقل المعركة فورا لأرض "العدو" في حالة نشوبها ووضع برنامج للإدارة العسكرية للضفة الغربية حال احتلالها كما أرست أيضا مبدأ جديدا في أنه إذا احتل جيش الدفاع أرضا فإنه لن يتم التنازل عنها إلا في مقابل الصلح والاعتراف الكامل من الطرف "المعادي"، وفي صيف 1963 حددت رئاسة الوزراء الإسرائيلية ورئاسة هيئة الأركان ماهية الحدود التي من الممكن أن تكفل أمن إسرائيل بشكل نهائي وهي نهر الليطاني، وادي الأردن، قناة السويس. وكان الإسرائيليون مدركين تماما أنهم لن يمكنهم الاستيلاء على هذه الأراضي وتأمين حدودهم دون الدعم الأمريكي والتأييد الدولي.

   ولم يغب عن ذهنهم صعوبة الحفاظ على هذه المساحة من الأرض حال الاستيلاء عليها، كما كانوا مدركين أن الولايات المتحدة حتى لو سمحت لهم بتنفيذ خطتهم هذه فإنها لن تسمح لهم بالاحتفاظ بهذه الأراضي لمدة طويلة لأن هذا سوف يشكل ضغطا على مصالحها، ولذلك فإن الاسرائيليين وحتى قبل نشوب الحرب بأعوام كانوا قد اقتنعوا بأنهم لو استولوا على أراض فإن قدرتهم على تحمل مسؤولية السيطرة الدائمة عليها محدودة ولا بد أن يقايضوها بالسلام لتضمن إسرائيل أمن حدود دولتها في فلسطين التاريخية، وضعت إسرائيل كل هذه الخطط قبل أعوام من نشوب الحرب بينما لم تكن لدى قيادات الأركان العربية أية خطط للوصول إلى العمق الإسرائيلي حتى 5 يونيو 1967، وهكذا فإن الإدارة الأمريكية كانت مقتنعة أنه يجب القضاء على المشروع القومي العربي تمهيدا لتحديث الشرق الأوسط وإسرائيل المدججة بالسلاح الأمريكي والمستعدة للقتال لتحقيق الهدف الأمريكي المتوافق مع طموحها.

   وبمجرد حدوث أزمة الملاحة وفي 23 مايو بعد يوم واحد فقط من إغلاق مصر للمضائق استدعى الرئيس الأمريكي جونسون رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية ريتشارد هيلمز لسماع رأيه حول التصعيد الحادث في الشرق الأوسط، وأكد هيلمز للرئيس قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها، وعلى شن هجوم ناجح على كافة الجبهات والوصول لشاطئ السويس في فترة زمنية تتراوح بين سبعة أيام وثمانية، كما أوضح أن الإشارات القادمة من موسكو تدل على أنها لن تتدخل لإنقاذ حلفائها العرب. وبناء على هذا التقرير اتخذ جونسون قراره بدعم إسرائيل بالسلاح عبر جسر جوي مع وقوع الحرب وبدعم الإدارة الأمريكية العلني والمطلق للموقف الإسرائيلي بشكل مباشر وإلقاء اللوم بالكامل على الجمهورية العربية المتحدة كان مصدر القلق الوحيد لدى جونسون هو كيف ستنتهي الحرب؟! لذلك طلب من هيلمز أن يخبر الإسرائيليين أن لا يتوقعوا من الولايات المتحدة دعما أكثر من الدعم الدبلوماسي بالإضافة للتسليح ووافقت إسرائيل على الشرط الأمريكي، وهكذا كتب هيلمز في مذكرة لجونسون يخبره أن الحرب ستبدأ بعد بضعة أيام، كان ذلك في الأول من يونيو1967 وعنون هيلمز المذكرة بجملة مقتضبة (فقط لعيون الرئيس)، فيما بعد قال جونسون لأبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلي "كل رجال مخابراتنا أجمعوا على أنه في حال حدوث حرب بينكم وبين الجمهورية العربية المتحدة فإنكم ستدكونهم".

   وفي 4 يونيو 1967 قدم روستو مذكرة حول الحرب التي ستحدث بين العرب وإسرائيل تضمنت نقاطا أهمها أن "العرب المحتلين، أي عمليا جميع العرب الذين يخشون توسع عبد الناصر، إنما يفضلون هزيمته على أيدي الإسرائيليين مما على أيدي قوى خارجية، وأن هناك إمكانيات جديدة سوف تتاح إذا حاقت الهزيمة بعبد الناصر: فالاعتدال سوف تقوم له قائمة في الشرق الأوسط مع التشديد على التنمية الاقتصادية والتعاون الإقليمي، وإذا ما تم التوصل إلى حل مشكلة اللاجئين فسوف يجري قبول إسرائيل كجزء لا يتجزأ من المنطقة وهكذا فإننا سنكون إزاء انتقال تاريخي لتحول الشرق الأوسط".

   هذه السطور لخصت الاستراتيجية الأمريكية في العقود الخمسة التالية لحرب 1967 لذلك لم تتعجل أمريكا أو تضغط على إسرائيل لانسحاب سريع لما وراء خطوط 4 يونيو، حتى في سيناء والتي كان صناع القرار الأمريكي والإسرائيلي مدركين تماما استحالة الحفاظ عليها وذلك رغم الضغوط الدولية لأن ما يعرف بمبدأ الأرض مقابل السلام كان قد تم تفعيله بالفعل وأن الأرض المحتلة بمثابة رصيد يمكن من تحقيق سلام شامل وعادل لكل الأطراف على حد وصف الإدارات الأمريكية المتعاقبة والتي وضعت نفسها في دور الوسيط والحكم تارة تحت مظلة الأمم المتحدة، وتارة أخرى بمشاركة القوى العظمى الأخرى المعنية مثل الاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا، أو منفردة في أحيان أخرى في وساطات لتحقيق سلام وصف بأنه يرضي كل الأطراف المعنية بالصراع في المنطقة وهو ما أوضحه السفير الأمريكي جولدبرج في خطبة ألقاها في الأمم المتحدة بتاريخ 7 ديسمبر 1967 "إن النفوذ السياسي لحكومة الولايات المتحدة سوف يقتصر على دعم الوسطاء في تحقيق حل عادل ومشرف وملائم لجميع الأطراف لكي تعيش المنطقة في أمان وازدهار"، ولكنه اعترف أيضا بأن بلاده لا يوجد لديها مشروع جاهز للتسوية ولكن السلام الدائم من وجهة نظرها لا بد أن يقوم على توافق جميع الأطراف للوصول إلى حل، ولم تكن أمريكا متعجلة للوصول لهذا الحل مع ضمان أمنها ومصالحها في المنطقة بعد وقف المد القومي السياسي والاقتصادي وضمان أمن الموارد البترولية مع سيطرة خمس شركات أمريكية واثنتين بريطانيتين على بترول الخليج العربي وإثبات الجيش الإسرائيلي لنفسه كعامل فاعل في إيقاف أي مد قومي أو شيوعي قد يشكل خطورة على المنطقة، وإن لم يخل الأمر من القلق، فقد كتب روستو لجونسون محذرا في 29 ديسمبر 1967 "كلما طال الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية زادت عدائية كل الأطراف ولهذا فإن إمداد إسرائيل بالسلاح لا بد أن يكون محدودا في الفترة القادمة"، وكان أكثر ما يخشاه روستو أن تتوحد جبهة عربية ضد إسرائيل فكتب "إن ما يجب تجنبه هو القضاء على إسرائيل أو تبلور كتلة لا يوحدها غير عدائها لإسرائيل فهذا التبلور من شأنه أن يرغم الولايات المتحدة على الحفاظ على إسرائيل على هيئة جيب من نوع هونج كونج في المنطقة"، ولهذا أرسلت الولايات المتحدة إشارات في مختلف الاتجاهات لحلفائها القلقين وعلى رأسهم فرنسا وكان رئيسها ديجول يرى أن الوضع سينفجر ما لم تنسحب إسرائيل لخطوط 4 يونيو وأن الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد القادر على إجبارها على ذلك خاصة وأن الأعداء الروس قد فتحوا الباب على مصراعيه لتسليح حلفائهم العرب وإمدادهم بالخبراء بل التفكير بإمدادهم بقوات عسكرية بعد شعورهم أن كفة الميزان لم تعد في صالحهم في المنطقة، وكان هذا أيضا أكثر ما يقلق أمريكا مما دفع جونسون لإرسال رسائل طمأنة للسوفييت مبكرا جدا ففي لقاء لوزير الخارجية السوفيتي ديمتري كوسيجين مع الرئيس الفرنسي شارل ديجول في 1 يوليو1967 قال كوسيجين لديجول إن جونسون أخبره أنه "سوف يتعين على القوات الإسرائيلية الجلاء عن الأراضي المحتلة إلا أنه للوصول إلى ذلك يجب حل مسائل كمسائل الاعتراف بإسرائيل وحرية الملاحة في قناة السويس وفي خليج العقبة ومسألة اللاجئين الفلسطينيين ومن المفهوم تماما أنه يجب تسوية هذه المسائل ولكن كيف؟!! هذا ليس واضحا".

   كان الطريق قد أصبح معبدا وواضحا أمام الاستراتيجية الأمريكية، وأثبت الزمن ذلك، وأن العلامات فقط هي التي كانت بحاجة لأن ترسم على جنباته لتحديد معالمه، وقد سار فيه العرب كما أريد لهم على نهج الحداثة على الطراز الأمريكي ومازالوا يسيرون فيه حتى الآن، ولم يصلوا لنقطة النهاية أو ما يعرف بالحل النهائي الشامل العادل المرضي لجميع الأطراف.