أعد الكتاب للنشر - محمد المكاوى
حاول المؤلف حسام حازم فى الفصل الأول من كتاب "عبد الحليم حافظ" والذى حمل عنوان "صفرعلى شمال القاهرة" أن يرسم صورة لحال البلاد والغناء وقت ميلاد العندليب فى 21 يونيه 1929،وأشهر الأغنيات التى كانت تتردد على ألسنة الناس وأهم الأصوات الغنائية اللامعة فى ذلك الوقت، وكيف أن إحساس عبد الحليم بفقدان والديه كان يمكن ان يحوله إلى إنسان عدوانى وأنانى ولكن بعدما وجد سلواه فى الموسيقى والغناء وعطف وحنان شقيقته علية وخالته أم شحاتة تحول إلى انسان هادئ ومسالم .. صحيح كل هؤلاء فشلوا فى إقناعه بالذهاب الى كّتاب الشيخ مرزوق بعدما انتظم فيه لعدة أسابيع ، وأمام رفضه المستميت قرر خاله إلحاقه بمدرسة ملجأ الأيتام الابتدائية بالزقازيق حيث وجد الفرصة الكاملة فى الأنشطة الفنية للتعبيرعن ذاته إلى أن حصل على شهادة الابتدائية بتفوق ،وكان قراره السفر الى القاهرة لدراسة الموسيقى أسوة بشقيقه الأكبراسماعيل لتبدأ محطته الثانية فى مشوار حياته وكما يسردها المؤلف فى الفصل الثانى من هذا الكتاب تحت عنوان"ولد ولا كل الرجال".
ولد ولا كل الرجال
رقيق.. نحيل.. نحيف .. سفروت .. هزيل إنما ولد قطع نص وركب الامنبوس العادة .. بالبدلة الصوف والساعة أم كتينة يحمل في يده سبت أطول منه مغطي بمفرش رقيق يحجب عن الناس.. «المنين» و«القرص» و«الجبنة القريش» والفطير المشلتت.. و«بلاص العسل» وضغط السائق بكل قوته علي مسطرة البنزين فطارت العربة تسابق الريح وتطل علي مشارف شبرا الخيمة ثم شبرا البلد ثم شبرا النملة ثم شبرا وتخزن بجوار جامع الخازندار حيث باعة النوجة ونبوت الغفير والسفندي تسعة بصاغ ونط في ترام 30 ومر تحت نفق شبرا فاعترضه «كمساري» اكتسب من الزحام العرق واكتسب من العرق رائحة العفن ودفعه بحذائه القذر الغليظ وهو يشخط بتحكم «قراقوش»
القفف من ورا!
ومن ساعتها عرف الفتي أن القرويين لا يسمح لهم بركوب عربة المدينة إلا من الخلف!
ويقرأ الأهرام في الحصة الثانية.. وينام في الحصة الثالثة ويحجز مقعد القطار في الرابعة ويلمع الحذاء في الحصة الخامسة ويستأذن في الحصة السادسة حاملا تحت إبطه أقة ملوخية يوناني ورطل لحمة بتلو وقرطاس طماطم وفص ملح ويدوب!!
شهر .. شهرين .. ثلاثة وجاءت إشارة بنقله نقل الأستاذ عبدالحليم إلي مدرسة الزقازيق الثانوية للبنات أيضا!
بنات .. كفاك الله شرهن .. عجن بماء العفاريت .. شياطين متحركة أما من حيث الجمال تبارك الله فيما خلق فبنات الزقازيق لهطة قشطة .. زبدة ومربة .. قوام غزلاني وعيوني جاموسي وأما من حيث الدلع فيامثبت العقل والدين.
ودخل صاحبنا علي ثمانى وعشرين تلميذة وحيدا ولكن كانت لديه خبرة سابقة في تلك المعارك لم يعد يهز أعصابه لا دخان سيجارة خرج من رئتي تلميذة سرا ولا ضحكة انفجرت في ظهره ولا طرقعة لبانة زاد من حلاوتها كلمة «ممنوع» دخل المعركة واثقا وانتصر وتحكم وأمر ونهي وصل إلي مرحلة كتم الأنفاس إلي سكون المقابر وهدوء الكهوف بالعربي ترمي الإبرة .. ترن ..
رنة جرس في مدينة نحاس!
واشتهر في المدرسة .. أصبحت التلميذات يزغن من فصولهن ليحضرن حصته وبدأ يقود المظاهرات من فوق أصابع بيانو عجوز يعيش علي أوتاره سبعة فئران «ميري» علي أحسن تقدير واشتكي مدرس العربي ومدرس الحساب والكيميا و...و... وباختصار خبطوا الاستاذ عبدالحليم زومبة!
بعد دقائق تبدأ الحصة الخامسة التلميذات يصلن قبل الميعاد يجلسن في ثرثرة يدخل الأستاذ عبدالحليم يتحدث اليهن .. يتحدثن إليه .. يجلس هو إلي البيانو .. يرفع غطاءه الناظرة تخرج من حجرتها تمشي علي أطراف أصابعها تنظر من ثقب المفتاح!
والحال لا تسر عدواً ولا حبيبا ... الفتيات الصغيرات وقد أخرجت كل منهن منديلا تمسح به دموعها أو رذاذ العيون الملتهبة وتلك شهقة تفلت من إحداهن وواحدة يسحبها التأثر إلي درجة الإغماء واللحن ينهمر من حنجرة الأستاذ عبدالحليم:
مين عذبك بتخلص مني
وأنا ذنبي إيه يتعذب في
ليه العوازل حاسديني
دول حقهم يبكوا علي
ودخلت الناظرة.. صرخت من قلبها:
- تاني .. ياحليم!
أحبوه!
وكان في حاجة إلي الحب كان في شوق إليه حب غير حب أخته علية وخالته أم شحاتة إنه حب لا يشفي الغرور حب بلا مناقشة حب غبي .. مقرر .. منهجي لا ينقطع ولا يمتنع ليس حبا للشخص ذاته ولكن لوضع طبيعي معين ونحن نبحث عن حب ذكي حب بمناقشة واختيار حب غير مضمون فيه متعة الاستخلاص والانتزاع وأنانية الاستئثار و فكرة إثبات الوجود إنه نوع من النجاح ولا طعم لأي نجاح مالم يكن احتمال الفشل رأسيا في إحدي راحتي الميزان!
ولم تكتف تلميذاته الثماني والعشرين بالحب الجماعي سعت كل منهن إلي علاقة شخصية بحتة إلي حب مغلق بأكثر من محاولة وتصريح وهمسة ولمسة وآهة وضحكة أغمض عنها عينيه وبعدها عنه فقد جرحته جرائتهن وعنف الطيش بهن لم تستطع أن تطرق باب قلبه غير «سلوي»!
كانت غير كل الرجال وكانت غير كل البنات
كانت رقيقة إلي حب الضعف صافية إلي مستوي النقاء خائفة إلي قدر الرعب مترددة إلي درجة الارتعاش وكان غير أولئك الرجال الذين تهتز قلوبهم لرجة صدر راقصة .. كأنه زلزال ولبجاحة غمزة عين تندب فيها الرصاصة ترد.. أو لارتفع كتف دلال يرفض ويأبي وهو في الحقيقة يستجدي ووجه صبغته الألوان وتناثرت وشحم الأرداف اكتنز يصيح له البارد منهم!
- ياوعدي علي المهلبية!
أعجبه فيها .. ذلك الدم الذي يرتفع في وجنتيها خجلا من نظرته العابرة ومن كلمته البعيدة، أحب فيها ذلك الضعف الرهيب واستعد ليدخل قصة الحب استعد للسهر والشوق والعذاب ولكن ياولدي طنطا كالزقازيق البنات بنات ناس والبلد بلد أرياف فيها النار والعار والحب هنا له معني واحد قطع عيش أن تطير الدرجة السادسة مرتبها ومربوطها وعلاوتها ومكافأتها ومعاشها واستمارات السفر المجاني والأوفرتايم والحصص الإضافية وأن يصله جواب وزير المعارف يقول فيه إنه قد تم التنازل عن خدماته .. نظرا لسوء سلوكه!
سوء سلوك..لم؟
غرضك شريف .. نظرة .. فسلام .. فكلام .. فابتسامة فحب فمقابلة مع رجل ما يعرف فيها الشجرة التي قطعت منها والمربوط والأملاك والأطيان والمنقولات والعقارات ورصيد الاسهم والسندات وعندما تسكره إجاباتك يقول لك:
- يابني .. أحنا بنشتري رجالة!
وعاد إلي بيته يفكر في مستقبله ولم يجد في صندوق البريد خطابا بل وجد سبعة وعشرين جوابا عليها خاتم بريد الزقازيق طبعا جوابات حب من تلميذاته تفكير واحد له نفس السرعة ونفس الأسلوب ونفس الجرأة وطبعا لم يختلف عن الثماني والعشرين إلا سلوي:
وفض الأوراق ليقرأها
«حبيبي عبدالحليم»
يالهفتي أنا عاشقة لك أم سحرتني فقط للحظة فيها أراك يالعذابي وكل عذاب يهون في لقائك أيا عقلي بالله أصمت ودعني قليلا لقلبي وهواه أيا فؤادي بالله عليك حدثني بجمال عينيه...
حبيبي عبدالحليم:
يامن أصبحت كل حياتي.. وكل غرامي.. ويامن بدونه أصبحت الحياة جحيما ونارا لم أعد أشعر بالسعادة وإلا إذا كنت بجواري .. الله وحده هو الذي يعرف.. إذا كان قلبي يدق بالنبض أم يدق بالحب.. لو نطق.. ناقوس الحياة فلن يقول إلا إنني أحبك.. لو حكي موج البحر.. بعدد فلن يحكي إلا قصة حبنا..
سبعة وعشرون جوابا .. نفس التفكير نفس الاسلوب نفس المضمون.. نفس المعني.. ورمي الخطابات بعيدا وضحك عاد ليمزقها ولكن بصره وقع علي شئ فيها لم يكن قد تأكد منه وتمزقت الخطابات بين يديه وتمزق الحب في قلبه.
الجوابات كلها بتوقيع سلوي!
فكل النساء صنف واحد.. ماركة مسجلة «تريد مارك» قابلت الكثيرات تجاوبن معاك وكثيرات امتنعن عنك ولا اختلاف فقط واحدة جريئة وواحدة مريضة بالخوف الخوف من التجربة ليس إلا فنحن جميعا نحب الخطأ ومتعته نعشقه ونتمناه نرغبه ونحلم به الذين يقترفونه والذين يعرفونه بل بالعكس فى الذين يخطئون في مرتبة أرقي فكل ما في الأمر أن الذين لا يخطئون لا يخطئون لأنهم جبناء!
كره سلوي بنفس القوة التي أحبها بها:
وكرهها لأنها صارت تتسول الحب وتشحذه وكان يريد من تسرقه .. تنشله .. تسطو علي قلبه.
«الشحات» و«النشال» كلاهما يسلبانك ما تملك الأول يأخذ ما تريد والثاني يأخذ ما يريد وكلاهما خارج علي القانون ولكن القانون يكره النشالين ويقسو عليهم ويلقي عليهم لعنات بنوده ونصوصه ويكتفي بأن يبرق عينه ويتسامح مع «الشحاتين» لأن القانون حمار فلو كان عنده نظر لأحب اللصوص وضرب المتسولين بأقذر حذاء فاللص نشيط مجتهد مبتكر والشحاذ كسول راكد مشلول.. التسول يذبح الكبرياء والنشل يحفظ الكرامة! والمعادلة الصعبة في حسبة القلب هي أن يكون لك حب وأن تكون لك كرامة!
وضاق بالحياة
ضاق بالمدرسة .. بنشيد الصباح .. بكراسة التحضير.. وحذره الناظر والمفتشين .. ضاق بالدرجة السادسة والمربوط والعلاوة للترقية والمعاش واستمارات السفر المجاني حتي وبعد أن لعبت «الكوسة» دورها وأكرموه ونقلوه إلي مدرسة بنبا قادين بالحلمية الجديدة قرر ألا يتمرمغ في التراب الميري بل داسه بحذائه وسار!
لم يعد يذهب إلي المدرسة.. وسار التقرير السري من يد المشرف إلي الوكيل إلي الناظر إلي المفتش إلي كبير المفتشين إلي السكرتير إلي مدير المنطقة إلي مكتب الوزير إلي مستشاره ثم إلي الوزير نفسه بسرعة البرق.. نعم وزير المعارف العمومية .. زكي هاشم .. بعينه أرسل إليه يطلبه.. يقابله يتحدث إليه
- يابني .. أنا أريد مصلحتك!
- ربنا لا يحرمني منك
- قل لي سبب غيابك .. أخدمك
- أنا حر..
- الحرية .. غير الفوضي .. عندنا نظام .. لابد أن تسير عليه!
- لو سرت علي نظامك أدخل في سلك الموظفين وأنا فنان!
- ألا يمكن أن يكون الموظف فناناً
- ممكن إذا أمكن أن ينبت الورد علي ألواح الرخام!
- دخلنا في الفلسفة..
- الفن الحقيقي .. تجديد دائم.. خلق.. ثورة .. جرأة والوظيفة جمود .. روتين .. تكرار .. خوف يترك بصماته علي الإنسان وتشبط فيه رائحته تجعله آلة ماكينة تجعله عبدا للعادة أسيرا لها .. والعادة تخنق في تفكيرنا القدرة علي الابتكار والفن ابتكار والابتكار تمرد والوظيفة نظام والنظام خضوع فكيف يمكن أن يعيش الخضوع والتمرد في شخص واحد!!
- إسمع .. أنا مسامحك.. وترجع وكأن شيئا لم يكن!
- أسف!
- إذن .. أنت مرفود!
وقال عبدالحليم وهو يضحك
- مرفود.. مرفود!
الأسبوع المقبل.. الفصل الثالث