السبت 18 مايو 2024

مرثية للمثقف.. في وداع جابر عصفور

مقالات31-12-2021 | 19:37

جابر عصفور الحاضر دوما في العقل لا يغيب بغياب الجسد. قليل هم من ينطبق عليهم هذا القول في أيامنا هذه. كثيرون هم النقاد وأكثر منهم من عملوا أو يعملون بالشأن الثقافي والسياسي من أبناء الجامعة، لكنه جابر عصفور واحد الذي فتح باب الجامعة منذ شبابه لينفذ بكلمته إلى المجتمع. لم يكن حلمه مقصورًا على الجامعة، بل كانت مصر المدنية الحديثة هي الغاية من وراء الاشتغال بالدرس النقدي. لذا كان المثقف الذي يصعب اختزاله في وظيفة.

 

في اشتغاله النقدي منذ التحق بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة في سبتمبر 1961، لم يتخل عن المنهجية التي تعلمها من طه حسين.لم تكن المنهجية مجرد منهج نقدي يحفظ مقولاته ويطبقها، وإنما كانت سبيلاً للوصول للحقيقة بعقلانية لا يتخلى عنها وبتمرس للتشكيك في ظواهر الأمور والأحوال بحثًا عن عمق غير بادٍ للناظرين. منهجية جابر عصفور التي تعلّمها من طه حسين لم تكن يكتمل معناها لديه دون أن تصحب العقلانية سيدة الكلمات الحية "الحرية". جابر عصفور آمن بإرادة الله مثلما آمن طه حسين بها حين قال" أراد الله أن تكون مصر بلدًا متحضرًا يتمتع بالحرية في ظل الدستور والقانون". فكان ايمانه هذا نبراسًا يهتدي به في اشتغاله النقدي داخل الجامعة وخارجها. صلة الرحم بين جابر عصفور وطه حسين صلة بين جد وحفيد آمن كل منهما بالحرية والعدالة الاجتماعية والعدالة الثقافية، ولعل كتاب جابر عصفور المرايا المتجاورة : دراسة في نقد طه حسين الصادر عام 1983، يثبت لي شخصيًا أن جابر عصفور صاحب المشروع التنويري  قد تعلم من طه حسين ومن قبله من المتنبي شاعر العربية الأكبر، أن المثقف، الذي على شاكلة كل منهم، لا يمكن أن يكون اداة في يد حاكم، وإنما الغالب أن يكون المثقف هو دوما من يسعى لتوظيف السلطة لتكون وسيلته لنقل مشروعه من الكتب إلى أرض الواقع. الحلم باصلاح الحال عن طريق نهج اصلاحي واقعي حلم مشروع تبناه جابر عصفور الشاب وهو يطرق باب الحياة الثقافية محملاً بوعي الناقد الأدبي الأكاديمي.

 

لم يختلط الأدبي بالسياسي عند جابر عصفور فقط حين أصبح أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للثقافة في عام 1995، وإنما كان الوعي لديه باختلاط السياسي بالأدبي سابقًا على ذلك بزمن طويل. فنكسة 1976 دفعته مع الكثيرين من ابناء جيله إلى الثورة على بطريركية الأب السياسي/جمال عبد الناصر في ذلك الوقت، لكن عصفور في الوقت نفسه كان أكثر وعيًا بأن الجميع نقادًا وساسة ومثقفين واقعون في أسر الماضي الذي خلف الهزيمة. دفعت الهزيمة جابر عصفور الى البحث عن مناهج نقدية جديدة تحقق التوازن بين الأدبي والايديولوجي في دراسة النصوص الأدبية للتخلص من أسر الماضي الموزع بين طرفين متخاصمين أحدهما في السلطة ويقدس الجمالي والآخر في المعارضة ويقدس الايديولوجيا. وبالمثل كان عصفور مؤمنًا بضرورة البحث عن صيغة لتحقيق التوازن في قراءة الواقع والنهوض بمصر لتبقى متحضرة متمدينة حديثة يحكمها الدستور والقانون.

 

في زمن الحواة والبهلوانات الذين يملأون الدنيا ضجيجًا في الوسط الثقافي، أستعيد صوت جابر عصفور المثقف كي لا أفقد البوصلة. جابر عصفور الذي علمنا أن الناقد هو ناقد لأنه صاحب رؤية للعالم لها جوهرها الثابت الذي لا يتغير بتغير السياقات والأحوال والمصالح، وأن الناقد لا يكون إلا ناقدًا عقلانيًا خُلق ليرى "النظام في الفوضى وأن يرى الجمال في النظام". الناقد الأدبي ليس بغبغاء ولا مندوب مبيعات يروج لكتب لحساب دور نشر يديرها بعضها جهلة أو مرتزقة. الناقد الأدبي ليس مهرجًا في حفلات توقيع كرنفالية ، الناقد الأدبي جابر عصفور الذي أكتب مرثيته الآن مثقفٌ فاعل اجتماعي يقوم بنشاط اجتماعي يعي مسئوليته ودوره فيه لينتقل بالمجتمع من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية. وقد حافظ جابر عصفور على منهجيته كناقد عقلاني غايته مصر المتحضرة المتمدينة الحديثة التي يحكمها الدستور والقانون في كل مهمة تصدى لها سواء في تعامله مع النصوص أو في بنائه لصروح ثقافية في الزمن الصعب.

الاكثر قراءة