تنشر بوابة «دار الهلال»، قصة قصيرة للكاتب والقاص حاتم السروي، والتي جاءت بعنوان «فوزية»، وإلى نص القصة:
قالت بتسليم وإذعان:
اللهم إني أستودعك أسرتي؛ فالطف بزوجي فؤاد وأعنه على الدنيا.. ثم نظرت إلى ابنتها وقالت: «لا تحزني يا ابنتي إنها إرادة الله، اهتمي بأبيكِ وإخوتك.. مع السلامة».
نظرت إلى السماء وزَفرَت بعمق، وبعدها.. خرج السر الإلهي.
في زمن «كورونا» ماتت «فوزية».
يمتلئ «مقهى الحاج فتحي»، بالزبائن كل يوم ابتداءً من السادسة مساءً، إنه مقهى قديم يعمل بانتظام منذ ستين عامًا، وبالتحديد في نفس العام الذي شهد ولادة فوزية ابنة الحاج فتحي الأولى وأكبر أخواتها الخمسة، ستة بنات وأمهن يشكلن معًا مسئولية لا يقوى عليها إلا الرجال، وهكذا كان فتحي رجلًا.. اعتمد على نفسه فقط، وربى البنات دون أية مساعدة، ورغم أن أربعةً منهن لم يكملن التعليم، لكنه فرح كثيرًا يوم حصلت فوزية على «الدبلوم»، وفرح أكثر حين عينتها الحكومة في سنترال «مدينة طنطا».
على أن فرحة الحاج فتحي بابنته الكبرى كان يشوبها بعض الحزن والقلق، وكيف لا؟ إنها مسكينة، ولدت مصابة بضيق في صمامات القلب، وهي معرضة في أية لحظة للإصابة بالمرض القاتل الذي يعيش أصحابه على حذر متبعين نصائح الطبيب، فالموضوع لا يحتمل التسيب والإهمال.
فوزية آنسة عذباء لا تعرف رجلًا غير أبيها، وذات يوم أقبل عليها فؤاد معلم الفيزياء في المدرسة المجاورة للسنترال، لم تكن تعرفه بالطبع، غير أنه كان يعرفها جيدًا بعد أن أبهره جمالها وراقبها لمدة عام كامل عَلَّها تكون شريكة حياته، وحين خرجت في موعد الانصراف ركض نحوها، وصاح:
- آنسة فوزية، آنسة فوزية.
نظرت إليه متفاجئةً يتملكها الرعب، وهمت أن تجري ثم تذكرت أنها فتاة والناس يسيرون حولها في الشارع! ثم عقدت حاجبيها وقالت مستنكرةً:
- من أنت؟ ماذا تريد؟
وصل إليها وهو يلهث، ثم قال بصوتٍ متقطع:
- أنا فؤاد الشناوي، مدرس ثانوي فيزياء، وبصراحة أعجبت بك وأريد أن أكمل معكِ نصف ديني، فهل توافقين أن نتعرف وأتقدم إلى والدك.
هالتها جرأته وأشعل الخجل خدها الناعم فاستحال جمرةً من نار، ورغمًا عنها اقتحمها شعور الفرحة المختلط بالحياء واحترام هذا الشاب الذي دخل البيت من بابه وأعلن رغبته فيها وطلبها بالحلال، إنه شاب جاد، قوي الشخصية ومحترم، هكذا حللت شخصيته في ثانيتين، فقد بدا كل شيء عنه من عبارته الواضحة «أريد أن أكمل معكِ نصف ديني».
أعطته عنوان البيت بيدٍ مرتعشة وقدمين يريدان القفز من السعادة، وحين زارهم اصطحب معه والدته وخاله؛ فقد توفي والده منذ عامين فصار يعيل أمه ويخدمها خاصةً وهو ابنها الوحيد، ونال فؤاد احترام فتحي فوافق مبدئيًا على زواجه من فوزية، وطلب منه مازحًا أن يسمي ولده «فاروق»، وإن كانت صبية فليسمها «فريال» لتتكون عائلة ملكية مثل عائلة «الملك فؤاد الأول»، الذي منح لكل أولاده اسمًا يبدأ بحرف الفاء.
غير أن بعض القلق ساور فؤاد حين نظر إليه الحاج فتحي بصرامة وقال:
- اسمع يا فؤاد وركز فيما سأقوله الآن، لا أنكر أن شخصيتك الرزينة وطبعك الهادئ، مع وضوحك في الحديث جعلوك محل احترامي، لكننا لن نكون أصدقاء يجلسان معًا في مقهى ويلعبان الطاولة، إنه زواج يا ولدي، وأنت ستأخذ قطعة مني.
- نعم يا عمي، هو كما تقول، ولكن اعذرني؛ ما الداعي إلى هذا الكلام الآن؟
- باختصار يا أستاذ فؤاد لن يتم الزواج إلا إذا سألنا عنك ونجحت في الامتحان، فطالما كلمتنا بوضوح سنكلمك بوضوح، أنت ترغب في الزواج من فوزية، وأنا أرغب في معرفة كل شيء عنك، وحديثك الآن لا يكفي، لذلك أمهلنا أسبوعين، أربعة عشر يومًا دون زيادة، ثم تعال إلينا، ومن رجل لرجل أقول لك أنني سأكون صريحًا معك؛ فإما أن تكون فوزية من نصيبك وإما أن نقول: «كل شيء نصيب».
- من حقك يا عمي، وهذه أمور ليست بأيدينا، فالزواج مثل الموت والحياة قدر، وأنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد، وسؤالك عني لا يخيفني فأنا أثق من نفسي وأعرف رأي جيراني وزملائي عني.
ابتسم الحاج فتحي ابتسامةً ودودة وهم أن يعانق فؤاد لكنه تذكر أنه لا يزال قيد الاختبار فاكتفى أن يصافحه باحترام، ومرت الليلة وبشائر الفرحة تعم البيت الصغير حتى أن «هَنِيَّة» أم فتحية قالت: قلبي يخبرني أن فوزية سوف تتزوج فؤاد.
وجاء فؤاد في الموعد المحدد ليجد عيني حَمِيَّهُ يبرقان بالسعادة، وابتسامته العريضة تجعله مثل المقاتل المنتصر، لقد زال صراع «فتحي القهوجي» مع القلق وعرف أنه سيناسب رجلاً، وفي حين شعر فؤاد بلذة حب الفتاة وأهلها له، شعر فتحي بالطمأنينة، حيث كان الأرق يعبث به كل ليلة فلا ينام إلا قليلًا.
إنها الذكريات التي راودت فؤاد اليوم عن نفسه في العزاء وتمكنت منه، تذكر يوم عرسه وليلة الدخلة، الحاج فتحي كان يرقص كأنما يزوج ولده وليس ابنته، لقد عامله معاملة الأب لابنه، لم يكلفه شيئًا تقريبًا، كانت الشقة جاهزة، وغرفة النوم ترحب بالعروسين، والمطبخ ليس فيه إلا موقد النار الصغير الذي يسميه الناس «البابور»، قال له: «أنا أريد لابنتي رجلًا وليس بوتجازًا».
اليوم ماتت امرأة لم تكن تجيد الحديث بمقدار ما أجادت الصمت، إنها الفتاة النحيفة الوادعة التي أحبها فؤاد، ثم أحبها أبناؤه منها حين سقتهم الأمومة، لا أحد يعرف أو يريد أن يعرف إن كانت قد ماتت من الكورونا أم من القلب، ذهب السؤال معها إلى القبر، فالموت واحد وإن تعددت أسبابه، والجميع يتنهدون في حزن قائلين: «في زمن قل فيه الطيبون فقدنا اليوم واحدة منهم.. للأسف».