الأربعاء 22 يناير 2025

مقالات

كما الحزن.. كما الحياة


  • 4-1-2022 | 21:21

وهيبة سقاي

طباعة
  • قصة قصيرة: وهيبة سقاي

الساعة تلهث فوق الحائط، عقاربها تشير إلى تمام السادسة صباحًا.. أنسّل من فراشي وأتسلّل بصمت اللّصوص إلى الحمّام.. أتحسّس جدران الطُرقة المظلمة.. تبدو لي طويلة ومخيفة كدروب المقابر.. أمّد أناملي لزّر الكهرباء فأضيئ الحمّام، أتناول قطعة الصّابون الزّهرية اللّون.. أغسل وجهي وأسرّح شعري الطويل بتنهيدة عميقة.

 

أعود أدراجي إلى غرفتي الصغيرة المدفونة في أحشاء العمارة.. لا مفّر من أن  أشعل النّور هذه المرّة.. تسطع الأشياء.. مكتبي المرّتب.. جدران من الكتب تحيط به من كّل ناحية.. جدران من الهذيان.. هناك نجيب محفوظ ويوسف السباعي وثروت أباظة ومحمد الدّيب وكاتب ياسين ورضا حوحو وغيرهم.. عيونهم الصغيرة المستديرة المرصوصة على الرفوف تراقبني.. تعّد علّي حركاتي وأنفاسي بفضول وقح.. أحسّها تصدر أصواتًا غريبة.. كحشرجة موتى.. تلاحقني وأنا أغادر المكان، وأنا أفّرّ منها، وأنا أتجّنب النظر والالتفات إليها.

أرتدي ملابسي.. أحضّر كأسًا من النسكافيه السّاخن.. أسكبه في جوفي في عجالة.. أرتدي معطفي السميك الأسود وأتناول محفظة أوراقي.. أفتحها وأتأكّد للمرّة الألف من وجود جميع الأوراق والكتب بها.. أتجّه صوب باب الشقّة.. أدير المفتاح في القفل وأدفع الباب ببطء شديد، وكأنني أخشى أن أوقظ والدتي من نومها.

 

ولكن أين هي والدتي؟ ما الذّي حلّ بي فجأة؟ هل هي بداية فقدان الذاكرة أم هي أعراض مبّكرة لداء ألزهايمر؟ لقد رحلت  والدتي منذ أيام ولن تعود أبدًا.. أفتح الباب وأوصده بعنف شديد يرتّج له سلّم العمارة.. من اليوم فصاعدًا، لا تهمّني  راحة أحد وليذهب الجيران إلى الجحيم!

أغلق الباب بإحكام وأدّس المفتاح في حقيبتي.. لا صوت يُسمع في سلّم العمارة ولا حتّى دبيب نملة.. البوّاب والسكّان جميعهم في أحضان مورفيوس، إلهة النّوم والأحلام الّلذيذة.. يحلمون جميعهم بالنّجوم المتلألئة والأحضان الدّافئة ورزم النقود المكدّسة على دكك البنوك .

 

أنزل السلّم.. تلتهم ساقيَّ عتبات الدّرج التهامًا.. شوق قوّي يدفعني إلى الخارج دفعًا.. أجتاز بوّابة العمارة.. أتخطّى عتبتها الرّخامية العريضة بغبطة وانشراح، كتخطّي رياضي  لخّط الوصول.. هبّات ريح بكر باردة تلسع وجهي.. أمام مبنى العمارة الضّخم.. تقف سيّارة أجرة.. هي لجارنا القاطن بالدور الثاني من العمارة.. لدى رؤيته لي ينزل من مركبته ويحييني بأدب.

 

ــ صباح الخير آنسة.. كيف حالك؟

 

ــ بخير والحمد لله.. هل من الممكن أن تقلني إلى مقبرة المدينة، ثم بعدها إلى المعهد؟

 

ــ ممكن جدّا تفضّلي!

 

تنطلق بنا السيّارة نحو مقبرة المدينة القابعة بجلالٍ على هضبة حي "زواغي سليمان".. تسير بنا  في شوارع قد خلت من المّارة.. أشّعة باهتة ترسلها الأضواء المصطّفة على جانبي الطريق.. ترتعش وتلتهب وتترّنح، ثم تبدأ بالذوبان مع تسلّل خيوط الصباح الأولى.

 

الضياء بدأ يشّع من مشهد المدينة المتأهبّة لليقظة.. مدينة تزداد استسلاما لصباح يافع أطّل عليها بلؤم.. مستيقظة لتوّها من نوم مضطرب.. من ليلة لم تغمض لها فيها جفون.. إنّها تعلم جيدا أنّ شتاءً غضوبًا أفاق من غفوته، سيمسح بيده الثلجية على رأسها فيذهبَ دفئها ويحوّلها إلى كومة من الثّلج والصّقيع.

 

 

يمّد السائق الصّامت يده نحو الراديو ليشّغله.. لا شيء سوى أصوات مشوّشة مختلطة.. ما زال يبحث عن همسات بشرية.. لا يلتقط سوى أغانِ ونكتٍ و برامج تحوّلت إلى لا شيء.. سقطت أقنعتها وتهاوى زيفها.. محّطة واحدة.. تروي قصصًا عن أشياءٍ جميلة لا وجود لها على أرض الواقع.. عن الحّب الذي انقلب إلى كره.. عن الإخلاص و الوطنية المتنكرة في ثوب الخيّانة والنّذالة.. عن شيء ما سيحدث قريبا جدّا.. ربّما سيغيّر أشياءً كثيرة.

 

أصل إلى المقبرة.. أمام بوابّتها الحديدية الخضراء الضخمة، أحّس بطمأنينة عجيبة تغمرني.. هنا الدار التيّ يسكنها الأحياء الحقيقيون.. هنا يرقد أناس يمارسون فرديتهم بطريقة مثلى.. بعيدة عن أي نفاق أو مجاملات أو رياء أو خبث.. هنا لا تناقض بين الأقوال و الأفعال.. الوضوح و الشفافية سائدان بامتياز!

 

أسير بين القبور المنبسطة بخضوع تحت سماء الخريف الرمادية الداكنة.. أراها كما لم أرها من قبل.. البعض منها لا زال أكوامًا من تراب أصفر قد وضعت عليها ألواح و قوارير بلاستيكية وحتّى عبوّات كوكا كولا فارغة، وهناك البيضاء الرخامية الجميلة البناء، بمشاهد قد كتبت عليها أسماء أصحابها بخّطي الرقعة والدّيواني.

 

ألمح قبر والدتي، في الرواق السّابع.. يبدو محاطًا بهالة زرقاء شفافة.. نعم هي زرقاء و ليست بيضاء.. كانت والدتي تحّب اللون الأزرق كثيرًا.. تقول عنه أنّه لون الهدوء والرومانسية الحالمة والسلام الروحي.. أتأمّل القبر بمشهديه الرخّاميين البسيطين جدّا.. دمعة جريئة تحاول النزول.. أمنعها من تحقيق مبتغاها بتمرير منديلي الأبيض عليها.

 

دون وعي منّي تمتّد يدي إلى الحشائش المحاطة بالقبر.. أقطف منها ورقة.. أرفعها إلى أنفي، رائحتها زكية طيّبة، كطيبة قلب والدتي الرقيق الحنون.. تلك المرأة التي أفنت عمرها في تربية الأجيال والارتقاء بالّلغة الفرنسية لأعلى مراتب السّؤدد و الرِفعة.

 

 

 

خمسٌ و ثلاثون سنة كاملة أمضتها في التعليم الابتدائي.. منحت  خلالها الكثير من دمها و مشاعرها وروحها كذلك.. من غير مقابل.. من غير حتّى كلمة شكر أو امتنان.. غادرت بثلاث أعواد طباشير.. أبيض وأحمر وأخضر.. ألوان العلم الوطني المفّدى.. محفظة جلدية مهترئة ومسطرة خشبية لم تعد أرقامها واضحة من فرط الاستعمال.. ميراث ضئيل كئيب، لمسيرة تعليمية طويلة حافلة بالأخطار والتضحيات.. كانت كشمعة تضيء الظّلمات.. ثمّ لا تلبث أن تذوب وتنصهر في الظلام الدّامس الرّهيب.

 

كقائد معركة، دأبت أن تتعامل مع تلاميذها بتعليمات صارمة وخطّة مرسومة.. لم تكن تبالي بما في المناهج التّي تدّرسها من صعوبات.. بل تتغّلب عليها وتبعث فيها المرونة والحيوية، بتزويد تلاميذها بما يتلاءم وحاجاتهم وما يناسب ميولهم ويثير اهتمامهم.

 

أتأمل بحزن  وحسرة التراب الرّخو الذّي بلّلته الأمطار وعجنته الريّاح.. غدًا سأكون أنا كذلك جزءًا منه.. سأرحل  إلى براري النّوم الأبدي والصمت الرمادي الكئيب.. سأستسلم أنا كذلك لدوّامة الموت التّي ستشّدني إلى الأسفل.. إلى حيث العتمة الحالكة السواد.

 

أضّم يدّي لبعض، أرفعهما إلى مستوى صدري واقرأ فاتحة  الكتاب.. أدعو لأمّي، لأبي و لمن حولهم من الموتى.. بل لإحياء هاته الدّار الهادئة المسالمة.. أدعو للجميع بالرّحمة والسعادة الأبدية في دار الخلود.

 

أحّس بوحشة رهيبة.. أنظر حولي لا أحد هنا ممن اعتادوا ارتياد هذا المكان.. ربما تكون برودة الطقس الشديدة هي السبب في عدم مجيئهم اليوم.. ألمح رجلا رثّ الثياب بيده رفشا ومعولا يتقدّم ناحيتي.. من أي قبر خرج هذا الشبح يا ترى، لقد كان المكان خاليًا من لحظات خلت؟ يقترب منّي أكثر:

 

ــ هل تريدين قبرًا رخاميا  لميّتك يا سيّدة؟ أسعارنا هنا في متناول الجميع، ليست باهظة الثمن كما هو الحال في مقبرة المدينة، ثّم إنّ مشاهدنا ذات نوعية جيّدة ولنا خطّاط.

 

ــ لا أريد، أشكرك!

 

يغيظه ردّي البارد ومقاطعتي لحديثه بل لإعلانه الإشهاري.. يتأملني بازدراء ثّم يمضي في جولته بين القبور بلا مبالاة عجيبة، وكأنّه في حديقة غنّاء لا في مقبرة.

 

 

 

أنظر إلى ساعة يدي، لقد اقترب موعد عملي.. أحاول جاهدة إيجاد طريق بين القبور ومغادرة المكان .

 

 

يلحق بي متسّول يجّر رجله المبتورة.. يستجديني بذّلّ وانكسار.. أمنحه قطعة نقدية بقيمة خمسين دينارٍ..المتسّول يدعو لي بطول العمر.. يظّل يتأمّل القطعة النقدية لبرهة من الزمن قبل أن يضعها في رزمة سوداء صغيرة تعلوها تكّة ثّم ينصرف.

 

أخرج من المقبرة، أركب السيارة التّي تنطلق بنا نحو المعهد.. أمام بناء ضخم أبيض اللون بنوافذ كثيرة تقف.. أمنح للسائق أجره، يودّعني بابتسامة حزينة.. أتجّه صوب المدّرج.. الطلبة مجتمعون أمام الباب في انتظاري، على جباههم يرتسم شريط كلمات مضيئة كلّها تفاؤل وأمل بغد جميل.

 

 الآن فقط أدرك أنّ الحياة التّي ودعتها عند البوّابة الخضراء، ستولد هنا من جديد.. من هنا يشّع الأمل.. من هنا تبزغ الشّمس التّي يتحّدى ضياؤها ظلام العتمة

 

ــ تفضلوا.. خذوا أماكنكم.. سنبدأ المحاضرة.

الاكثر قراءة