الأحد 5 مايو 2024

بهاء درويش وأخلاقيات الإعلام.. رؤية تحليلية

مقالات10-1-2022 | 15:18

لا شك أن هذا التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يشهده العالم اليوم قد أثر بشكل مباشر على مبحث الأخلاق، مما جعل هذا المبحث يصعد على قمة المباحث الفلسفية خاصة منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين؛ ونتيجة لهذه التطورات المتلاحقة التي يشهدها عالم الإعلام الآن جاءت أهمية الحديث عن "أخلاقيات الإعلام"؛ لما لها من أهمية كبرى في تشكيل فكر المُشاهد والقارئ، ذلك ما دفع المفكرين والفلاسفة حول العالم للاهتمام بالحديث عن أخلاقيات الإعلام، بل ووضع أسس ومعايير أخلاقية من خلالها يستطيع الإعلام القيام بدوره دون الإضرار بالجانب الأخلاقي.

 فمن هنا جاءت أهمية السؤال: هل هناك أخلاقيات في الإعلام؟، أو هل يمكن وضع ضوابط أخلاقية حاكمة أو موجهة للإعلام؟، أم ستشكل تلك الضوابط قيوًدًا تؤثر على تحقيق أهداف الإعلام؟، ومن  أهم هؤلاء المفكرين الذين أولوا اهتمامًا بالغًا بمبحث الأخلاق بوجه عام وأخلاقيات الإعلام بوجه خاص المفكر والفيلسوف المصري "الأستاذ الدكتور بهاء درويش"  فقد أفرد بحثاً تفصيليًا في كتابه "أخلاقيات العلم والتكنولوجيا وتطبيقاته في الواقع المعاصر" المنشور في دار الوفاء بالإسكندرية بعنوان: "أخلاقيات الإعلام دعاوى التنظير ومبررات التفعيل"، محاولاً من خلاله وضع نسق أخلاقي قائم على أسس فلسفية يستطيع من خلاله الإعلام القيام بدوره مع الالتزام بالقيم الأخلاقية. 

كان ذلك من قبيل الاهتمام الشديد بضرورة وجود جانب تطبيقي للفلسفة، وانطلاقًا من أهمية دور المفكر أو الفيلسوف في مناقشة مشكلات وقضايا عصره، ومحاولة إيجاد حلول لها، كما سعى هذا الكتاب إلى  تشكيل الوعي لدى الإنسان من خلال تناوله لقضايا في غاية الأهمية مثل: أخلاقيات الإعلام لما لها من أهمية فرضتها التطورات المتلاحقة لصناعة الإعلام وما أثارته من تساؤلات حول: هل هناك أخلاقيات في الإعلام؟، أو هل يجب أن  يحكم الإعلام ضوابط أخلاقية معينة حاكمة أو موجهة  أم تشًكل هذه الضوابط قيودًا على تحقيقه لأهدافه وإنجازه لأعمله؟، ومن خلال هذا البحث جاءت الإجابة لتلك التساؤلات من خلال وضعه لمجموعة من المعايير التي تجعل الإعلام يقوم بدوره ويحقق هدفه دون المساس بكرامة الإنسان وتتلخص هذه المعايير في:

-الصدق الذي يجب على الإعلامي أن يلتزم به في عرض مادته الإعلامية. ولكن هل يجب أن يلتزم به في جميع الحالات أم أن هناك استثناءات؟، هناك مجموعة من الاستثناءات التي يجب وضعها في الاعتبار عند عرض الإعلامي لمادته الإعلامية ومنها: الأمن القومي للمجتمع فعندما يكون عرض قضية أو خبر ما يمكن أن يُوقع الضرر بالمجتمع أو يؤثر على أمنه واستقراره فيفضل في هذه الحالة عدم النقل بدلاً من تزيٌف الحقائق أو الكذب وذلك انطلاقًا من مبدأ منع الضرر وتقديمه على مبدأ جلب المنفعة. 

-الموضوعية كمعيار أخلاقي في غاية الأهمية، وقد قُصد به: عرض المادة الإعلامية من شتى جوانبها، لا عرضها من جانب واحد، كما تعني عدم تدخل الإعلامي بأهوائه أو ميوله في اختيار جانب معين يعرض من خلاله الموضوع، بل عليه دائما أن يضع في الاعتبار إمكانية وجود جوانب أخري يمكن من خلالها توضيح الفكرة الإعلامية أو الموضوع، وهذه الموضوعية تتطلب بالطبع شمولية وتعدد المصادر، أي على الإعلامي التحقق من صحة وشمولية مصادره فلا يعتمد الإعلامي على مصدر واحد في معلوماته بل عليه تغطية جميع جوانب ومصادر موضوعه.

 من هنا كان السؤال: هل يمكن لمعيار الموضوعية أن يتحقق في مجال الإعلام؟ وعند الإجابة على هذا السؤال نجد أنفسنا أمام رأيين: رأي رافض لتحقيق هذه الموضوعية في مجال الإعلام وذلك كان استناًدًا منهم على أن الإعلامي بحكم طبيعته البشرية حتى إذا أراد التزام الموضوعية فهو لا يستطيع تطبيق ذلك، فهذا التيار يري أن تحقيق الموضوعية في مجال الإعلام  أمر مٌحال لا يمكن تحقيقه، بينما نجد الرأي الآخر متمثلًا في دعاة الموضوعية أنفسهم، فعلى الرغم من تسليمهم التام بأن عملية النشر تخضع دائمًا للاختيار،  وأن لكل إعلامي ميوله وعواطفه التي تدفعه بالطبع للانحياز لجانب معين دون غيره من جوانب الموضوع، إلا أنهم يرون أنه بإمكان الإعلامي تحقيق الموضوعية من خلال موضوعية النقل أو التحليل، كما يتطلب تحقيق الموضوعية أن يكون الإعلامي على استعداد تام بالاعتراف أنه كان على خطأ إذا ما حدث ذلك أثناء نقل خبر أو معلومة للمشاهد بل وتصحيح هذا الخطأ على الفور.

إن جوهر الصحافة الجيدة لدى أنصار الموضوعية يكمن في القدرة على وزن الأدلة بموضوعية وإمكانية التحقق منها أو تكذيبها استناًدًا على أدلة عقلية مقنعة، هذا الرأي الأخير هو ما تميل له كاتبة هذه الأسطر، فعلى الرغم من أن الإعلامي هو قبل كل شيء إنسان له ميول وعواطف تسهم بدورها في توجيه أفعاله على نحو ما، وتدفعه للانحياز لجانب معين من جوانب الموضوع إلا أنه بإمكانه على الأقل التزام الموضوعية في نقل وتحليل الموضوع قبل وأثناء النشر.

من هنا جاءت أهمية التساؤل عن: هل الصدق والموضوعية يبرران عرض صور العنف عبر وسائل الإعلام؟، عند الإجابة على هذا السؤال لم نجد قولاً واحدًا، بل تعددت الآراء في هذا الصدد فهناك تيار يرى أن: الصدق والموضوعية يقتضيان عرض صور العنف، ونشر الجريمة باختلاف صورها، ويبرر أتباع هذا التيار قولهم بأن الإعلام الجيد هو ما يتصف بنقل الحقيقة كاملة أو صورة الواقع بكل صدق وموضوعية تامة وأن أي حذف في جوانب هذه الصورة الواقعية سوف يؤدي إلى تشويه الواقع. 

 أما التيار الثاني فيرفض عرض صور العنف والجريمة عبر وسائل الإعلام المختلفة، وذلك الرأي جاء انطلاقًا من أيديولوجية معينة وهى: الرغبة في تقديم صورة جيدة مثالية للواقع وذلك لأنهم يعرفون الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام في تشكيل فكر المُشاهد، فقد يُؤدي نشر مثل هذه الصور إلى انتشار العنف والجريمة؛ نتيجة لتقليد أبناء المجتمع لما يشاهدونه عبر وسائل الإعلام؛ لأن التعريض المتكرر للمشاهد لصور العنف قد يحوله إلى كائن لامُبالي ولا يتعاطف مع ضحايا العنف.

 كما يتسبب أيضًا فضح بعض مرتكبي الجرائم في تحويلهم إلي أشخاص مستهجنة هم وعوائلهم ويكونوا بذلك قد عُوقبوا مرتين، كما يزداد القلق على الأطفال من نشر صور العنف والجريمة وذلك لأنها سوف تؤثر سلبًا عليهم وتجعلهم يكونون صور خاطئة عن الواقع من خلال رؤيتهم لهذه الصور المشوهة من خلال الأفلام مثلًا أو غير ذلك وهذا الرأي هو ما وجدت كاتبة هذه الأسطر ميلًا تجاهه. 

-تأتي الأمانة كمعيار أخلاقي من أهم معايير أخلاقيات الإعلام انطلاقًا من رؤية الجمهور في الصحافة السلطة الرابعة وذلك لثقتهم في الصحافة وهذه الثقة، هي ثقة في أمانة الأخبار والتحليلات والمصادر التي تأتي بها الصحافة وثقة في رجالها ومن هنا جاءت أهمية إثارة السؤال التالي: هل يُمكن اللجوء في بعض الأحيان إلى الكذب والالتواء من قبل بعض رجال الصحافة لكشف حقيقة معينة؟ أي هل يجوز العمل بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة؟ للإجابة على هذا السؤال نجد أمامنا رأيين إما الرأي الرافض لأي نوع من الكذب والالتواء والمناورة كوسيلة لكشف الحقائق مُستدلين على ذلك بقول كانط بأن الكذب والغش وعدم الوفاء بالوعد أساليب لا أخلاقية لا يوجد ما يبررها، في حين نجد رأياً  آخر يقول بأن هناك حقائق لا يمكن كشفها إلا باللجوء لمثل هذه الأساليب وأن الإعلاميين إذا اتبعوا الصدق والأمانة قد لا يستطيعون الحصول على معلومات تمكنهم من فضح المفسدين ومن ثم فكما نقبل أحيانًا الكذب في وقت الحرب حفاظًا على سرية المعلومات فيمكنا أيضًا قبول هذه الأساليب لكشف بعض الحقائق.

- حق احترام الخصوصية كأساس أخلاقي يجب توافره ضمن أخلاقيات الإعلام يقف بين رأيين: أحدهما يري أنه من حق كل إنسان الاحتفاظ بخصوصيته وعدم إبداء أي معلومات خاصة به سوى لمن يختارهم هو للتصريح لهم بذلك، كما اعتبر المُؤيدون لهذا الرأي الاعتداء على خصوصية أي إنسان دون إذنه تعُد جريمة أخلاقية، وذلك الرأي هو ما نميل إلي تأييده انطلاقًا من ضرورة احترام حرية الفرد في الاحتفاظ بمعلوماته واحترام خصوصيته كإنسان، كما نجد رأياً يقول بأنه قد لا يكون لدينا الحق في خصوصية بعض المعلومات أو النشاطات التي نمارسها متى كان يجب أن يتم عرض هذه المعلومات والنشاطات في إطار عام ومتى  كان ما يتم ممارسته بشكل خاص يندرج تحت إطار المصلحة العامة ومن هنا رأوا الحق للصحفي في  اقتحام خصوصية بعض الأشخاص إذا شك في تورطهم في بعض وقائع الفساد.  

إعلام العلم وأهميته:

لقد أشار الأستاذ الدكتور بهاء درويش في بحثه هذا إلى إعلام العلم باعتباره جانب على قدر كبير من الأهمية،  فقد تنبه إليه مجموعة من الإعلاميين المشتغلين بالعلم في العالم الغربي في الآونة الأخيرة، وهو يعني مسؤولية الإعلاميين عن نقل أخبار العلم والعلماء، وجاءت أهمية هذا الجانب من جوانب الإعلام عندما كان نفل المعلومات العلمية للعامة من خلال وسائل الإعلام بصورة غير دقيقة، ذلك ما أسهم بدوره في توصيل صورة مشوشة عن العلم والتكنولوجيا، مما جعل العامة يفقدون الثقة في العلم والتكنولوجيا ومن هنا جاءت أهمية وضع مجموعة من الأخلاقيات التي يجب على الإعلاميين في مجال العلم إتباعها أثناء نقل أخبار العلم والتكنولوجيا، وهى متمثلة: في تحري الدقة في نقل المعلومات العلمية ومصادرها ودقة صياغتها ونشرها، كما نجد ضرورة تجنب الإعلامي لكل أشكال التمييز سواء على أساس الجنس أو العرق أو الشكل أو غير ذلك من أشكال التمييز.

أشار أيضًا لضرورة تشجيع تبادل الآراء في مجال العلم وذلك مع تجنب تضارب المصالح كما نبه إلى ضرورة أن يقبل الكاتب في مجال العلم  الإعلان الفوري والعلني عن أي أخطاء وسرعة تصحيحها، وذلك انطلاقًا من السعي الدائم لتحقيق مبدأ الأمانة الإعلامية الذي سبق الحديث  عنه،  فهذه الأخلاقيات التي يجب توافرها مازالت غائية بل ومفتقدة وذلك يرجع بالطبع لعدة أسباب منها:

أن العقل العربي ما زال متأخرًا كثيرًا في إنتاج العلم، فهو قاصر على استهلاكه فقط للإنتاج العلمي والتكنولوجي دون المشاركة في إنتاجه؛ وذلك ما أدى لوجود فجوة علمية وتكنولوجية عميقة بين الشرق والغرب، كما نجد أيضًا غياب الرقابة والمُحاسبة في هذا الجانب من الإعلام، فمن ذا الذي يحاسب إعلامياً عربياً قام بنشر معلومة خاطئة سواء في المجال العلمي أم غيره.

  كما نجد أيضًا ضيق المساحة المخصصة من جانب الصحف اليومية والأسبوعية لنشر أهم الإنجازات في المجالين العلمي والتكنولوجي، ولكن نجد أنفسنا مع هذه التطورات المتلاحقة والمتسارعة في مجالي العلم  والتكنولوجيا بحاجة  مُلحة  إلى تطوير أخلاقيات الإعلام؛ لتحقيق الهدف المنشود وهو ضرورة أن يُواكب هذا التقدم العلمي والتكنولوجي  تقدمًا أخلاقيًا  حتى نستطيع تحقيق أكبر قدر من الفائدة من هذا التقدم دون الإضرار بالجانب الأخلاقي،  ولتحقيق ذلك لابد من رفع درجة الثقافة العلمية لهؤلاء الإعلاميين المعنيين بهذا الجانب، كما يتطلب الأمر وضع ضوابط أخلاقية لضمان استمرار ثقة العامة في العلم والتكنولوجيا بل وفي الإعلامي الذي يقدم لهم هذا الخبر.

كما أدي ذلك إلى الحديث عن إمكانية وجود أخلاقيات كونية للإعلام؛ وذلك رغبة في إصلاح وتطوير نظام الإعلام الكوني، نتيجة لسيطرة مجموعة من الدول الغربية على الإعلام، واستحواذها على أدوات تكنولوجيا الإعلام مما أحدث بدوره فجوة ثقافية كبري بين هذا العقل الغربي باعتباره منتجًا لهذا التقدم العلمي والتكنولوجي والعقل العربي باعتباره مستهلكًا لنواتج هذا التقدم كما دفع ذلك للحديث غن ماهية هذه الأخلاق الكونية.

عند الحديث عن هذه الأطر الكونية لأخلاقيات الإعلام نجد أنفسنا أمام رأيين أحدهما يرى أن الأطر الممثلة للأخلاقيات الكونية للإعلام هي في  مجملها أطر غربية وهذا الرأي  نراه غير منصف بل يجانبه الصدق، وذلك لما فيه من إنقاص لحق الثقافات الأخرى في  المساهمة في وضع تلك الأطر ولاسيما الثقافة العربية الإسلامية وذلك ما يأخذنا إلى الرأي الثاني الذي لمسنا تأييده من خلال هذا الجزء من البحث  والذي  قُصد من خلاله بيان أن هذه الأطر الأخلاقية هي  جزء لا يتجزأ من ثقافتنا  العربية والإسلامية،  ودليل ذلك ما بين أيدينا من آيات قرآنية وسنة نبوية تؤكد هذا الرأي ويأتي في مقدمة تلك المبادئ احترام الكرامة الإنسانية لأنه خليفة الله في الأرض وذلك ما يقتضي بالضرورة احترام خصوصية الإنسان واستقلاله في اتخاذ قراراته واحترام إرادته،  وهذا الرأي هو ما نرتضيه أيضًا وذلك إنصافًا لحق ثقافتنا العربية الإسلامية في المساهمة في وضع الأطر الأخلاقية الكونية للإعلام.