السبت 4 مايو 2024

جابر عصفور .. ثقافة راسخة


د. إبراهيم السعافين

مقالات7-2-2022 | 16:07

د. إبراهيم السعافين

 التحق جابر عصفور بقسم اللغة العربيّة في كليّة الآداب جامعة القاهرة، حين كان القسم يزدان بالرعيل الأوّل من الأساتذة الكبار أمثال سهير القلماوي وشوقي ضيف وعبد العزيز الأهواني وعبد الحميد يونس وخليل يحيى نامي ومصطفى السقا وشكري عيّاد ويوسف خليف وحسين نصّار الذين تلمذوا للجيل الأوّل من بُناة الجامعة المصريّة من أمثال طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولي ومن كبار الأساتذة في أقسام الكليّة الأخرى، جيل العمالقة الذين ذاع صيتهم في الآفاق.

ثقف جابر عصفور في قسم اللغة العربيّة التّراث في مصادره المختلفة، وأطلّ على صور الثقافة الحديثة، ما مكّنه، وهو يسعى بجدّ نحو اكتساب المعرفة بشقيها التراثي والحديث، نحو التميّز، فدرس الصورة في شعر الإحيائيين في أطروحة الماجستير ، ودرس الصّورة في التراث النقدي العربي في أطروحة الدكتوراة.

والذي يدرس الصّورة يدرس جوهر الأدب والنّقد. ويحقّق قاعدة متينة للانطلاق في مقاربة المفاهيم والاتجاهات والأدوات النقدية التي يتجدّد الاهتمام بها مع ما يستجد من أفكار ومصطلحات ومفاهيم واتجاهات ومناهج.

رسّخ قسم اللغة العربيّة لدى جابر عصفور ثقافة تراثيّة عميقة رفدتها ثقافة عصريّة تمكّن الطالب من الانفتاح على الفنون الأدبيّة الحديثة من الناحيتين النظرية والتطبيقيّة على أيدي أساتذة كبار استوعبوا التراث وانفتحوا على التيّارات الغربيّة في الأدب والنّقد والفكر، وقدّموا لطلابهم القدوة والنموذج في التفكير والتحليل والمناقشة والمساءلة والحوار وإعلاء قيمة الحريّة الأكاديمية. وليس غريبًا أن يختار موضوعًا له نسب قوي بالتّراث وهو الصورة عند شعراء الإحياء، وهو الموضوع الذي يحتّم عليه أن يعود إلى مفهوم الصّورة في النقد الغربي الحديث، وهو الذي سيقوده بالضرورة إلى امتلاك لغة أجنبيّة تسعفه في دراسة الصورة عند الإحيائيين، ومن ثمّ عند نقّادنا وبلاغيّينا القدماء في أطروحة الدكتوراه فيما بعد، وأن يطلع على الاتجاهات الحديثة في النقد أي في المرحلة التي أعقبت مرحلة النقد الجديد والجدل الذي احتدم بين أتباع النقد السياقي وخاصة الماركسي والاجتماعي وأصحاب النقد الجديد، حيث كان رشاد رشدي ممثّلاً للنقد الجديد، ومحمد مندور ممثّلاً للنّقد الاجتماعي، هذه المرحلة هي مرحلة النقد الألسني الذي تبناه بعض نقادنا مثل البنيوية والتفكيك.

ولعلّ ولع جابر عصفور بالاتجاهات الجديدة في النقد جعله في بداية انفتاحه على التيّارات الحديثة في النقد وخاصة البنيويّة والتفكيك يقترب من بعض النقاد والشعراء الذين زعم بعض الدارسين أنهم أوغلوا في الحداثة ونادوا بشيء من القطيعة مع التراث، حين خصّص محورًا ضافيًا في مجلة (فصول) التي كان يرأس تحريرها عنوانه ( الأفق الأدونيسي).

وفي هذا العنوان ما فيه من مجاملة ومغازلة. على أنّ هذا الاقتراب لم يؤثّر ألبتة في صلته العميقة بالتّراث. كان طموح جابر عصفور كبيرًا، فقد أراد أن يقدّم نموذجًا لافتًا في تأثّر النقد الألسني والمناهج النقدية الحديثة حين درس إنجاز طه حسين المتنوع والمختلف في كتابه المرايا المتجاورة، دراسة في نقد طه حسين، والمرايا كما نرى في كتاب إحسان عبّاس " اتّجاهات الشعر العربي المعاصر" من الأدوات التي يتوسّل بها الشعراء للتعبير عن القضايا الذّاتيّة والموضوعية شأنها شأن الأقنعة التي يتقنّع بها الشعراء أيضًا للتخفيف من غلواء الذّاتيّة. وقد كتب جابر في الأقنعة مقالة مهمة نشرها في مجلة فصول.

لقد تأثر في كتابه ( المرايا المتجاورة) بالبنيوية التكوينية متجاوزًا البنيوية الشكلية مفترضا أنّ كل ما أتى به طه حسين يمكن وضعه في نسق معيّن تنهض به بنية معيّنة ترتد فيه العناصر المفردة إلى البنية الكليّة.

على أنّ جابر عصفور الذي أفاد من البنية الشكليّة التي تجلّت في بنيوية دي سوسير ومن البنيوية التكوينية التي زاوجت بين البنيوية والماركسية على نحو ما نظّر لها لوسيان جولدمان تلميذ جورج لوكاش، رأى أنهما كلتيهما قد أفادتا وعيه النقدي.

على أن جابر عصفور الذي لم ينقطع وعيه داخل المجال الجمالي، وبالتالي داخل أسوار الأكاديميا ظلّ وفيًّا لعلاقة النّاقد بالمجتمع بوصفه فردًا في مجتمع، وعليه مهمة الإسهام في التفاعل والإرشاد والتنوير والتقدم بوصفه حاملاً لقيم الحرية والمساواة والعدالة والتسامح بعيدًا عن الانغلاق والتعصّب.

لقد أراد جابر عصفور الطّلعة الطموح أن يتعرّف على كلّ جديد، من الاتجاهات الجماليّة المغرقة في الجانب الشّكلي إلى الاتجاهات التي احتفت بالسّياق، ولعل هذا يفسّر إعجابه الشديد بأستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا بنيويورك الذي ربط الأدب بالظّواهر الاجتماعيّة والأنساق الثقافية والمحمولات السياسية، ورأى في كتابه الاستشراق ثم في كتابه الثقافة والإمبريالية أنّ المعرفة جاءت خدمة للمشروع السياسي الغربي في تكوين بنية معرفية نمطية بغية احتواء الشرق والسيطرة عليه.

وكان لجابر عصفور اجتهاداته التي جعلت بعض مقولاته إشكالية في نظر بعض الدارسين والمبدعين والنقاد على نحو ما نرى في كتابه ( زمن الرواية) الذي ربّما عارض فيه كتاب أدونيس الذي عنوانه ( زمن الشّعر). وقد يكون كل من أدونيس وجابر عصفور متفائلاً كثيرًا فيما يتصل بموضوعية التلقّي، فالدّراسات تظهر أن القرّاء في انحسار وأعداد النسخ التي تُطبع من الديوان الشّعري أو الرواية لا ترقى إلى أن يصبح لكلٍّ منهما زمنه الخاص.

لقد أظهر جابر عصفور مقدرة كبيرة بوصفه ناقدًا ومخطّطًا ثقافيًّا استراتيجيا حين تسلّم مهام الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، فأقام ملتقيات للرواية والشعر، واختفى بأعلام الثقافة في مصر والعالم العربي، وجعل من المجلس خليّة ثقافيّة لا تهدأ جمعت المثقفين والأدباء العرب في أرض الكنانة، واستضافت المثقفين الغربيين الذين اهتموا بالفكر العربي والحضارة العربيّة إلى جانب رموز النقد الغربي والثقافة الغربية.

لقد أشرف جابر عصفور على إصدار مجموعة كبيرة من كتب التراث العربي والتراث الشرقي والعالمي، واختار أمهات الكتب التي تؤسس لثقافة عميقة رصينة، لا تقف عند السّطحي أو السّهل، بل تُراكم الوعي وتوقظ الفكر وتخاطب الوجدان.

فيندر أن تخلو مكتبة عامة أو مكتبة مثقف في العالمُ العربي من هذه الكتب التي أصدرها المجلس الأعلى للثقافة وأشرف عليها جابر عصفور. ولا يستطيع منصفٌ أن يتجاهل تأسيسه وإدارته للمركز القومي للترجمة من حيث طبيعة الأعمال المترجمة وقيمتها ومصادرها وعددها.

ولم يكن اختيار الكتب المترجمة جزافًا، بل كانت عملاً جماعيًّا، يقوم هو بمهمة الإشراف والتّخطيط. لقد أدرك جابر عصفور أن النظرية النقدية عالميّة، وأنّه ليس بالإمكان التقوقع داخل عصر ما أو ثقافة ما، فراح يغتنم كل فرصة سانحة للتعرف على ثقافة الآخر في موطنه، وعبر لغته الوسيط المهم للمعرفة الموضوعية العميقة، وهذا ما يؤدي إلى الثقة بالنفس والتسامح والتقويم الموضوعي معًا.

وليس بوسع أحد يحاول أن يستحضر دور جابر عصفور في الثقافة العربيّة ولا يتحدّث عن حضوره اللافت في المؤتمرات والمنتديات والملتقيات، فقد كان حضوره ساطعًا في أهم الملتقيات والمؤتمرات والنّدوات، وكان حاضرًا أيضًا بقلمه في المجلات والصحف الرصينة يرفدها ببحوثه ومقالاته النوعيّة. وعلى الرغم من مسؤوليّاته وانشغالاته الكثيرة فقد كان غزير الإنتاج يحمل على عاتقه مسؤولية فكريّة وثقافية يجتهد في أن يخلص لها قدر الوسع والطّاقة.

تمتّع جابر عصفور بكاريزما خاصّة، وبشخصية أليفة جذابة، فهو سرعان ما يألف ويؤلف، محبوب مُحِبّ، شخصية تجمع ولا تفرّق، له بصر بالناس، وذكاء حاد، وفراسة تستبطن النّاس وتزنهم بالميزان القويم. ولعلّ طموحه الشّديد وميله للتفرّد وامتلاك صوته الخاص أوقعه في جدلٍ أو خلاف مع بعض أساتذته ولكنه سرعان ما كان يعود إلى حقيقة نفسه يحيطهم بكلّ ما ينطوي عليه قلبه النقيّ من حبٍّ وإنسانية ووفاء.

 كان الوفاء طبيعة لدى جابر يعرفها القريب والبعيد. رحم الله الصديق الزّميل جابر عصفور، وله بقاء الذّكرْ مع الخالدين.

أديب وناقد أردني