الخميس 16 مايو 2024

جابر عصفور حيا

ثقافة11-2-2022 | 17:57

د/ أحمد حلمي عبدالحليم - كلية الآداب _ جامعة المنيا

حينما نكتب عن جابر عصفور فإننا نكتب عن أمّة فكرية، ملأ الأرض علما وثقافة وتنويرا، رحل عن عالمنا ولا يزال باقيا بميراثه الفكري، باقيا في عقول المثقفين داخل الحرم الجامعي وخارجه، أولئك الذين ترك لهم ما يربو على الستين مؤلفا، خاض فيها غمار الفكر والثقافة، وغاص في بحور الأدب والنقد، وحلق في سماء الترجمة ورؤية الآخر، وكان من جملة هذه المؤلفات: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، والمرايا المتجاورة "دراسة في نقد طه حسين"، ومحنة التنوير، ونقد الشعر، وأنوار العقل، ونظريات معاصرة، وزمن الرواية، وقراءة في النقد الأدبي، والرهان على المستقبل، ومفهوم الشعر، ونحو ثقافة مغايرة..

ذلكم الإرث الفكري الذي علّم فيه القارئ كيف يستنطق النصوص، ويستبطن لا وعيها، وكيف يعمل فيها عقله ليستكشف المسكوت عنه داخلها، وكيف يمرّن فكره على تجاوز المعاني الظاهرة بغية الوصول إلى البنى العميقة.

استطاع جابر عصفور أن يوصل لقرائه أن النّاقد الحصيف له عينان؛ عين ينظر بها إلى التراث، وأخرى يرى بها الواقع؛ ومن ثم يستطيع أن يقرأ التراث بعين معاصرة، فلا يتجمد داخله ويعيش في عباءته، ولا ينسلخ منه ويخرج عن جذوره وأصوله، بل يأخذ منه ما يناسب عصره، ويلائم مجتمعه وواقعه، وبذلك يجمع بين الأصالة والمعاصرة.

وها أنا أكتب إليكم هذا المقال لأقدم لكم جابر عصفور حيا، ولا أقصد بحياته أن أحدثكم عن سيرته، ومسيرته، ومناصبه، وجوائزه، وأوسمته، فهذه أمور سارت سير الشمس في الأقطار، وبلغت ما بلغ الليل والنهار، لأنه علم في رأسه نار، بل أقصد حياته الدائمة ما دامت العقول باقية، أقدم لكم بعض فكره من خلال مؤلفين فقط من مؤلفاته؛ أحدهما في الثقافة بشكل عام وهو كتاب (نحو ثقافة معاصرة) والآخر في تخصصه الدقيق وهو كتاب (مفهوم الشعر؛ دراسة في التراث النقدي)؛ لنعرف كيف يستطيع الباحث المثقف أن يجمع بين الماضي والحاضر ويستشرف المستقبل.
نحو ثقافة مغايرة:

دعا جابر عصفور في هذا الكتاب إلى ضرورة البحث عن ثقافة بديلة، ترفض القمع الفكري، وتأبى الاستبداد المعرفي، وتقبل الآخر، وترحب باختلاف الرؤى، وتباين وجهات النظر، وكان منشغلا فيه بدور الثقافة وتنويرها، وقدرتها على دعم المجتمعات، ونشر الحوار.

وضح فيه أن الفكر التنويري ليس غريبا على مجتمعنا، وليس بدعة فكرية محدثه، بل أصّل له من قبل الطهطاوي، والأفغاني، والكواكبي، ومحمد عبده، وغيرهم من رجالات الأمة، كما قدّم لنا عصفور ملاحظات تحليلية واعية ناقش فيها الرؤية العربية للحداثة، ومستقبل الثقافة القومية ومتغيراتها، وأهمية حق الاختلاف، وعني فيه _كذلك_ بالعوامل الاجتماعية، والسياسية، والثقافية التي أدت إلى انحدار استخدام اللغة العربية في السياق الثقافي العام، وكيفية الارتقاء بالمستوى اللغوي، لا سيما وأن اللغة العربية قوام الهوية، ومرتكز بناء الذات.

كما تناول فيه قضية لا تزال تشغل الرأي العام إلى يومنا هذا، ألا وهي قضية الإسلام والدولة المدنية، تلك الدولة التي باتت مهددة بدعاوى الدولة الدينية التي تروّج لها جماعات الإسلام السياسي، وما تفرّع منها، ونتج عنها من مجموعات تطرف ديني تعمل على تدمير الدولة المدنية، وإقامة دولة دينية قائمة على التعصب مكانها مستعينة على تحقيق هدفها بكل وسائل القمع، وأشكال الإرهاب التي أصبحت وباء يهدد العالم، ويسيء إلى الإسلام الحنيف ذي المنهج القويم الذي يدعو الحوار، ويقبل الآخر.

وعلى الجانب الأدبي نجده في هذا الكتاب يقدّم لنا مراجعات مهمة للحركة الأدبية في مصر الأيوبية والمملوكية، وكثيرا من الإضاءات الأدبية، والنقاشات الفكرية، وبعض تجارب الآخر مالها وما عليها، وغير ذلك من أمور الخطاب الثقافي الذي يضيق بنا المجال لذكرها.

ونأمل فيما ذكرناه من إجمال أن نكون قد فتحنا به أفقا لقراءة تفاصيل مقالات السفر العظيم (نحو ثقافة معاصرة) والإفادة من محتواه، ومخزونه الثقافي الكثيف.
مفهوم الشعر؛ دراسة في التراث النقدي:

سعى جابر عصفور في هذا الكتاب إلى طرح مفهوم متكامل للشعر، وتأصيل دقيق لتشكلاته، ومهمته، وأبعاده الجمالية، وفي سبيل ذلك نجده قسَّم الكتاب إلى قسمين؛ قسم تحدث فيه عن تشكيل المفهوم، والآخر تناول فيه تكامله.

فأما القسم الأول فقد عني فيه بتشكيل المفهوم عند ناقدين من أهم نقاد القرن الرابع الهجري، وهما ابن طباطبا العلوي في كتابه (عيار الشعر) الذي جلى فيه ماهيته، ومهمته، وصياغته، وأدواته، وقدّم فيها جابر عصفور محاولة نقدية لتقييمه بيّن فيها أن الأصل في تحديد عنصر القيمة الجمالية في الشعر عند ابن طباطبا هو العقل، الذي يرجع الإعجاب بالشعر أو عدم الإعجاب به إلى أصول محددة يمكن للجميع مناقشتها، من خلال استناد الحكم النقدي إلى قاعدة ثابتة صالحة لأن تنطبق على كل شعر، كما ركز على أنّ ابن طباطبا فهم أنّ طبيعة الشعر تقوم على أساس أخلاقي، فالشعر عنده ليس مجرد تصوير فني بل فاعلية أخلاقية مرتبطة بعقيدة الدولة ومصلحتها، والشعر _بناء على هذه النظرية الأخلاقية_ لا يقوم من حيث فتنته وجماله، بل من حيث فائدته وأيديولوجيته، وتقويم الشاعر من هذا المنظور أضر به، وفي سبيل هذا التقعيد النقدي قد حكم على شعراء بالكفر بأبيات من شعرهم، حدث هذا مع بشار، ومع أبي العتاهية، ومع صالح بن القدوس، ومع أبي نواس، وغيرهم، وكان أساس الحكم هو افتراض التطابق بين معتقد الشاعر الخاص والمغزى المباشر للأبيات. كما ألح ابن طباطبا على معيار الصدق، وتكمن خطورة هذا المعيار نقديا أنها تصرفنا عن الشعر إلى الشاعر، وبذلك يشغل الناقد بالبحث عن الشاعر لا الشعر، ومع ذلك فإنّ محاولة ابن طباطبا _رغم ما فيها من مزالق_ كانت سبيلا يسّر الأمر لمن جاء بعده ممن حاولوا التأصيل النظري لمفهوم الشعر.

والناقد الآخر هو قدامة بن جعفر في كتابه (نقد الشعر) الذي عني فيه بالشكل، والصياغة، والمعنى، والمهمة الأخلاقية، وخصائص التقديم الشعري، وقدم جابر عصفور _كذلك_ محاولة نقدية لتقييمه وضح فيها أن قدامة يسلّم بأن الشعر يوصل القيم توصيلا متميزا، بمعنى أن الشعر لا يقدّم الفضائل تقديما حرفيا، وإنما تقديما شعريا قائما على الصياغة المؤثرة، متوسلا بالمبالغة، ولكن مشكلة قدامة تكمن في أنه رد تناسب العناصر الأساسية المكونة للشعر إلى علاقات منطقية ثابتة، عكرت على الغاية التي أراد تحقيقها، ويبقى له أنه وضع نقد الشعر في التراث النقدي على أول طريق الأصالة، وأنه حاول تأسيس علم يقضي على فوضى الأذواق، ويحل مشاكل كثيرة كانت مطروحة على الطليعة المستنيرة من مثقفي عصره.

وأما القسم الآخر فقد ناقش فيه تكامل المفهوم عند حازم القرطاجني في كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) الذي جاء بعد ابن طباطبا وقدامة بحوالي ثلاثة قرون، الأمر الذي أتاح له الاطلاع على تجربتهما النقدية، وكذلك قراءة إنجازات النقاد النظرية والتطبيقية من بعدهما، وتابع حازم قدامة في محاولة تأصيل مفهوم للشعر غير مفارق لفكرة (علم الشعر) التي سعى إليها قدامة في القرن الرابع، ولكن علم الشعر عند حازم جاء في إطار دائرة أوسع هي صناعة البلاغة أو علم البلاغة الذي قصد به شمول العمل وتعدد جوانبه، وتركيزه على جانب القيمة، عبر مستويات ثلاثة يتصل أولها بمهمة العمل الأدبي، وثانيها بماهيته، وثالثها بمبحث الأداة تأسيسا على فهم المهمة والماهية، وذلك كله دون تجاهل للتفاعل الوثيق بين العمل الأدبي والعالم والمبدع والمتلقي على السواء، وهو أقرب إلى ما نسميه _في عصرنا الحاضر_ بالنقد الأدبي. 

وهكذا نرى جابر عصفور لا يسلم لكل ما يقرأ، بل يناقش ويحاجج، ويقترح، ويصوب، وكأنه يعلّم كل من يقرأ له ألا يكون فريسة سهلة لما يقرأ، بل لابد أن يكون له أثر يُذكر، فالإنسان يموت ويبقى أثره.
فـفـز بعلم تعش حيـا ًبه أبــدا *** الناس موتى وأهل العلم أحياء.