أنا من الجيل الذي تربى على أفكار الدكتور جابر عصفور، أتلهم ما تنتجه أفكاره، وأستنبط منها ما درجت عليه في معارفي وأفكاري، أقبل منها وأرفض.
ولج الدكتور جابر عصفور الحياة الفكرية الثقافية الحديثة بأفكار جريئة، تنم عن شخصية كبيرة لها وزنها وقيمتها في الحياة الثقافية العربية قديمها وحديثها.
ففي القديم ظهرت ثقافة الدكتور جابر عصفور في إلمامه بالكثير من المعارف المنهجية في قراءة التراث بوصفها عملية ملحة لها أهميتها في ذاتها، وبوصفها عملية صغرى مرتبطة بعملية كبرى هي قراءة التراث بوجه عام، ويقدر الدكتور عصفور القراءة المتوارثة للموروث الأدبي العربي على اعتبار أنها قراءة للواقع المُعاش، ويجب أن نعترف أن د. عصفور عندما تناول التراث القديم لم يكن مدخله إلى قراءته مدخلا بريئا، بل انطلق من مواقف فكرية محددة لا سبيل إلى تجاهلها وقد بحث بدأب عن عناصر القيمة الموجبة أو السالبة بالمعنى الذي يتحدد إطاره المرجعي بالمواقف الفكرية التي تنطلق منها.
وقد طبق ذلك في المؤلفات العلمية التي أصدرها عبر مسيرته، وخاض فيها غمار القديم من منظور حداثي نحو كتاب الصورة الفنية الذي صدرت طبعته عام 1974م، وكتاب مفهوم الشعر الذي صدرت طبعته عام 1978م، وهو طرح نقدي مميز لجانب من جوانب مفهوم الشعر في التراث النقدي، وفيه قد سعى إلى طرح مفهوم متكامل للشعر وتأسيس علم نقدي لهذا المفهوم المراوغ، وفيه أيضا ينطلق من وعي واضح بوجود تصورين للتراث: يتعامل أولهما معه باعتبارها كتلة من الأحداث والمفاهيم والقيم مستقلة عن وعينا وعن وجودنا تماما، ويمكن أن تعالج معالجة محايدة تحاول الوصول إلى الكينونة المتعالية لهذه الكتلة.
بينما يتعلل ثانيهما، وهو التصور الذي يتبناه د. جابر عصفور مع التراث من منظور الوعي بالحاضر، وإدراك الوجود الآتي، لأن التراث لديه كيان حركي حي، ومحصلة لصراع إنساني عبر مراحل تاريخية ذات أبعاد اجتماعية وفكرية مختلفة، يمكن أن تتجاوب مع أبعاد الحاضر ومستوياته المتباينة.
أما النقطة المضيئة في فكر د. عصفور أنه لاحظ أن مواكبة وعي حازم القرطاجنى(ت: 684هـ) بانهيار الأندلس لوعيه بانهيار الشعر على اختياره العقل في عصر يعادل العقل، والانحياز للفلسفة في زمن يشك في الفلسفة، واختيار الماضي المتقدم في عصر لم يعد يعي إلا التخلف، وكيف بدأ من حيث انتهى قدامه، حتى وصل إلى آفاق فريدة مكنته من صياغة أنضج مفهوم متكامل للشعر في تراثنا النقدي.
إنه كتاب يحاور الماضي من منظور وعي الحاضر المصرفي، ليبلور لنا خطاباً متميزاً صاغه المؤلف من أفضل ما فيهما معاً.
ودأب د. عصفور على التساؤل المستمر: ما حدود الموضوعية في قراءة التراث؟ وكيف نحدد معرفيا العلاقة بين المفسر الذي يقوم بعملية التفسير والمفسر الذي يقبل التفسير؟ وهل يمكن أن نحدد مجالا لا يتجاوزه المفسر في التفسير؟ ومن ثم نحدد مجالا مقابلا لا يتجاوزه النص من حيث قابلية التفسير؟ وما حضور التراث المقروء نفسه؟ هل هو حضور "هناك" في زمان انقطع أم أنه حضور"هنا" في زمان ممتد؟
وفي الحديث هو صاحب أهم مقولة فكرية حديثة، تتمثل في موت الشعر، وازدهار الرواية، ومن ثم انتشارها، والفكرة آتية من الغرب، نقلها د. جابر عصفور مع منقولات غربية تتميز بالجرأة على فكرنا المعاصر، وهي عبارة جائرة في حق الشعر وموروثه القار في وجدان الضمير العربي، فالشعر الذي سجل حياة العرب في العصور القديمة والمتوسطة والحديثة أيضا جدير به أن يكون ديوان العربي بحق، وأن الكثرة المطلقة من انتشار الرواية والقصة التي تطبعها المطابع ليست دليلا على وسم العصر كله بأنه عصر الرواية.
ومن خلال جولة عجلى في علاقة ارتباط د. عصفور بالتراث العربي تتجلى لنا رؤيته المؤسسة على فكر مستنير ووعي بالتراث من خلال تحكيم العقل دون غيره في تقييم الأمور، والتحرر من الأهواء والتحيزات المسبقة، ومن سلطان التقاليد والأعراف، إذا تعارض مع ما تقضي به المصلحة، والتسامح مع الآراء المختلفة مما وسم فكره المعرفي بالتنوير الصادق، وليس التنوير الزائف.
فـ"ليست رسالة المفكر افتعال التجديد، والتكسب باسمه.. ولكن ممارسة التجديد عن وعي وفي صمت، دون فرقعة فكرية كأنه نجم سينمائي يودّ الإعلان عن نفسه".كما قال د. حسن حنفي، والذي أراه أن د. جابر عصفور، لم ينقل كتابات فلاسفة التنوير الغربيين للترويج لثقافة الآخر، بل أعاد بناءها لصالحهم، وبرهن عليها من تراثنا العربي مستفيدا من تجاربه ورحلاته وتنقلاته في الغرب، فأعاد لنا تراثنا بفكره وثقافته التي يمتزج فيها الأصيل والمعاصر معا في آن، ومن ثم لم يكن تنويره زائفا، بل حقيقيٌ.
نشر في مجة الهلال عدد فبراير 2022