الثلاثاء 18 يونيو 2024

حسن حنفي وجماليات السؤال

د. حسن يوسف طه

ثقافة11-2-2022 | 18:12

د. حسن يوسف طه - أستاذ الفلسفة وعلم الجمال أكاديمية الفنون

القامات الفكرية تقدر بما قدم وبما ترك .. وحسن حنفي ضمن تلك القامات الفكرية في مجال الفلسفة .. له تفكيره المميز على الساحة الفلسفية سواء على المستوى المصري أو على المستوى العربي .. ومؤلفاته وترجماته تلقى الترحيب وتلقى الكثير من الدراسات والشرح والتحليل .. تخرج على يديه الكثير والكثير من المشتغلين بالفلسفة والمشتغلين بالفكر عامة .. وفى هذا المقال سوف أتناول قضية جماليات السؤال عند حنفي .. وقد يبدو لنا العنوان عجيبا بعض الشيء .. ولكن نقول إن كل الحياة الإنسانية في حقيقتها سؤال .. نحاول الإجابة عنه .. كل بطريقته, وإذا لم نتمكن من فهم السؤال أو طرح السؤال أو تحديد السؤال .. تكون المشكلات أكبر مما نتخيل.  

الدهشة والتعجب من (اللا سؤال) : 
يحدد حنفي مشكلاتنا في الذهن العربي المعاصر .. وهو أنه لا يجيب عن سؤال وإنما هو يجيب ويثرثر محبة في تلك الثرثرة .. إنه يجيد رفع الشعارات والعبارات والمقولات .. إنه يتصايح بكلمات وشعارات ظنا منه أنه يقدم إجابة .. إجابة عن ماذا ؟ على اللا سؤال .. لم يتحدد السؤال .. وإنما  طنطنات وثرثرات ترضي ذلك العقل المشوش والمرتبك والفاقد للرؤية وللطريق الصحيح.


 
الذهنية العربية غارقة في (الذي ..كان) هو ذهن مسحوب بكامله فيما قاله السابقون .. بل يصل الأمر إلى تقديس ذلك الإرث .. ومن هنا يكون السؤال مسجونا بالذي كان .. وهو سؤال غير قادر على تجاوز ذلك الإرث الثقيل.
 
يقول حنفي .. (قد يكون أحد أسباب عثراتنا الأخيرة أننا حاولنا الإجابة دون أن نضع السؤال .. فجاءت إجاباتنا تعبيرا عن مواقف فكرية مسبقة دون تحليل للواقع المعاش, إجابات جاهزة تعبر عن إيمان مسبق دون رؤية لمشاكل العصر، فالإسلام هو الحل, والماركسية هي الطريق والقومية هي الملاذ, والليبرالية هي الخلاص, إجابات جاهزة دون طرح سؤال محدد. 
فالإسلام عقيدة وشريعة, مصحف وسيف, دين ودولة، والماركسية أيديولوجية الطبقة العاملة, عقيدة البروليتاريا, وسيلة تحقيق العدالة وتوزيع الدخل القومي دون استغلال، والقومية طريق الوحدة والتقدم والحرية، والليبرالية سبيل الدفاع عن حقوق الإنسان. 
الإجابة هنا إعلان عن مبدأ دون أن يكون إجابة عن سؤال مطروح, تعبر عن نيات دون أن تكون استجابة لموقف محدد, خطابة أكثر منها جدلا دون سؤال). 

إن الإجابات الجاهزة دون سؤال غلق لكل الأبواب .. فلا حوار ولا مناقشة ولا أية رؤية متأنية وتكون النتيجة التصادم سواء عن حق أو عن باطل .. إنها الرغبة في فرقعات الصوت أو سيل الدماء طلبا للإعلان عن الذات أو الشهادة في سبيل العقيدة. ويكون السؤال مشروعًا أو كان تعبيرا عن موقف فكري. أما لو كان تعبيرا عن أزمة نفسية, إحساسا بالعظمة تجاه النفس, وأننا خير أمة أخرجت للناس, وأن لدينا ما ليس لدى الآخرين أو أفضل مما لديهم, وأننا في غنى عن كل شيء, فالله غني عما سواه, وكل ما سواه فقير إليه، فإنه لا يكون سؤالا بل يكون حرجًا في الصدر, وحنقًا في القلب, وغصة في الحلقوم في حاجة إلى علاج نفسي, وتفريج للكرب, وإزاحة للهم. 
والإحساس بالعظمة أو بالنقص تجاه الآخر في النهاية عقدة نفسية في حاجة إلى علاج نفسي, وليس سؤالا في حاجة إلى إجابة, وردود أفعال, أفعال منعكسة أو شرطية وليست مواقف واعية. 
إن الذهن العربي غير قادر على التأني في الرؤية أو أن تكون لديه القدرة التحليلية لفهم الموقف، وإنما هو ذهن صوتي يستهويه الصراخ والضجيج ورفع الشعارات إلى جانب رفع السيوف، أمثال ذلك العقل تكون مشكلاته لا تعد ولا تحصى وصعب عليه أن يعرف أصول التفكير إلا إذا تم تربيته بشكل جيد وعلى أسس وقواعد منطقية وليست انفعالات هوجاء. 

القدرة على اليقظة العقلية: 
ويقصد باليقظة العقلية .. تلك الذهنية الواعية والمدركة لجوهر الكلمات وجوهر السؤال وتحديد إذا كان السؤال خاطئا أو صائبا .. والذهنية الواعية قادرة على الوقوف على ما يجعل الأمر صحيحًا من خلال جوهره, ومن ثم قادرة على الفرز والتفريق بين الاثنين، والمشكلات بشكل عام تنشأ من وضع السؤال .. السؤال الخاطئ. 

يقول حنفي : (والسؤال الصحيح يتضمن نصف الإجابة, ونصف الإجابة في طريقة وضع السؤال، أما السؤال الخاطئ فإجاباته إجابات خاطئة بالضرورة مهما عظم الجهد المبذول, ومهما زاد قدر المجيب، فمثلا : هل الوحي من عند الله؟ سؤال خاطئ لأن الإجابتين الممكنتين :"نعم الوحي من عند الله" أو "لا , ليس الوحي من عند الله" خاطئتان. فالوحي من عند الله ليس على الإطلاق بل مشروط بأسباب النزول، فالأسباب هي التي تستدعى الوحي, والظروف الاجتماعية هي التي تتطلبه. والوحي لا يأتي بلا سبب, ولا يجيب دون سؤال).
 
عندما توجه للذهن العربي تلك الإجابات تجده لا يملك إلا التهديد والوعيد وإطلاق الأحكام عليك بالكفر والزندقة بل يصل الأمر أن يقيم عليك الحد ويباح دمك !! السبب ببساطة أنه غير قادر على إعمال التفكير العقلي الصحيح والمتأني والمتأمل. 

ولذلك تجد الكثير من المشكلات تتراكم في البيئة العربية والسبب ببساطة أنه لا يريد ولا يحب أن تكون الأسئلة واضحة ولا يحب أن يتخلص من أحكام ورؤى لا تفيد ولا تحل مشكلة بل تأتى بالكثير من المشكلات.
جماليات السؤال الغربي .. كشف للذات : 
في الفكر الغربي نجد أهمية وحيوية السؤال .. هو سؤال تطهيري من كل ما علق بالذات .. سؤال يبحث عن كل ما هو بديهي واضح لا لبس فيه .. نجد ذلك من سقراط وصولا إلى الفلسفة الوجودية .. إنه سؤال للوضوح والوصول للحقائق واليقين الماثل أمام العين, وليس (الماورائى) أو (الفيما .. بعد)، سؤال تحرري ولا يضع أي مقدسات تقيده أو تعيقه، ومن ثم يتبدى للذهن كل الاحتمالات والتوقعات .. لقد استطاع العقل الغربي أن يتحرر من كافة الأوهام وكان فرنسيس بيكون يدعو أن يتحرر العقل من جميع أوهامه حتى يتمكن من أن ينطلق بفكره بشكل حر بلا قيود .. ومن ثم فإن السؤال في الذهن الغربي يعمل دوما إلى الاتجاه إلى الأمام وإلى التصحيح والى التغيير إلى الأفضل, إنه السؤال الناضج والمثمر.
 
يقول حنفي : (كان السؤال أحد البواعث الرئيسية في الفكر الغربي على اختلاف مراحله. بدأ سقراط بالسؤال عن ماهية الأشياء، لم يكن السؤال طلبا لإجابة صحيحة من السائل ولكن للكشف عن الإجابة الزائفة والأفكار الشائعة الخاطئة عند المسؤول وحتى يبقى السؤال بلا إجابة, يثير الذهن بعد أن يطهره مما ترسب فيه من تراث القدماء؛ السؤال يكشف المسؤول أمام نفسه ويعريه من ثقافته الموروثة, ويضعه أمام الحقائق البديهية التي غابت عنه, ويعيد إليه براءته الأولى ونوره الفطري. 

واستمر ذلك في العصور الحديثة عند ديكارت في "التأملات" أنا أفكر أي أنا أحيا وأتذكر وأتخيل، واستأنفت الفلسفة الغربية روح التساؤل، وظهرت أعمال فلسفية كبرى إجابات عن عدة أسئلة مثل خطاب روسو في العلوم والفنون إجابة عن سؤال أكاديمية ديجون : هل ساهمت تأسيس العلوم والفنون في تطهير الأخلاق؟ .. وأخيرا ازدهر السؤال في الفلسفة الوجودية الظاهراتية، فالتساؤل أساس الفلسفة, وهو ما سماه أرسطو قديما الدهشة، السؤال استفسار عن معنى الحياة والموت والمصير عن حقيقة المحبة والكراهية, الصداقة والعداوة, الإقدام والإحجام, الفضح والحياء، فنحن نعيش في عالم من المعاني, والسؤال توجه نحوها، التساؤل عند ياسبرز من مصادر الفلسفة مثل الشك والدهشة، وكثير من أعمال هيدجر مكتوبة بلغة التساؤل مثل : "ماذا يعنى هذا الشيء, الفلسفة؟ وماذا يعنى ما نسميه الفكر؟, ما هي الميتافيزيقا؟, وما هذا الزرادشت لنيتشه؟ فإذا ما فقدت الوجودية المعنى ووجدت اللا معنى يصبح التساؤل الوسيلة للكشف عن اللا معنى, وعن العدم الضارب في الوجود كما هو الحال عند سارتر, ويصبح السؤال كحب الاستطلاع والنفي والثرثرة والهم والحصر والضيق والنظرة وغيرها من التجارب التي تجعل النفس حزينة حتى الموت، ظل الفكر الأوروبي في جوهره فكرًا تساؤليًا, وكان التساؤل أقرب إلى النفس منه إلى الإثبات). 
ومع حسن حنفي تواجه بسيل الأسئلة التي آن لنا أن نلتفت إليها وأن نزيح عن أنفسنا تلك الإجابات الجاهزة والتي سئمنا من تكرارها وتداولها، ناهيك عن أنها لا تقدم لنا أي جديد ولن تقدم .. أما آن لنا أن نتساءل مثلا .. إلى متى سنعيش على العلوم النقلية والتي تجد من يروجون لها, وهناك مدارس وجامعات كل مهمتها تدريس تلك العلوم وتروج لها .. ومعنى ذلك أنها تخرج لنا المزيد من العقول غير القادرة على التفكير بشكل حر ومستقل .. فإلى متى يظل هذا السُخف والعبث؟

حسن حنفي يريد من العقل العربي أن يفيق من غفلته التي تتآمر قوى الماضي على جعله يدور في فلكها، علينا أن نلتفت إلى تلك الأسئلة التي يطرحها لكي نتمكن أن نكتسب الطريقة الصحيحة في القدرة على التفريق بين السؤال الصحيح والسؤال الخاطئ .. هو يقدم لنا طريقة علينا أن ننتبه إليها لكي نتمكن من أن ننطلق إلى المستقبل بدلا من أن نهرول إلى الماضي الذي لا يقدم لنا إلا كل ما هو ظلامي ويجعلنا نتخدر بأقوال لا تغنى ولا تفيد إن لم تكن تضر .. رحم الله حسن حنفي.

مراجعة.حسين محمد .. الاحد 23 – 1 - 2022

أشرف

نشر في مجة الهلال عدد فبراير 2022