السبت 18 مايو 2024

إبراهيم حجازي.. المعنى الحقيقي لأن تكون إنسانًا

حنان أبو الضياء

ملاعب الهلال11-2-2022 | 18:39

حنان أبو الضياء

خمسة وعشرون عاما أو أكثر منذ تعاملت عن قرب مع الأستاذ إبراهيم حجازي.. عندما فكرت فى الكتابة عنه مر شريط طويل من الذكريات، ولكن المشهد الافتتاحى به يبدأ عندما يفتح الباب، ويطل بوجهه البشوش، وابتسامته التى تغمر قلبك بتحية يختص بها إبراهيم حجازي دون غيره من البشر، لكونها صادقة ومفعمة بالمحبة والتواضع. 
عرفت إبراهيم حجازي عندما ذهبت إلى زملائى فى مجلة الأهرام الرياضى أثناء الإعداد لصدورها وأثناء بناء المبنى الجديد، وعجبت جدا أنه كان مكتبه أمامهم لا يفصلهم عنه شيء، والأجمل أنهم كلهم يحبونه. أرسلت له بمناسبة رأس السنة كارت معايدة، كتبت فيه إنه رئيس التحرير الوحيد الذى لا يتمنى محرريه أن يغيب. الرائع أنه سأل عنى، وطلب أن يخبروه إذا أتيت. وفوجئت به يأتي إلىَّ ويشكرنى على كارت المعايدة، لتبدأ علاقتي به، لأعرفه جيدا.
   إبراهيم حجازي تتفانى في العمل يرقيك، يثق فيك ويمنحك كل الفرص المتاحة أمامه ليجعلك فى المقدمة، يعاملك حسب حالتك النفسية، فيشعرك أن لك ظهرا تعتمد عليه. يطور أفكارك وينسبها لك، ويسعد كلما كان سببا في نجاحك، يرى مستقبلك واعدًا، فيحفزك، ويفتح لك الأبواب المغلقة. يناقشك بصوت منفعل لأنه مؤمن بأنه يريد لكل من حوله الخير، حتى لو لم يره هؤلاء. يعاملك بأسلوب المساواة بينك وبينه، طالما أنت تحترم نفسك ولا تنسحق أمام أي إغراء.
وأنت فى حضرة إبراهيم حجازي لا حاجة بك إلى اللف والدوران، وعليك بالدخول إلى الموضوع مباشرة. لا شيء يقلقك فهو يحتويك وتشعر أنه الأب أو الاخ الأكبر، يجبرك على احترامه وهيبته، ولكن يحيطك بإنسانية لها قلب حنون وعقل قادر على اتخاذ القرار. 


إنسانية إبراهيم حجازي ليست في الكمال أو العصمة من الخطأ، ولكنها المعنى الحقيقى لأن تكون إنساناً؛ بها قدر كبير من الرحمة، أعمق من الحب وأصفى وأطهر، فيها التضحية وإنكار الذات والتسامح مع من أساء إليه عندما يحتاج إليه، وكثيرا ما شاهدت معه مواقف، ترفع فيها عن تلك الصغائر، وسيطرت عليه مشاعر العطف والعفو وتجلى فيها الكرم.
 مع إبراهيم حجازي تعلمت أن حقيقة الإنسان ليس ما يظهره لك، بل بما لا يستطيع أن يظهره، فالكثيرون الذين لا يعرفونه قد يرون انفعاله الشديد، وصوته العالي، ولكن من يقترب يعلم أنه الإنسانية فى أجمل صورها.
إبراهيم حجازي كان الرجولة بكل معانيها ومواقفها، والتى لا تحتاج إلى برهان، لأنها تبرهن عليها كل لحظة من حياته، وكل فعل يقدم عليه. لم أره قط معجبا بنفسه، ولكن معجبا بكل من به خصلة من ميزة أو موهبة. 
إبراهيم حجازي تقبل كل ما مر به، وكان يقول الأيام تعلم الإنسان الدروس، وتجعله أكثر وعياً وأقدر على اتخاذ الخطوات المناسبة. لم ينشغل أبدا بالماضي ولا بالآخرين. كان دوما يرفض الطرق على باب الماضي حتى لا يضيع ما يقدر أن يفعله في المستقبل، ورفض دوما مراقبة الآخرين الذين كان سببا فى تواجدهم على الساحة، وأداروا ظهورهم له، بل إن أحدهم كان سببا فى ابتعاده عن برنامجه الشهير "دائرة الضوء"، والرائع أننا عندما تحدثنا عن ذلك الشخص لم يتعد الحوار بعض كلمات، ثم تجاوز الحديث عنه، معللا أنه لا يريد أضاعت نصف راحته، بالدخول فى ذكر أشخاص لا تغنى ولا تسمن من جوع. كان يفلسف ذلك ويتجاوزه، مؤكدا بأنك إذا أشبعت كلباً جائعاً فإنه لن يعضك، ولكن قد يفعل ذلك الإنسان، لكونها طبيعة بعض البشر، الذى كان يعشق إخراجهم من عقله، قبل خروجهم من قلبه، كان يرى أنه يكفيهم كونهم على قيد الحياة، وليسوا على قيد الإنسانية. وأن الحياة تصبح رائعة إذا تركت هؤلاء وشأنهم، ويكفيهم أنهم بلا مبادئ، أو ضمير.
إبراهيم حجازي كان مطبخ اتخاذ القرارات، الإدارة التنفيذية فى حياة الكثيرين ممن عرفوه؛ بل تجاوز ذلك كثيرا بأنه كان يمد يد العون، لأى شخص احتاج إلى مساعدة حتى وإن لم يعرفه.
 إبراهيم حجازي كان سببا فى تأهيل العديد ممن عملوا تحت قيادته إلى تولي مناصب قيادية بعد ذك. كان يرى أن نجاحه مرتبط بمدى قدرته على إعداد الآخرين لتولى دفة القيادة فى أى مكان يعملون به، وكثيرا ما كان يبادر بنفسه للبحث عن فرص عمل إضافية لأشخاص كثيرين لتحسين مستوى المعيشة، هناك العديد من الأسماء المعروفة الآن كانت الخطوة الأولى فى مسيرتهم المهنية بسبب إبراهيم حجازي، هناك من اعترف بهذا الفضل وكان يذكره دوما، بينما يتوارى وجه إبراهيم حجازي خجلا وتواضعا، مؤكدا أنه مجرد وسيلة فقط. وعندما سألته يوما لماذا ترفض أن يذكر الناس فضلك عليهم، أحسست بأن شعورا من الرهبة سيطر عليه وهو يردد الحديث الشريف: «إن لله عبادا اختصهم بقضاء حوائج الناس، حببهم إلى الخير وحبب الخير إليهم، إنهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة».
بالطبع إذا دخلت مكتب أى مسئول ستجد صوراً له معلقة مع شخصيات مهمة ليستشعر بعظمته أو أهميته. أما إبراهيم حجازي فكان يحتفظ بصورته وهو ضابط فى الجيش المصرى، يضعها بمكان بارز فى أى مكان يتولاه.
 إبراهيم حجازي كان يؤمن بأنه مجرد فرد يكمل مسيرة من قبله وكان ما يشغله ما سوف يتركه من أثر، وعمل صالح، لأن المنصب الذى يتولاه لن يحصل منه سوى على صورة معلقة في جدار المبنى. 
إبراهيم حجازي تميز بقربه الشديد من أرض الميدان فى أى عمل تواجد به، حيث يستطيع من خلال ذلك الاطلاع على المشاكل من أرض الواقع والتفكير في حل أى مشكلة بسرعة وإنجاز. ومبنى نقابة الصحفيين خير شاهد على ذلك، فلقد كان إبراهيم حجازي قادرا على مواجهة كل التحديات والمشاكل التي تحتاج معالجتها إلى اتخاذ القرار وتحمل مسئوليته. أكاد أجزم بأنه لولا خصائص إبراهيم حجازي وسماته المميزة كالمرونة وسرعة اتخاذ القرارات والحزم لما أنجز هذا المشروع العملاق. 
إبراهيم حجازي له قدرة هائلة على مراعاة مشاعر الغير وحرص هائل على التأنى إذا تعلق الأمر بأكل العيش. وكان يسعى لتثبيت فكرة آدمية من يعمل معه حتى لو تجاوز هذا الشخص. وعندما كان يفعل خيرا كان هدفه الأول إخفاؤه عن أي عين. كان يتحمل المسئولية أكثر من أصحابها أنفسهم. فى أحد المرات شاهدت إبراهيم حجازي منفعلا جدا على أمٍ فى التليفون، ولم أشاهده كذلك من قبل، بل إنني غضبت من أسلوبه معها، وعندما انتهت المكالمة عرفت أن سبب انفعاله أن ابنها طفل مريض بالسرطان وساعدها إبراهيم حجازي في دخوله معهد الأورام قبل أن تكون هناك مستشفى 57357. وكان تشخيص المرض أنه فى المرحلة الأولى ويمكن السيطرة عليه. وبدأ مرحلة العلاج وقارب على الشفاء ولكن الأم اختفت مع الابن فجأة، وعندما علم إبراهيم حجازي بحث عنها في كل مكان فالعنوان الذى كتبته كان عنوانا قديما؛ وبعد أربعة أشهر عادت الأم ومعها الطفل إلى المستشفى وكان للأسف وصل للمرحلة الرابعة ودخل مرحلة الاحتضار، وعلم إبراهيم حجازي منها في التليفون أنها أخذت ابنها وهربت من المستشفى، وعادت إلى بيتها لقضاء شهر رمضان والعيد وأنها استمرت إلى بعد انتهاء عيد الأضحى خشية ألا تستطيع ترك المستشفى كما حدث أول مرة، الذى جعله فى هذا الانفعال الشديد، أنها عندما علمت بما تسببت به، كان رد فعلها أنه نصيبه. إبراهيم حجازي في هذا اليوم كان فى حالة يرثى لها وخاصة أن الأطباء أخبروه بتدهور حالة الطفل.
أنا نفسى كانت لى تجربة بخصوص المرض مع إبراهيم حجازي. بدأت فى بداية التسعينيات، تفاصيلها عديدة، ولكن أظل مدينة له أن الدواء الذى كان يجب أن أحصل عليه ولمدة 6 أشهر متوالية، كان يحضره لى من لندن فى كل شهر، ويحرص على أن يصل إلىّ قبل انتهاء الجرعة، خشية المضاعفات، وفى أحد الشهور وجدته يتصل بى فى بيتى وهو فى قمة الانفعال، وسألنى: "الدواء مش فاضل فيه ثلاث أيام، ماجتيش تخدى العلبة الجديدة ليه؟"... وعندما أخبرته أنني أُحرجت، فما كان منه سوى تعنيفى بشدة قائلا: "تُحرجى من إيه هو أنا بعمل حاجة دا ربك اللي ميسرها". وظل إبراهيم حجازي متابعا لحالتى مع طبيبى الخاص، وعندما علم أننى يجب أن أجرى جراحة نادرة، وأن المتخصص فيها دكتور سويدى سيأتى لمستشفى مصطفى كامل العسكرى، اتصل بأستاذ إبراهيم نافع، وتابع تفاصيل موافقة وزير الدفاع على علاجى على حساب القوات المسلحة، وأن تُجرى لى العملية هناك. وتابع ذلك إشرافه على عملية أجريت لى فى السلام الدولى بعد 21 يوما، وكل الإجراءات كان المتابع لها هو إبراهيم حجازي، لم يجعلنى حتى أتحمل عناء الاتصال لأطلب منه شيء، كنت أُفاجئ أن المستشفى محجوز، وميعاد العملية محدد، ويعلم الله أنه كان يصر على أن يظل هذا الأمر بعيدا عن علم أى شخص. 
آخر مكالمة بيننا كانت بعد خروجه متعافيا من إصابة كورونا، كان سعيدا ومتفائلا وحامدا وشاكرا على محنة المرض؛ وتجاوز مرحلة الخطر... ولكن ما هى إلا فترة بسيطة ونقل إلى المستشفى معانيا من مضاعفات المرض. أنا مثل غيرى تمنيت زيارته ولكن كانت وتيرة تدهور صحته تزداد إلى أن جاء يوم لقاء الله. 
وكان يوم رحيله، من الأيام القليلة التى مرت فى حياتى التى امتزج فيها شجن الرحيل براحة نفسية، وأنا أرى أمامى علامات كثيرة تطمئن قلوبنا عليه، ويعزينى فيه محبة الناس، ورضا الله عليه. 
إبراهيم غضنفر/أشرف


نشر في مجة الهلال عدد فبراير 2022

الاكثر قراءة