الثلاثاء 21 مايو 2024

جابر عصفور .. ومشروعه النقدي .. هادم التراث أم داعم له ؟!

خالد الأصور

ثقافة11-2-2022 | 18:50

خالد الأصور - كاتب وباحث إعلامي مصري

 جابر عصفور، هو أحد أهم النقاد في مصر والعالم العربي عبر مواقعه وإسهاماته العديدة، باحثا، وأكاديميًا، وفي موقع المسؤولية، على قمة هرم المؤسسات الثقافية، وصولا لموقع الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، فوزيرا للثقافة، طبع من خلالها بصماته الواضحة على المشهد الثقافي المصري والعربي، ولا سيما في قضية التراث والمعاصرة.

والتراث، الذي هو تراكم حضاري معرفي وثقافي وقيمي بما يحمله من رمزية وهوية وعادات وتقاليد، رصيد لا غنى للأمة عنه، فالمشكلة ليست في التراث، ولكن في قراءته وفي كيفية التعامل معه، والانتقال به من النظريات القديمة في قراءة النص التراثي إلى نظريات جديدة، بحيث تستحضر الواقع المعاصر، دون أن تتجاهله بالإغراق في الماضي السحيق، لذا ظهرت أصوات نقدية قدمت قراءات للتراث وعلاقتنا به وفق هذا المفهوم الجديد، كان من أهمها محمد عابد الجابري وحسن حنفي وجابر عصفور.

المسألة التراثية في فكر جابر عصفور

المشروع النقدي لجابر عصفور حول المسألة التراثية، تأسس على مرجعيات شكلت رؤيته النقدية، ورغم ولعه بالفكر الغربي الذي انعكس على مشروعه، لكنه تأثر كذلك بالتراث العربي، وكثيرا ما أشاد بمرجعيات ثقافية عربية عاصرها ونهل من علمها، وصبغت بعض أفكاره المبثوثة في إنتاجه الفكري، مثل أستاذته سهير القلماوي، حتى أن البعض في الأوساط الأدبية والنقدية ينعته بالوريث الشرعي لطه حسين، لأن القلماوي كانت تلميذة له، فضلا عن تأثره بشوقي ضيف، وعبدالعزيز الأهواني، وعبدالحميد يونس.

لم يؤسس عصفور فكره النقدي على الانفصال والانسلاخ عن التراث، ولم يقع في ثنائية الحيرة والاختيار بين الوقوع في هوى الماضي والجمود عنده والانحسار في خندقه وعدم مفارقته، وبين الذوبان في الحاضر واعتباره الغاية التي لا قبلها ولا بعدها غاية، ومن خلال هذا الموقف الوسطي الراشد والمسؤول، شيد في نصوصه النقدية جسرا بين التراث والمعاصرة، تجري فيه العلاقة على أساس الاتصال لا الانفصال.

ورغم الجدل حول كتابات عصفور، وحصرها الخاطئ في منطقة الاختيار والمفاصلة بين المحافظة والحداثة، ولكن المتمعن في فكره، يجده مشغولا بـ "قراءة التراث" أكثر من "نقد التراث"، فيقرأ الظرف التاريخي الذي أنتج هذا التراث، وهو كناقد أدبي في قراءته للنص الأدبي التاريخي، أشبه ما يكون بقراءة الفقيه لأسباب نزول النص الديني، كي لا يتحول التراث إلى مجرد مجال للتقليد الأعمى دون فهم، وتحويله من مجال فكري إلى مجال أيديولوجي، لذلك نجد عصفور رافضا لمصطلح "إحياء التراث"، لأن ترجمة هذا المصطلح تعني الوقوف والجمود عند النصوص التراثية، دون تنزيلها على الواقع المعاصر، فالمطلوب هو "إعادة قراءته لا إحيائه"، ليحدث التفاعل الطبيعي بين القديم والحديث.

 

نظريته النقدية بين الخيال الابتكاري والخيال الاسترجاعي

ويخطئ تماما من يحصر تجربة جابر عصفور النقدية في دائرة الاستقطاب والتعسف والموقف العدائي من التراث، فهو في إنتاجه الأدبي والنقدي، بعيد عن هذه الدائرة الضيقة، ففي كتابه "الهوية الثقافية والنقد الأدبي"، ووفقا لهذه النظرة المتوازنة، طرح فكرة "المساءلة" للماضي والحاضر والمستقبل، رافضا الانكفاء على ما يسمى بالثوابت الجامدة والمقولات القديمة، كي لا نكون كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال عند الخطر، لذا وصف الجمود على هذا الوضع بـ "الخيال المعتقل"، داعيا إلى "الخيال الابتكاري" لا الخيال الاسترجاعي" الذي يجعل الإنسان أسير الماضي، ولكنه في الوقت ذاته يرفض القطيعة مع التراث، فلا تناقض أو تعارض بين الهوية الثقافية، والنزعة العقلية الباحثة عن إجابات جديدة.

وفي كتابه "هوامش على دفاتر التنوير" يقول في مقدمته: "الدولة الحديثة التي نتوهم أننا نستظل بها لم تصل إلى أفقها التحديثي الذى يصون المجتمع المدني ويحميه، ومؤسسات المجتمع المدني يتم اختراقها على نحو متصاعد من قوى يحركها العداء اللاهب للمجتمع المدني، وتقاليد العقل تستبدل بها تقاليد النقل، وشعارات الاتباع تكاد تقضي على أحلام الإبداع"، ويزيد عصفور الأمر إيضاحا في كتابه "نقد ثقافة التخلف" بأن سبب هذه التخلف هو شيوع ثقافة التبرير لا التنوير، واعتماد الاتكالية والالتصاق بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية القائمة والموروثة.. وحتى وهو يتحدث عن التنوير يرجع الفضل في ذلك إلى مشايخ الأزهر، مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801ـ 1873) أحد أبرز رواد التنوير في مصر وصاحب كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" وكتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين".

لذا فإن عصفور يؤكد في مقدمة كتابه دفاعا عن العقلانية : "إن العقلانية تعني الاحتكام إلى العقل، والاحتكام إلى العقل يعنى المساواة بين العقول وقبول اختلافها، بوصفه أمرا طبيعيا، ومن المؤكد أولا أن العقل بقدر ما هو دليل على حرية إرادتنا، وعلى قدرتنا على الاختيار الخلاق في فعل الوجود الفردي والإنساني، فإنه دليل على حتمية حضور العدل في هذا الوجود، ومن المؤكد ثانيا أن العقل بقدر ما هو دليل على إنسانيتنا فإنه قرين العدل في الكون، ولذلك فإن العقلانية صفة من صفات الدولة المدنية الحديثة".

وفي آخر كتبه "نظريات معاصرة"، يوضح جابر عصفور أن ما يطمح إليه "هو ممارسة فعل المراجعة الذي لا تفارقه المساءلة في جانب بعينه من الجوانب العديدة للنقد الأدبي، وهو الجانب الذي يتصل بالنظريات المؤثرة في ثقافتنا الأدبية والنقدية، أو التي تسعى إلى أن يظل لها تأثير في مجالات الممارسة النقدية، وذلك بتحليلها تحليلاً يضعها في السياق التاريخي الذي يصلها باللحظة المولدة من ناحية واللحظة المستقبلة من ناحية ثانية".

وهم القطيعة المعرفية مع التراث

 منذ دخل هذا المصطلح "القطيعة المعرفية" إلى الثقافة العربية قبل نحو قرن من الزمان، وجه البعض سهامه إلى العديد من النقاد، من أبرزهم جابر عصفور، متهمينه وغيره بالقطيعة المعرفية مع التراث والهوية الحضارية للأمة، وهو أمر لا يمكن تصوره، لأن اللغة العربية هي إحدى أهم عناصر هذه الهوية، والرجل ظل منافحا عنها طيلة حياته، بل ترأس قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وإذا كان بعض المتطرفين الحداثيين يدعو لذلك، فإن كاتبنا خلاف ذلك، لأن باكورة كتبه وإصداراته، بدأها في وقت مبكر من مسيرته العلمية، برسالته وأطروحته الجامعية عام 1973، لا نجد هذه الروح المخاصمة للتراث والأدب العربي، بل على العكس، رأى في الأدب العربي إثراء وتعميقا لوعي القارئ بمجتمعه ومعيارا للحكم على أصالة تجربته، ويؤكد على عدم القطيعة مع التراث البلاغي العربي، بقوله نصا: ومع أن الصورة الفنية مصطلح حديث...، فإن الاهتمام بالمشكلات التي يشير إليها المصطلح، قديم، يرجع إلى بدايات الوعي بالخصائص النوعية للفن الأدبي. 

قد لا نجد المصطلح ـ بهذه الصياغة الحديثة ـ في التراث البلاغي والنقدي عند العرب، ولكن المشاكل والقضايا التي يثيرها المصطلح الحديث ويطرحها، موجودة في التراث، وإن اختلفت طريقة العرض والتناول، أو تميّزت جوانب التركيز ودرجات الاهتمام. 

مواقف داعمة للتراث

 وهذا السياق والمسار الفكري لجابر عصفور يقطع بأنه لا يؤمن بالقطيعة مع التراث وليس مخاصما له، بل هو ناقد له، والنقد لا يعني الخصومة، بل نجد اعتزازه بالتراث والهوية متجليا في هذه الواقعة التي يرويها صديقه العراقي الدكتور علي القاسمي: كنت ذات يوم من سنة 2006، بعد أن تركتُ العمل في الإيسيسكو، أشارك في الحوار الثقافي العربي الكوري في سيئول، وكان معنا الدكتور جابر عصفور، والدكتور بوسنينة المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألسكو)، والدكتور محمد صابر عرب الذي تولى حقيبة وزارة الثقافة في مصر بعد ذلك، وغيرهم. وفي بداية الاجتماع، التفتَ الدكتور جابر عصفور إلى المشاركين قائلاً: "أرجوكم، إخواني، أن تتكلّموا باللغة العربية فقط، فالاجتماع يتوفر على ترجمة فورية"، وطبعاً الدكتور عصفور يجيد الإنجليزية، فقد ترجم منها عدّة كتب مرجعية في النقد الأدبي. ولكنّه أراد من ملاحظته تلك تأكيد الهُوية الثقافية العربية.

وهذا موقف آخر ينفي ما شاع وذاع حول خصومته المزعومة مع تراث وهوية الأمة الحضارية، فحين كان وزيرا للثقافة، منع عرض فيلم " الخروج: آلهة وملوك" للمخرج البريطاني ريدلي سكوت الذي يدور حول خروج النبي موسى من مصر، وصرّح عصفور حينها لوكالة فرانس برس:" إن قرار منع الفيلم صدر من الوزارة ولا علاقة للأزهر به. هذا الفيلم صهيونيٌّ بامتياز، فهو يعرض التاريخ من وجهة النظر الصهيونية، ويتضمَّن تزييفاً للوقائع التاريخية؛ لهذا تقرَّر منْع عرضه في مصر.". قال هذا الكلام الخطير رغم أنه كان يعالج حينها في فرنسا، وهو يعلم أن فرنسا كان يمكن أن تحيله للمحاكمة وهو على أرضها بتهمة معاداة السامية، تلك التهمة التي طاردت مفكرا فرنسيا شهيرا هو روجيه جارودي.

 وهذه الحالة من الهوس الاتهامي بالقطيعة مع التراث التي وجهها البعض لجابر عصفور، نالت أيضا نقادا بارزين آخرين وهم من هذا الاتهام براء، فهذا هو الناقد والفيلسوف الدكتور حسن حنفي، ممثلا عن الجمعية الفلسفية المصرية، ونائب رئيسها، ونائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية، يكرم باسمهما عام 2019 أحد أهم علماء الأزهر، ورئيس مجمع اللغة العربية حينها، وعضو هيئة كبار علمائها والفائز عن عام 2021 بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، الدكتور حسن الشافعي، ما يقطع بعدم وجود قطيعة مطلقا بين الناقدين لبعض مضامين التراث الإسلامي، وبين الإسلام نفسه، كما يتوهم البعض. 

من مفهوم نقد النقد إلى نقد عصفور 

 لم يكتف جابر عصفور في مشروعه النقدي بمجرد نقد الأفكار التي يعرض لها، ولكنه انتقل لمنطقة جديدة هي نظرية "نقد النقد"، ويعتبر هو رائدها الأول في الثقافة العربية المعاصرة، والتي أسس لها غربيا الفيلسوف الفرنسي "تودوروف"، وأشبعها عصفور تنظيرا في كتابه "قراءة النص الأدبي"، وقدم تعريفا للفرضيات التفسيرية لمفهوم نقد العمل النقدي: "بأنه قول آخر في النقد يدور حول مراجعة القول النقدي ذاته وفحصه، ومراجعة مصطلحاته وبنيته التفسيرية وأدواته الإجرائية".

 وإذا كان جابر عصفور قد صال وجال نقدا وتشريحا وتفسيرا في كل ما اطلع عليه من منتج أدبي وفكري، تراثي أو معاصر، حتى بالغ في ذلك إلى حد نقد الأعمال النقدية ذاتها، فلا ريب أن نقدنا لبعض مواقفه سيكون مقبولا، لا سيما إذا كان هذا النقد يتعلق بما نراه تعارضا بين بعض الأفكار والقضايا التي تبناها في كتبه، وبين بعض مواقفه التي تبناها خلال توليه موقع المسؤولية في عدد من المؤسسات الثقافية، وارتباط اسمه كمثقف حر بحكومة لها سياسات وتوجهات تتعارض مع أفكاره، ولا سيما حول قضية التنوير التي أفرد لها مساحة واسعة من كتبه، بل أصدر حولها وباسمها عدة كتب.

ويقينا فإن قبول عصفور بموقعه هذا كان خصما من مصداقية أفكاره التحررية والتنويرية الرائدة، وأفقده استقلاليته كمفكر كبير يوجه ولا يوجه، فهو بحكم وجوده في موقعه الوزاري ليس مسؤولا فقط عن وزارته، بل مسؤولا أيضا عن أن تكون أعمال وتوجهات وزارته متناغمة ومتسقة مع التوجه العام للحكومة وفقا لقاعدة "المسؤولية التضامنية للحكومة"، والدليل على هذا التناقض هو الاعتراف الضمني من جابر عصفور نفسه، فربما إذا أحسنا الظن فقد استشعر الحرج وشعر بهذا التناقض بين دوره كمثقف مستقل ومسؤول خاضع لتوجيه الحكومة، فتقدم بالفعل باستقالته من منصبه الوزاري، بيد أن البعض يرى أن استقالته في التاسع من فبراير 2011، بعد عشرة أيام فقط من توزيره كان إدراكا منه بأن الحكومة ونظام مبارك كله إلى زوال، وهو ما حدث بالفعل بعد يومين فقط بانتصار ثورة يناير ونجاحها في إجبار مبارك وحكومته على الرحيل عن الحكم.

خلاصة

ونخلص من هذا العرض لجانب من المشروع النقدي النظري للدكتور جابر عصفور، رحمه الله، عبر استعراض آرائه ونصوصا من بعض كتبه، ومن خلال بعض مواقفه أيضا، إلى أنه في أعماله النقدية لم يكن مقاطعا للتراث ولا مخاصما ولا هادما له، بل كان على وجه الحقيقة لمن يمعن الفكر والتحليل، داعما للتراث ولإعادة قراءته، للاستفادة به، وامتزاجه بالنظريات الأدبية والفكرية المعاصرة، وإن كان إنتاجه الفكري حول قضايا التنوير وحرية التعبير لم نجد لها تطابقا حين تولى مناصب حكومية، وحين استوزرته الحكومة.

 

مراجعة. حسين محمد .. الاحد 16 – 1 - 2022

أشرف

 

 

نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022