السبت 18 مايو 2024

المجد للشيطان معبود الرياح

عائد خصباك كاتب عراقي

ثقافة11-2-2022 | 20:21

عائد خصباك - كاتب عراقي

عند الحادية عشرة نهارا التقينا معا هناك، سامي خشبة، صبري حافظ، أمل دنقل وأنا، وكنا قبلها قد حددنا ذلك الموعد، لنكون في مقهى "فينكس" وبعد الظهر قلت: أريد الذهاب لـ"سور الأزبكية"، وسور الأزبكية هو مجموعة الأكشاك الخشبية الملاصقة لسور حديقة الأزبكية، وتقع بالقرب من السور مقهى "متاتيا"، وقد جلس فيها يومًا جمال الدين الأفغاني، واتخذها مقرا، يلقي فيها الدروس على تلاميذه، على السور تباع الكتب القديمة وغير القديمة.
 تقع مقهى "فينكس" في شارع عماد الدين المشهور قديمًا بأنه شارع الملاهي والمسارح واللهو البريء وغير البريء، والشارع الأصلي الذي اسمه عماد الدين قُسّم إلى قسمين في زمن الثورة، قسم تركوه باسمه القديم، والثاني باسم محمد فريد، والثورة غيرت أيضًا اسم شارع سليمان باشا، إلى طلعت حرب وشارع فؤاد أصبح شارع يوليو، وشارع نازلي صار شارع رمسيس، الثورات دائمًا تريد أن تعمل لها إنجازات وبشكل خاص في تغيير أسماء الشوارع والأماكن، في بغداد شارع الملكة عالية، جاءت الثورة فأصبح شارع الجمهورية، وشارع الملك غازي أصبح "شارع الكفاح".


عندما قلت: أريد الذهاب إلى سور الأزبكية قال أمل دنقل: أنا جاي معك وبالمرة يمكن نشوف الدكتور جابر عصفور هناك. 
قال سامي خشبة: حتلاقوه، لا مكان له يوم الجمعة إلا هناك، لا يملّ من تقليب الكتب وتأملها على المناضد الموضوعة أمام الأكشاك والتي على رفوفها، لا يترك كشكًا دون أن يعرف ما الذي تغيّر فيه، إيه اللي دخل من عناوين جديدة هذا الأسبوع، حافظ الكتب كلها أحسن من البائعين أنفسهم.
 قال صبري حافظ: كنا رحنا سوية، لكن هي دقائق ويصل يحيى الطاهر عبدالله إلى هنا، الموعد معاه اقترب.
 قال سامي: سلموا لنا على الدكتور جابر وقولوا له: إحنا عاوزين نشوفه كمان. 
 كان الدكتور جابر عصفور بالفعل هناك، هو الذي رآنا أولا، صاح: أمل دنقل، يا مرحبًا.
 شد على يدي وأخذ كف أمل، وشد على أصابعه قائلا: أمل دنقل يا حبيبي.
 كان هناك من الواقفين ومن المارة من الشباب وغيرهم، قد توقفوا بجانبنا عندما سمعوا باسم أمل دنقل، هم في الغالب طلبة جامعات أو هكذا، قال الدكتور جابر: اسمح لي أن أقرأ المقطع الأول من قصيدتك "كلمات سبارتاكوس الأخيرة": 
المجدُ للشيطانِ.. معبود الرياحْ/ مَن قالَ "لا" في وجهِ من قالوا نعمْ/ من علّمَ الإنسان تمزيق العدمْ/ من قال "لا"..فلم يمت/ وظلّ روحًا أبديّة الألمْ.
قال أمل: وأنا أقرأ لك المقطع الثاني:
معلّقٌ أنا على مشانق الصباحْ/ وجبهتي بالموت محنيّةْ/ لأنّني لم أحنها.. حيّةْ!
 هتف أحدهم وكان بالجوار وبطريقة من كان واقفا على خشبة مسرح: يا إخوتي الذين يعبرونَ في الميدانِ مطرقينْ/ منحدرين في نهاية المساء/ في شارع الإسكندر الأكبر/ لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إليّ/ لأنّكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر/ فلترفعوا عيونكم إليّ/ لربّما إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ/ يبتسم الفناء داخلي.. لأنّكم رفعتم رأسكمْ مرّةْ!
انبرى شاب آخر، شق الصفّ وتقدم نحونا بصوته الواضح:
"لا تحلموا بعالمٍ سعيد/ فخلف كلّ قيصرٍ يموتُ: قيصرٌ جديدْ!/ وخلفَ كلّ ثائر يموتُ، أحزان بلا جدوى.. ودمعة سدى". 
كانت لحظات لا تنسى، بسببها نسينا أن نقول للدكتور جابر: أن الجماعة هناك في مقهى "فينكس"، سامي خشبة وصبري حافظ وربما معهما الآن يحيى الطاهر عبدالله، عاوزين يشوفوه كمان. ومن جانبه، لم يتركنا لاستئناف جولته بين الكتب، دون أن يقول لأمل: ربما أنت تعرف، أو لا تعرف يا أمل، أن مثل هذا الموقف لم يمر به شاعر من قبل، حتى الشاعر الأكثر جماهيرية، نيرودا، لم يمر بمثله، وسط ناسه ومتابعيه.

نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022