الأربعاء 15 مايو 2024

جابر عصفور قارئًا للشعر العربي الحديث

عبدالله السمطي

ثقافة11-2-2022 | 20:26

عبدالله السمطي - شاعر وناقد من مصر

شكّلتْ الرؤى النقدية التي بثّها الناقد الدكتور جابر عصفور في المشهد الأدبي نوعًا من الحراك الثقافي الذي يؤسس لبنى نقدية نوعية ومنهجية، فلم تكن دراساته ومقالاته ذات بعد انطباعي يقرأ الحالة الإبداعية قراءة زائر أو عابر، بل هي قراءة عارف ببواطن الإبداع ومكامنه، سواء على المستوى النظري بثقافته النوعية الكبيرة التي تمتد إلى مراودة الفكر الإنساني والفلسفي الإغريقي بنظرياته ورؤاه خاصة لدى الثلاثي المؤسس للفكر الفلسفي : سقراط وأفلاطون وأرسطو، وتمتد إلى معايشة المنتج البلاغي القديم في هذا الفكر عند هوميروس وهوراس اللذين أسسا لنظريات شعرية مهمة رسخت لمنهجية نظرية مؤثرة في الفكر النقدي العالمي برمته. 

كان الدكتور جابر عصفور – رحمه الله - ( 25 مارس 1944- 31 ديسمبر 2021)  قابضًا على الأبعاد النظرية في هذا الفكر بشكل متميز وفعال، ناقلا ذلك إلى فضاءات الفكر النقدي العربي حيث عني كثيرًا بالتراث البلاغي وقدم فيه أطروحتين مهمتين هما : "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي" و" مفهوم الشعر : دراسة في التراث النقدي". 
هذا كله أسس لديه وعيًا نظريًا مبكرًا ومختلفا، استند عليه في قراءته للمنتج الشعري الإبداعي العربي في مختلف تحولاته، حيث استثمر الدكتور جابر عصفور في ذلك أربعة أركان رؤيوية شكلت نهجه النقدي في قراءة الشعر العربي الحديث والراهن، أو كما يحلو لنا – نقديا – توصيفه بشعر الحداثة وما بعد الحداثة، تتمثل هذه الأركان في:
أولا: الركيزة التراثية والفلسفية، وقراءة المعرفة الماضية للحضارات بشكل جوهري وفعال، ليس عبر التأثر بها فحسب، بل باعتمادها كنظام ثقافي حاضن لمختلف الرؤى الفلسفية والفكرية والتراثية العربية والإسلامية، وهو ما اتضح على الأخص في كتابيه :"الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي" و" مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي"  المشار إليهما سالفًا. 
ثانيًا: التمكن من قراءة الفكر النظري العالمي وانبثاقاته المتجددة كالبنيوية، والأسلوبية، والتفكيك، ومناهج القراءة  والشعرية والتأويل وعلم النص، وهو ما تجلى في كتاباته النقدية التي قاربت عددا من الفنون منها الشعر والرواية ونقد النقد.
ثالثًا: ترجمة بعض فلذات الفكر النقدي العالمي حيث قام بترجمة عدد من الكتب مثل: عصر البنيوية لرامان سلدن، والماركسية والنقد الأدبي، والنظرية الأدبية المعاصرة.
رابعًا: معايشة الفنون القولية المتعددة كالرواية والقصة والمقالة، وتتلمذه على أيدي كبار النقاد خاصة ( الدكتور شكري عياد) ومعايشة الأجواء الأدبية والاقتراب من الفضاءات الشعرية ومعايشة الشعراء، (شعراء السبعينيات، وأمل دنقل، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وأدونيس ومحمود درويش  - تمثيلا -) والنقاد عبر رئاسته تحرير مجلة فصول، وعبر عمله كأمين عام للمجلس الأعلى للثقافة فضلا على عمله أستاذا للنقد الأدبي بجامعة القاهرة.

هذه الأركان جميعا شكلت له رؤية منهجية مميزة في معايشة فن الشعر العربي، وإنتاج عدد كبير من الدراسات النوعية فيه. 
إن فعل القراءة النقدية ينبني – حقيقة الأمر- على هذا التقاطع الذي يحدث بين الناقد بذوقه، وخبرته الجمالية في معايشة النصوص الإبداعية، ورؤيته التي تسعى للاقتراب من العالم الإبداعي بمختلف أجناسه الأدبية. 
إن الناقد القريب من النص، القريب من عالم المبدعين أنفسهم، المطلع على سيرهم الذاتية وسيرهم الفنية، هو الناقد الأقرب إلى قراءة النص، وإبانة مكامنه، وتقديمه للقارئ العام عبر صور متعددة من القراءة، سواء ذهب إلى القراءة النصية، أم التحليلية أم الجمالية والسيميائية والتأويلية والظاهراتية.
إن الناقد هو مبتكر نصوص، الناقد صديق النص والمبدع معا، وهذه الصداقة تتطلب ألا يكون الناقد مجرد ضيف عابر على النص الإبداعي، بل عليه أن يكون بمثابة المقيم الدائم في النص وفي حيوات المبدعين الذين يعبرون على أسئلته، وتأملاته وتشوفاته الناقدة، وهذا – على اليقين – ما توفر عند الدكتور جابر عصفور بشكل جلي، خاصة وأن رؤيته النقدية الجوهرية تتمثل كما يقول في كتابه: "مفاهيم نظرية" في أن النقد لا يكف عن مساءلة ذاته في فعل مساءلة موضوعه، ولا تتناقص حدة وعيه بحضوره النوعي ، بل تتزايد يومًا بعد يوم، خصوصا من حيث ما يقوم به هذا النقد من مراجعة مستمرة لمفاهيمه وتصوراته، ومحاسبة متصلة لإجراءاته وأدواته.  
في ظل هذا الوعي نطرح السؤال الأثير هنا: كيف قرأ الدكتور جابر عصفور الشعر العربي الحديث؟ 
على الرغم من أن هذا السؤال قد يصلح موضوعا كبيرا لبحث جامعي، إلا أنني سأحاول التركيز قدر الإمكان في تحديد يقين ما لقراءة الخطاب النقدي المتعلق بالشعر لدى الناقد جابر عصفور. 
إن المساحة النقدية في خطابه شكلها من الرؤية البويطيقية الشعرية التي ترى أن الأولوية هي "للحضور العلائقي للنسق في لحظة اكتشافه، تلك اللحظة هي فعل معرفي تقارب فيه الذات العارفة موضوعها بطريقة تؤدي إلى تثبيت عناصر هذا الموضوع في زمن الحضور الآني الذي هو زمن المقاربة المنهجية"، من هنا فإن الانبثاق المبدئي في تناول الخطاب الشعري لدى عصفور هو انبثاق معرفي ( إبيستمولوجي) حيث يواجه الشعر بمختلف مراميه، وفن الشعر فن نوعي مكثف محتشد بالمعارف والمعاني والتأويلات نظرا لطبيعة أدائه المكتنز بالدلالات والإشارات والرموز، وهو ما كان يصبو الدكتور جابر عصفور لابتكاره دائما، سواء في قراءته لشعر أحمد عبدالمعطي حجازي بعنوان: "السفر في منتصف الوقت"  أو لشعر محمد سليمان في دراسته المعنونة ب"واحد من شعراء السبيعينيات" .
إن ممهداته البحثية كانت عن الشعر أولا، حيث كتب بعنوان: "الصورة الشعرية" في مجلة المجلة (1968) وقدم قراءة في شعر أدونيس بمجلة الكلمة اليمنية (1977) وكتب عن شعراء السبعينيات في مصر (جامعة صنعاء 1991)، على أن كتابته النقدية عن الشعر كانت كتابته الأثيرة عن الشاعر أمل دنقل، حيث جمعتهما صداقة طويلة، ومعايشة لمختلف التحولات التي شهدتها مصر، وكان الناقد قريبا جدا من الشاعر أمل دنقل حتى رحيله في العام (1983) حيث يكتب عصفور في مقدمة كتابه عن أمل دنقل ( قصيدة الرفض: قراءة في شعر أمل دنقل)، "مؤكد أنني منحاز إلى المبادئ والقيم التي يجسدها شعر أمل، فأنا من أبناء جيله ومن المؤمنين بما آمن به، وهذا ما جعلني صديقا له والصداقة كالحب المقترن بها معاهدة بين ندين في شرف القلب لا تنتقص".
وعلى الرغم من قلة الدراسات التي كتبها الدكتور جابر عصفور عن الشعر الحديث، لاهتمامه بآفاق نقدية وفكرية متعددة، وكتابته عن "التنوير" إلا أن مدارات الخطاب النقدي للشعر لديه تشكل جانبًا رؤيويًّا مهمًّا في نسق الكتابة عنده، وفي حوار كاشف أجريته معه نشر في صحيفة الحياة اللندنية ( 8/5/1993) أكد – عند قراءة النص الإبداعي - على أنه :"يجب أن نبدأ وننتهي في الداخل، أي أن نبدأ وننتهي بقراءة النص الأدبي، من داخله سواء كان شعرياً أم غير شعري، لكن الشعر له خصوصية مختلفة ترتبط بدرجة التركيز علي النسيج اللغوي".
لقد كان الدكتور جابر عصفور عاشقًا لفن الشعر قديمه وحديثه، ولولا توجهاته المعرفية المتشعبة لكان قدم لنا ثراء نقديا نوعيا في قراءة فن الشعر بمختلف اتجاهاته ومدارسه، وهو الذي تحدث بالقول في الحوار السالف نفسه قائلًا: "علينا ألا ننسى أن فن الشعر ينطبق عليه قول أمل دنُقل : "أيها الشعر ... أيها الفرح المختلس" فالشعر هو الفرح المختلس من لحظات الحياة، وأنا شخصيا تربطني بالشعر صلة عاطفية وثيقة جدا حتى مع تقديري أننا نعيش في زمن الرواية وليس زمن الشعر".


نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022