السبت 28 سبتمبر 2024

عصفورٌ في دفتر التنوير

د. مجدي إبراهيم

ثقافة11-2-2022 | 20:41

د. مجدي إبراهيم

للعقل ثورة لا شك فيها، تحمل مشاعل النور وتحارب الجهل والخرافة وتدعو إلى المعرفة والتأويل. وليس لركود العقل من معنى إلا ركود الإنسان على التعميم: تقدّمه وتطوره وأخذه على الدوام بأسباب التقدم والتطور في كل حال. وإذا ركد هذا الجانب العقلاني ركدت في الإنسان سائر قواه وسائر أنشطته النافعة المبدعة بإطلاق. 
في هذه المنطقة الخصبة الملآنة بالعطاء المعرفي الثوري الإصلاحي التجديدي الحداثي، والداعية إلى اتباع نور العقل، ويقظة الوعي، واستحضار قيم التقدّم، جرى قلم جابر عصفور، الأديب والناقد، مجراه الطبيعي السيال، فوافق وخالف، وصادق وخاصم، وهدم أبنية زائفة، وأقام بالروح النقدية الفلسفية بنياناً جديداً لا يقام إلا على الأساس التنويري من ميراث أصَّله النهضويون من دعاة الاستنارة العقلية (المشايخ والأفنديّة)، المسلمون والمسيحيون، المصريون والشَّوام والمغاربة، وغيرهم من عُشَّاق الوطن العربي. 
ولجابر عصفور كتاباته النقديّة العديدة، ولعلّ أبرزها "أوراق ثقافيّة"، "وقراءة في التراث النقدي"، "والهويّة الثقافية والنقد الأدبي"، "وآفاق العصر"، "وهوامش على دفتر التنوير"، وهو الكتاب الذي يعنينا في هذه الدراسة، وهو عبارة عن مجموعة منوعة من الدراسات الأدبية والمقالات النقديّة نشرت أغلبها متفرقة في مجلة إبداع في العام 1992م، وأضيف إليها دراسات لم يشر مؤلفها إلى مكان نشرها، ثم صدرت بهذا العنوان فيما بعد في كتاب ظهرت طبعته الأولى سنة 1994م عن المركز الثقافي العربي. 
ينقسم الكتاب بعد افتتاحيته إلى ثلاثة أقسام. الأول: عن التراث والحداثة، يناقش فيه مسألة الحداثة والتنوير، ومعضلة التراث وملاحظات حول الحداثة، ثم إسلام النفط. والقسم الثاني؛ يخصصه للحديث عن التنوير ويطلق عليه "هوامش على دفتر التنوير"، بعد أن يتساءل عن علة انتكاس التنوير، فيبحث في تلك النقلة العكسية من التنوير إلى الإظلام. ثم محنة التنوير، وهوامش عن الدولة المدنية. يبدأ من رفاعة الطهطاوي وتخليص الإبريز، مروراً بنفي السلطة الدينية في الإسلام، لينتقل في هامش آخر إلى الحديث عن طليعة العلمانية، يتبعه بمظلة الدستور. 
أمّا القسم الثالث؛ فيعنونه بإضاءات، جاءت الإضاءة الأولى دعوة للحوار، والثانية إجابة عن سؤال مطروح: كيف نقع في حبالة الخطاب النقيض؟ ثم يتحدّث عن التعصب والدولة المدنية، والتعصب والاستبداد. ويجادل في قضية التسامح (الدولة المدنيّة)، ومناخ الإبداع، ليختم الكتاب بإضاءات عن العقل والتجريب والدولة المدنية، ثم الثقافة العربية وسؤال المستقبل.     
وإنّا لنلاحظ أنه يصدّر كتابه هذا بمقولتين لعَلَمَين كانا في ثقافتنا العربية على طرفي نقيض، أحدهما شيخ المحافظين المستنيرين وإمامهم الأكبر. والآخر مفكر علماني بالغ الأثر. أمّا الأول؛ فهو الإمام محمد عبده (1849ـ 1905م) الذي كان يقول: "إذا صدَر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حملَ على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر". وفي العبارة دعوة إلى إعمال العقل واستحضار التأويل. وأمّا الآخر فهو فرح أفندي أنطون (1874ـ 1922م)، إذْ يقول :"إنّ إصلاح الأرض مسألة علمية لا مسألة دينية، وأورشليم القديمة يجب أن تفسح مجالاً لأورشليم الجديدة".
ولهذا التصدير دلالته المعتبرة؛ فبرغم المُفارقة التي تبدو بين القولين، ورغم التناقض الذي كان بين الرجلين إلا أن هنالك في وهج الفكر وملاقاة القرائح العليا شعاعاً من النور العقلي الوهاج ينير فوارق القولين فيجمعهما تحت دلالة باقية سرعان ما تؤتي أكلها، وإنْ لم تكن واحدة في محاورة النقيضين؛ هى ولا ريب دلالة الإيمان بقيم التنوير والعقل والتقدّم والعلم. وهذه قيم باقية ولن يأتي زمان تتجرّد الكتابة عنها، ولا تتجدد؛ بل وفي كل زمن وفي كل عصر يظل الحديث المسهب عن تلك القيم العقلية الفاعلة باقياً، ولن ينقطع أو يزول.    
وقد شغل قلم جابر عصفور، الأديب والناقد، بإنقاذ العقل من سقوطه في "دورة النفي والنقل والإظلام"؛ حاملاً على عاتقه مشاعل النور التي حملها من قبله دعاة التقدّم العربي لمطلع النهضة الحديثة والمعاصرة، وتضافر في صنعها أفندية الاستنارة ومشايخها -كما يقول- في تتابع، بدأ بشيخ الاستنارة الذي راد الطريق لتلاميذه الأفندية الذين سرعان ما حملوا عنه العبء وأسهموا معه في تحقيق الحلم؛ وذلك بالمعنى الذي راد به الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801ـ 1873م) الطريق أمام علي مبارك (1823ـ 1893م) الذي تبعه بإحسان في طريق التقدّم وامتد بالاستنارة في كل أنحاء الوطن، بواسطة تنظيم التعليم الحديث وانتشاره.
وحين يجري قلم عصفور هذا المجرى، يجري بإنقاذ ما عساه يخيّل إلى العربي أن هذه المنطقة الخصبة أصابتها لوثة سوداء انحرفت بالخلف عن توجهات أسلافهم العليا إلى حيث حضيض التسفل والانحطاط: استبدلوا النور بالظلام، والقشور باللباب، والنقل بالعقل؛ وانخرطوا في سلك المناطق المعتّمة من تراث متخلف موبوء، أحيوه من جديد فتركوا أنوار الحقيقة، لتشيع فيهم وصمة الإرهاب بكل معانيه: الفكرية والفعليّة، الواقعية والنظريّة. إنّ غيبة إعمال العقل هى إحدى ميراث التخلف، تقدح في عمل الدين بمقدار ما تقدح في عمل الدنيا، ويسود معها الظلام الذي يقهر نور الوعي ونور العقل، ويقدم اجتهادات ساقطة في مستنقع آسن من فتاوى القدماء التي إنْ أفادت زمانها ومكانها فهى لا تصلح لعصر متجدد ولا لتقدّم مرجوّ ولا تساير روح الحياة المعاصرة؛ بل تخرج بالكليّة عن روح الحضارة.
ومن المقرّر عندنا أن أية محاولة لهدم إعمال العقل والاجتهاد هى محاولة تهدم ضمنياً مقاصد القرآن ومراميه الأساسية في بناء الإنسان؛ إذ جاءت تلك المقاصد هادفة بالتركيز على مبدأين. الأول: مبدأ عملي تطبيقي، وهو تربية الخلق القويم وهو جانب يتصل مباشرة بأجواء العمل القلبي، أو إنْ شئت قلت: بالوعي القلبي. والثاني: مبدأ معرفي نظري، هو إعمال العقل والاجتهاد في القرآن: إحياء الجانب العقلي بكل قيمه ومقولاته وأهدافه ومراميه. هذان الجانبان متكاملان فعلاً ليس بينهما انفصال مطلقاً، وهما أساس بناء الإنسان على نهج القرآن. 
وليس يخلو مبدأ منهما من عناية القرآن عناية بالغة حرفاً ونصَّاً. ولن يكون الإنسان إنساناً وهو يتجرَّد عن إحداهما ولا تتكامل في ذخيرته الروحية والفكرية آفاقهما المعرفية إنْ في العقل وإنْ في الضمير. 
وفي ضوء فكرة إعمال العقل والاجتهاد ومعانقة التيار العقلاني ومصاحبته، وفي ضوء الحضور الفلسفي وتأثيراته النقديّة، ينقد جابر عصفور "منطق الاتباع" الذي شاع شيوعاً قلّ أن يعالج، ويجنّد قلمه للتطهير الفكري والمعرفي من لوثات "المكفراتية"، في إطار حركة الاستنارة القومية النهضوية التي تقدّمت الإشارة إليها؛ لأن هذا المنطق نفسه هو الذي حَكَمَ على الميراث التنويري بالإعدام، طارده من المكتبات، وألقاه عمداً في زوايا النسيان، واغتالته يد النقل والتقليد التي حاولت أن تمحوه من ذاكرة الأمة، وتستبعده من دور الطباعة والنشر، وتستبدل به الميراث النقيض (ميراث التخلف الموبوء) الذي يؤكد ويصوغ عقلية النقل والاتباع، ونزعة التصديق والتقليد ثم التسليم الأعمى الكسيح لخطايا الأقدمين وأخطائهم، وتفرض على الجميع آلية اتباعية متطرفة لا تفارق المستقبل بصورة الماضي.
إنما الأقلام الواعية المستنيرة حملت مشاعل النور إلى الأمة العربية، وجاهدت الجهاد الأكبر في سبيل تقدّمها. وليس فيما توجّهت إليه من مسعى أنبل ولا أعظم ولا أخلد على وجه الزمان من ذلك المسعى التنويري الصادق. وجميع من أُشِير إليهم بالبنان من رواد هذا الاتجاه المستنير لم يكونوا إلا قادة للرأي نبلاء؛ بما سطروه من ضروب الفكرة الواعية والرأي السديد والطرح العلمي المستقيم. ولم يكن جابر عصفور إلا واحداً من هؤلاء الذين امتد بهم العطاء في مواجهة جحافل الظلام المنتشر كما الجراد، وهى تحاول تقويض ميراث التنوير العقلي؛ لتعلى من ميراث الجهالة والتخلف والتقليد الأعمى لمحاكاة الأسلاف، حتى إذا هو نقض "منطق الاتباع"، لا ينقضه وكفى؛ بل يستبدل به منطق الانفتاح والإبداع الذي يَرْفده الاجتهاد العقلي ويَدْعَمَه. 
لذلك؛ كان من الضروري أن يضع التراث في إطاره التاريخي، ويجرّده من أحكامه المسبقة على حاضرات الواقع الفعلي فينا، وينظر إليه بوصفه مُجَرَّد ميراث، وليس علة وجود، لكنما هو فقط مجرد مخزون مادي شعوري، وليس هو بالإطار المرجعي المطلق للحكم على الحاضر أو توجيهه نقلاً واتباعاً. وليس يخفى أن الحكم على الحاضر بميراث الماضي يغلُّ عجلة التطور، ويقف الزمن عند حدود الأسلاف، ويضرب العقل في مقتل، يقيده ويغله بقيود من حديد وأغلالٍ هى نفسها ضد طبيعة العقل نفسه، ناهيك عن إلغاء مبدأ الاجتهاد من أساسه.
والذين قتلوا الإنسان إنما قتلوه من هذا الجانب لا من سواه: أعدموا العقل، وبالغوا في تشويه الإنسان بلوثة مبكرة ضاعفت من حدّة الجمود الأسود والوقوف على حدود التقليد وحفظ المتون وشرح الهوامش وشرح الشروح على الشروح، وتحجير العقول بالمقبول وغير المقبول.
الذين قتلوا الإنسان، قتلوا فيه العقل المفكر، وعادوا العقلانية المستنيرة، وأطفأوا شعلة التنوير، وتوهّموا للتخلف مرجعية دينية. والدين منهم، وأيم الله، براء. إنّ هذه التيارات الوبيئة تكشف في تسارعها ـ هكذا يقول جابر عصفور ـ عن الهامشية التي يعانيها التيار العقلاني، والقمع النقلي المحفوظ من تراث الأقدمين، والذي يعوق الميراث الفلسفي من الحضور أو التأثير، أو التفاعل مع تيارات الحاضر الواعدة في تغيير صورة المستقبل. هذه الهامشية تتكشف، في جانب منها، بواسطة الريب التي تحيط بأفكار الحداثة، وتنوشها باتهامات المروق عن العقيدة والخيانة للوطن، فتتكشف عن ارتباط الحداثة بالبدعة، وارتباط البدعة بالخروج عن الأصل الثابت. ولكن ما الأصل الثابت في هذا السياق؟
يرى عصفور أنه الوضع الاجتماعي الاقتصادي الذي يبرر نفسه، (أيديولوجيا) بإشاعة منطق الاتباع، ويؤكد حضوره (دينياً) بتقديس مبادئ التقليد، وينفى كل مخالف له (سياسياً واجتماعياً) إلى دائرة الضلالة التي تفضي إلى النار دينياً. هذا الوضع نفسه يجزم بتكشف زاوية علاقة العداء الدالة على وضع الحداثة وإسلام النفط على سبيل المثال، موضع النقيضين، وهى نفسها العلاقة التي تجعل من الحداثة ضلالة سياسية واجتماعية وفكريّة ودينية في آن. 
إنّ الدفاع عن الحداثة دفاع عن التنوير، عن العقل، وهو يعرف الحداثة بأنها "فن السؤال" الذي لا يقنع بجواب. السؤال الذي ليس مجرد استفهام بل نمط وجود وعلامة هويّة. وهذا التعريف بلا شك يحمل فلسفة نقيضة للمألوف خاصة خصوصية التفكير فيها؛ لأنها قراءة دائمة لفعل الإنسان مع الإنسان: تطوره إزاء فكرة التقدّم. 
وفي دراسة بعنوان ملاحظات حول الحداثة نراه يحدّد انبثاق لحظتها من تلك البرهة التي تتمرد فيها الأنا الفاعلة على طرائقها المعتادة في الإدراك، سواء أكان إدراك نفسها من حيث هى حضور متعين فاعل في الوجود، أم إدراك علاقاتها بواقعها من حيث هى حضور مستقل في الوجود، وعنده أن الوعي بالضد علامة فارقة من العلامات التي تؤسس الشروط الملازمة في الحداثة، هنالك يصبح هذا الوعي مناقضاً لصفات الإطلاق، اليقين، التسليم، النقل، التقليد، الإجابات الجاهزة، القوالب المتكررة، الذات العارفة بكل شيء. 
الوعى بالضد هو الوعي الذي يستبدل بالمطلق النسبي، وباليقين الشك، وبالإجابة الجاهزة الثابتة، السؤال الدائم، وهو يؤسس نفسه بوصفه وعياً إشكالياً يرى في الشك علامة العافية، وفي السؤال شرط الوجود. وعليه، يصبح الوعي هنا وعياً ثائراً باستمرار، هو ثورة لا تعرف الركود؛ لأن الوعي فيها وعي متحرك ثائر على الدوام لا يثبت على قرار ولا يعرف الاستكانة ولا الجمود. ويذهب عصفور إلى أن مهمة الحداثي، مبتدعاً وناقداً، هى اقتيادنا إلى المتاعب، وتدمير الإذعان المطمئن لعالمنا، والاحتجاج الدائم على كل أشكال القمع، والرفض الجذري لكل ألوان الخنوع، والتأبي الجذري عن كل أوجه الموت في الحياة والفن والفكر. والخطوة الأولى في ذلك هى الإلحاحُ على السؤال الذي يولّدُ السؤال. ومن أجل ذلك كانت الحداثة هى فن السؤال. 
وإذا قيل عن الحداثة إنها فن السؤال، قيل عنها أيضاً إنها ترفض أشكال الكهانة المعاصرة، وإنْ اتخذت طابع العقلانيّة، وطابع الدعوة إلى التنور والتثقيف والتحرُّر من الأنماط والتقاليد. إنه إذا كان العقل يقف بالمرصاد ضد الكهنوت فسرعان ما يتحوّل تراثه الفكري نفسه، مع فقدان الحرية، إلى كهانة، ويتحول معه المشتغلون بالفكر والأدب إلى كهنة يمارسون التسلط، إذ يتجرّدون لخدمة ذواتهم وكفى، لا خدمة المجموع من طبقات الناس الكادحة، فعوضاً أن يكون الكاهن متاجراً بالدين يصبح هنا متاجراً ببضاعة كاسدة إذا اتخذت طابع الكهنوت، يتيح الحرية لنفسه ويحرّمها على الآخرين، ويجوّز النقد للغير ويحرّمه على نفسه، ويمنع المفكرين أن يفكروا في شيء إلا من خلاله، أو يعبروا عن أفكارهم كما يشاؤون.
الكهانة الفكرية والأدبية كالكهانة الدينية سواء بسواء، كلتاهما تحتكر الحقيقة، وكلتاهما تحجب التفكير في شيء إلا ما تراه هى، إذا تقلد أحدهم منصباً احتكر فيه الكلمة وتعامى عن الحقيقة، فمارس الكهانة الإدارية، ولم يكن منصفاً على الإطلاق، وجازى من ينافقه بمكافأة التقريب، وعادى من يختلف معه في الرأي مجرد اختلاف. ناهيك عن الغرور الأجوف الذي يحيط بالكهانة الأدبية والفكرية من جرّاء فقدان الحرية تماماً كما يحيط بالكهانة الدينية سواء.

نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022