السبت 20 ابريل 2024

حسن حنفي .. بين النقل والعقل

محمود قنديل

ثقافة11-2-2022 | 20:46

محمود قنديل

في ظل اختلاط الرؤى وضبابية المشهد في عالَمِنا العربي المُعاصِر، يبزغ في سماء ثقافتنا عالِمٌ جليل ومفكر كبير مثل د.حسن حنفي، بسعة ثقافته وعميق فكره، ورغبته القوية في تقديم الطُّروحات الجادة بهدف محو الإخفاقات، وامتثاله لطموحاتٍ عريضة نتطلع إليها ونسعى إلى تحقيقها عبر طرائق عديدة.
    ولعل ما حدث بعدما سُمي بثورات الربيع العربي من عوامل التشظي والتشرذم والانقسام كان محور اهتمام د.حسن حنفي، ذلك أننا شاهدنا ــــ يقينًا ـــ سقوطًا ودمارًا لمساحات شاسعة من وطننا الكبير، وسفكٍ لدماء بريئة دون ذنب، وأعداء من الداخل تحالفوا ـــ عبر صفقات الخيانة ـــ مع عدو الخارج، ليكونوا أداة في أيديهم يحركونها كيف شاؤوا، وتصدَّر المشهد جماعات التطرف وفصائل الإرهاب باسم الإسلام، شاهرين السلاح في وجوه أبناء أوطانهم، معتمدين فكرًا خوارجي أخذ به أبو الأعلى المودودي في حكومته الإسلامية، وحسن البنا في رسائله، وسيد قطب في معالمه في الطريق، ومحمد عبدالسلام فرج (مُنَظِّر جماعة الجهاد وأميرها) في كتابه الشهير "الفريضة الغائبة" التي كان يعني بها الجهاد.
   في خضم تلك المرحلة الحرجة دعا مفكرنا إلى فك الاشتباك بين المفاهيم والرؤى المتباينة، وتحدث عن ضروة تجديد الخطاب الديني باعتباره ضرورة تمليها طبيعة المرحلة التي نمر بها جميعًا؛ موضحًا أن الخطاب شيء، والواقع شيء، والمعاني شيء آخر.


   فالتجديد ــ بحسب تصوره ـــ يعني تغيير الفكر بالثوب الذي يحمله وهو اللغة، ويرى ضرورة تفعيل هذا التجديد كل جيل أو جيلين، ذلك أن العلوم الإنسانية التي تحمل اللغة تتغير، ومن ثمَّ يتغير الخطاب الديني بتغيُّر تلك العلوم.
وعن الاجتهاد أقرَّ بأنّه مبنيّ على الإحساس بالمشكل، وعلى الإحساس بالهمّ، وعلى معرفة الأصول؛ التي يمكن أن يستند إليها، وعلى احتمالات الحلول الجديدة، وعلى مدى إنجازها، ومدى نفعها، فوجوه الاجتهاد عديدة، والصواب كثير، ويُجزم: بدون اجتهاد تتوقف الحياة.
   ويفجر مفكرنا قضية الاشتباكات بين النقل والعقل، ساعيًا إلى فض المجابهة بينهما، برسم الحدود وتدشين العلامات بين مساحتهما؛ فيدفع بأن النقل ليس حجة عند القدماء لأنه لا يستند إلى العقل، ولا يقوم على برهان، ومن ثم فالذي يُجدد هو الذي يُغَيِّر.
   وفي هذا الصدد يؤكد على أن الفقه هو اجتهاد كل جيل لفهم النصوص، كما أنه علم بشري لا يتسع لرحابة الدين الإلهي، وهو ـــ بذلك ـــ يدعو إلى إعمال العقل، وتفعيل الاجتهاد المُجَدِد بين الحين والآخر.
    ويقول: لا يوجد شيء اسمه "رجل دين"، فعالِم السياسة أو الاجتماع يمكن أن تكون له نظرة في الدين.
   ومن ذكاء د.حسن دعوته إلى إعادة بناء التراث دون قطيعة معه، وهو ـــ في هذا الأمر ـــ يُقر بأهمية الجذور لمجتمعاتنا العربية، ولا يرى وقوف التراث عقبة أمام تطورنا وتقدمنا، ولكن العبرة ـــ كما نعتقد ـــ تتمثل في فلترة التراث من آفات قد تصيب حياتنا بالتدهور والتراجع، فنكون ـــ بذلك ـــ قد قمنا بإعادة إنتاج التراث بشكل يناسبنا ويلائمنا.
   ويؤكد في حديثٍ له على أن الموروث والدين وسيلة، والوحي وسيلة، أما الغاية فهي تقدُّم البشرية، وتحقيق مقاصد الشريعة كما قال الشاطبي.
   ويتساءل: كيف نستطيع تحويل العلم إلى ثقافة، والثقافة إلى سياسة حتى لا ننعزل كعلماء، ولا نتحول إلى مثقفين يخاف بعضُنا البعض؟
   من هنا أطلق عالمنا الجليل مقولته الشهيرة: لا بديل للعقل العربي عن التفكير والتنوير.
ولأنه اطلع على الثقافة الغربية وحركات تحولها، فقد ساق لنا أنموذجًا من ألمانيا حين قام الفيلسوف هيجل بتحويل الدين إلى فكر، وجاء الشباب ـــ من بعده ـــ لتحويل الفكر إلى نقد، وهو ما جعل من ألمانيا دولة قوية.
   وُلِد مفكرنا في نهايات شتاء عام 1935 بقلب عاصمة الثقافة العربية (القاهرة)، وتدرج في أطوار التعليم إلى أن تُوّج  بدرجة الدكتوراه من جامعة السربون الفرنسية، واشتغل بتدريس الفلسفة بعددٍ من الجامعات المصرية والعربية، واتخذ من التنظير الإسلامي منهجًا لأفكاره وطريقًا لخطاه.
   هو كاتب موسوعي، فله: "التراث والتجديد" في أربعة مجلدات، و"من النقل إلى الإبداع" (تسعة مجلدات)، بالإضافة إلى "موسوعة الحضارة العربية والإسلامية" و "الفكر الغربي المعاصر" و "اليمين واليسار في الفكر الديني" و "من العقيدة إلى الثورة" و "من النقل إلى العقل"، وغيرها من الكتابات التي تكشف ـــ بصورة جلية ـــ عن الوجه الحقيقي للآخر، وعن طبيعة ثقافتنا العربية في الوقت الراهن، وما تحتاجه وما تطمح إليه، وما سيكون سببًا في قيامها من كبوتها.
   ورغم ما طاله من اتهامات من قوىً كثيرة مناوئة لفكره الساعي إلى التغيير والتنوير، إلا أنه ظل ـــ كما هو ـــ ينأى بنفسه عن مثل هذه الترهات المحمومة والرغبات الحاقدة والهدَّامة.
    لم يعرف الخوف طريقًا إلى قلب الرجل، وضلَّت الرهبة سبيلها إلى دواخله، وكان يؤكد كل يوم على صلابة مواقفه المناصرة للتقدم والداعمة للرُّقي.
   استفاد من علمه كثيرون من ماليزيا وأندونسيا وتركيا، وكانوا قد أبصروا في فلسفته مُدخلًا رئيسًا إلى رأب الصدع في جدران الأمم والشعوب، وعُرِف في الأوساط الثقافية والأكاديمية بأنه من أهم منظري تيار الإسلام اليساري، وعلم الاستغراب.
   عاش فيلسوفنا بين العلوم والمعارف دون ملل أو كلل، يُطل من نوافذ معرفية على الآخر بصرف النظر عن دينه وجنسه ولسانه ولونه، يَدرُس حركات المجتمعات والشعوب ويُمحِّصها، ينحاز إلى عربيته كلغةٍ وجغرافيا وحضارة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ.
   يعرض أفكاره ـــ عبر أحاديث صحفية ولقاءات تلفازية ـــ ببسمة مشرقة تبعث الأمل وتتطلع إلى غدٍ أفضل.
   التفاؤل شيمته، والهدوء نبراس حياته، والرفق في محاورة المختلفين معه لا فظاظة فيه، ولا غلظة.
لا أحد ينكر مشروعه الكبير (من النقل إلى العقل) الذي هو ـــ في حقيقة الأمر ـــ يُعَد المدخل الرئيس لأي نهضة منشودة، فإعادة بناء العلوم النقلية (علوم القرآن/ الحديث/ التفسير/ السيرة/ الفقه) من شأنه إحداث طفرة فكرية ومجتمعية تعيننا على الوقوف فوق أرض لا تميد.
   وبحصول مفكرنا العظيم د. حسن حنفي على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2009، وجائزة النيل 2015، وجائزة المفكر الحر من بولندا، ليُعَد تتويجًا لسيرة ومسيرة استمرت لأكثر من ستين عامًا.
     وفي خريف عامنا المنصرم (2021) يعلن اليوم الحزين (21 من أكتوبر) عن مغادرة عالمنا الجليل د. حسن حنفي عن سماء ثقافتنا العربية المعاصرة، بعد أن غرَّد طويلًا برؤاه المضيئة الساعية إلى الاحتفاء بالعقل كركيزة أساسية لا يمكن إنارة مساحات عالمنا دونها.

نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022