تحدث سعيد يقطين فيما كتب عن رحيل جابر عصفور عن (القِوامة الثقافية)، بما تعنيه من القدرة على تبنّي تصوّر قابل للتطبيق والعمل على تحقيقه بالانخراط فيما يسمح بجعل هذا التصور قائماً.
ومن القِوامة يأتي القوّام، ولأسرعْ إلى القول: ما كان جابر عصفور إلا أنموذجًا فذًا للقوّام الثقافي وللقِوامة الثقافية، وبهذه المعاني طالما رددت أن جابر عصفور كان وزيراً للثقافة قبل أن يؤول إليه هذا المنصب، فقد كنت أرى أن مفكراً وكاتباً وناقداً وأكاديمياً ومثقفاً وناشطاً مثل جابر عصفور، هو أكبر من منصب مهما علا، ومع ذلك، كان ينتظر هذا المنصب، فقط ليصح القول فيه من بعد إنه كان طه حسين زمانه، وقد كان، وأذكر هنا كيف كانت الوزارة تحوم حول جابر عصفور كلما جرى تعديل وزاري أو كلما استقالت الحكومة، بينما ينتظر فاروق حسني العودة إلى الوزارة.
ولن أنسى أن الوزير الفنان الذي أقام في الوزارة أربعاً وعشرين سنة (1987 – 2011) مثله مثل وزيرة الثقافة السورية الأسبق نجاح العطار (1976 – 2000)، كان في التعديل أو التشكيل الأخير أكبر قلقاً على المنصب، لكن المنافس الوحيد أو الأقوى هو من طمأنه وبشره بالاستمرار، وليس ذلك من جابر عصفور إلا واحدة مما كان له من علامات الوفاء وأولوية الصداقة، أما الزهد بالمنصب أو السعي إليه، فمعرفتي بجابر عصفور خلال أربعين سنة تسمح لي بالقول إن الأمر لم يكن بالنسبة إليه زهداً ولا سعياً، ذلك أنه كان ممتلئاً باليقين بأن الوزارة هي التي سوف تسعى إليه ذات يوم، وعندما تولى الوزارة – للمرة الثانية – حوّرت ما قال أبو العتاهية (747 – 826م.) في الخليفة المهدي عندما تولى الخلافة: (أتته الخلافة منقادةً/ إليه تجرر أذيالها) فرددت بصدد صديقي: (أتته الوزارة منقادةً/ إليه تجرر أذيالها).
تقتضي القِوامة الثقافية مشروعاً ثقافياً، ورؤية دقيقة وشاملة وعميقة، وأهلية علمية، ومواصفات شخصية منها الدينامية والكاريزما، وقد كان لجابر عصفور كل ذلك، وبكل ذلك حُقَّ له أن يكون القوّام الثقافي.
ومن الكثير الكثير الذي قيل في القِوام والقِوامة معجمياً ودينياً، أكتفي هنا بالإشارة إلى أن قِوام الأمر هو نظامه وحُسْن القيام به، ومن قام على الشيء: حافظ عليه ورعى مصالحه، والقوّام هو المصلح للأمور، وأختم بالتذكير بأن محمد متولي الشعراوي (1911 – 1998) نفى أن يكون القِوام هو كتم أنفاس النساء، بل هو السعي في مصالحهن، ومعنى (قوّامون) هو: مبالغون في القيام على أمور النساء، ولا يصح أن تُؤخذ (قِوام) على أنها السيطرة، أما سعيد يقطين فقد أسس القِوامة في agency.
من الكثير الذي عشته مع جابر عصفور، وفيه بيان كل ما تقدم، أذكر حلمه بمؤتمر للرواية العربية الذي سرعان ما سيتهيكل وتصير له جائزة القاهرة للإبداع الروائي.
كان جابر يتحدث كحالم، وكان يخطط ويوزع المهام ويتابع أدق التفاصيل كإداري تحار معه في أن يكون أيضاً، بل وأولاً، الأستاذ الجامعي والمشارك في مؤتمرات وندوات، وكاتب المقالة الشهرية في مجلة العربي، والأسبوعية في جريدة الحياة، والمشرف على أطروحة دكتوراه، أو المحكم في أطروحة، أو المحكم في جائزة مرموقة.
لم يكن مؤتمر الرواية العربية – بالأحرى عرسها في دورته الأولى – إلا قطبة (متينة ومغوية وباهرة) في الاستراتيجية الثقافية التي جاء بها جابر عصفور، ودأب على إثرائها وتطويرها وهو يمضي في العمل عليها من برزخ إلى برزخ، ومن نجاح إلى نجاح، دون أن يعني ذلك أنه لم يواجه العراقيل والعثرات – هل يكفي أن أذكّر برفض صنع الله إبراهيم لجائزة القاهرة للإبداع الروائي، مما أوجع جابر عصفور، إذ عدّه غدراً من محمود أمين العالم، ولكن دون أن يؤثر البتّة في تقدير جابر عصفور للمكانة الرفيعة لإبداعات صنع الله إبراهيم.
أحياناً كنت أفكر أن جابر عصفور لا يصلح للإدارة، فهو يتصرف بروح الفنان أو الشاعر. وكان ذلك في بداية لقاءاتي به في المجلس الأعلى للثقافة، وبالطبع كانت لقاءات متباعدة بحكم مقامي في سوريا، وقد كان لقاء الفنان أو الشاعر يسعدني، ويذكرني ببداية علاقتنا، وهو ما كان يتعزز أيضاً في لقاءاتنا خارج المجلس، وخارج القاهرة، في الإسكندرية، أو اللاذقية أو الكويت أو تونس ... ولكن سرعان ما عرفت من صديقي الوجه الإداري الحازم والصارم والمتابع لأدق التفاصيل، وعدو البيروقراطية، ومن آيات ذلك أذكر دعوته لأول مرة للكاتب المترجم الكبير ثائر ديب، وكان ذلك سنة 2000، عندما كان ثائر ديب ممنوعاً من السفر، وكنا في لقاء مع الكاتبتين ماري رشو ونعمة خالد، عندما قدحت الفكرة، فاتصلت بجابر من أجل دعوة ثائر ولو تحمّل بطاقة الطائرة، إذ كان المؤتمر وشيكاً وكان الإعداد له قد أوفى، وعلى الرغم من أن قائمة مترجمات ثائر ديب المميزة لم تكن قد طالت بعد، لكن جابر عصفور يعرف المشهد الثقافي العربي معرفة شاملة ودقيقة، فوجه إلى ثائر ديب دعوة كاملة، وطلب من علي عقلة عرسان رئيس اتحاد الكتاب في سوريا (1977 – 2005) أن يدبّر أمر سفر ثائر، فدبّره، وبعد سنوات، كنا في دعوة إلى أحد مؤتمرات مكتبة الإسكندرية، وثائر ديب من المدعوين، وإذا بالمنع من السفر له بالمرصاد، ولم يدبّر الأمر هذه المرة أحد، فما كان من جابر إلا أن قرأ ورقة ثائر بنفسه.
قبل ذلك، وفي لقاء آخر دار الحديث في مكتبة العامر حول الريادة الشعرية الكلاسيكية التي انعقدت إمارتها لأحمد شوقي، ولم يذكر أحد الشاعر السوري بدوي الجبل (1903 – 1981) فأفضت في الحديث عنه، وعن نقصان الحديث عن الريادة في غيابه، وقرأت مما أذكر من شعره، فكلفني جابر بأن أعِدَّ أو أكلّف من يُعدّ كتاباً عن بدوي الجبل، وضرب لي موعداً في اللقاء القادم، وتناءى اللقاء القادم سنة، شُغلت خلالها عن الوعد بكتاب عن بدوي الجبل، وإذا بجابر يسألني قبل أن نتعانق:
-فين كتاب البدوي؟
ولم يشفع لي أيّ عذر، فانصرفت فور عودتي إلى إعداد الكتاب الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة سنة 2002 تحت عنوان: بدوي الجبل: مختارات_ إعداد وتقديم). وتكرر الأمر في (ورطة) أخرى، حين حدثته وجمع من الصديقات والأصدقاء عمن سميته بآخر الرومانسيين العرب، وهو الشاعر السوري نديم محمد (1908- 1994)، وشددت على نقصان الحديث عن الريادة الشعرية الرومانسية في غيابه، فكلفني جابر بأن أعِدَ أو أكلّف من يُعِدّ كتاباً عنه، فكلفت الشاعر وفيق خنسة بالأمر، لكن ما لا أذكر من الأسباب بدّد الوعد بالكتاب حتى اليوم.
من الألقاب التي حملها جابر عصفور بحق: حارس التنوير، وهو ما يعزّر الجدارة بلقب القوّام الثقافي، وما يغني ويوّسع دلالة القول بالقِوامة الثقافية. فقد كان جابر عصفور على رأس كوكبة المثقفين الذين واجهوا الإرهاب والتطرف والتعصب مبكراً، وذلك في كتبه التي صدرت عام 1993 (التنوير يواجه الإظلام) و(محنة التنوير) و(هوامش على دفتر التنوير)، وفي كتبه التالية: (دفاتر التنوير – 1994) و(أنوار العقل – 1996) و(التنوير والدولة المدنية – 2014).
وكما وسم هذه الكتب التحليلُ والسجالُ والحرارة، كان أيضاً ما وسم كتب جابر عصفور الأخرى (دفاعاً عن العقلانية والعقل الحر) و(ضد التعصب) و(نقد ثقافة التخلف) و(المقامة بالكتابة: قراءة في الرواية المعاصرة) و(عن الثقافة والحرية) و(مواجهة الإرهاب: قراءات في الأدب). وبتلك الصفات (التحليل والسجال والحرارة) تنزّل جابر عصفور بالنقد الأدبي من العلياء الأكاديمية المبتورة أو الواهية الجذور إلى سخونة الواقع، كما يليق بالقوّام المثقف وبرجل القِوامة الثقافية.
نشر في "مجلة الهلال" عدد فبراير 2022