أضحى الخطاب المرئي مصدراً أساسياً لإنتاج القيم والرموز، وتشكيل الوعي والوجدان، والذوق والسلوك، وتكريس السلطة والنفوذ، كونه نظاماً متكاملاً ومؤثراً للإرسال والتلقي، ويمكن من خلاله خلق التأثيرات المختلفة وتحقيق الأهداف المنشودة المعلنة والخفية، باعتبار أن الواقع المرئي هو إعادة تشكيل للواقع الأصل وإدراك ذاتي، ورؤية جديدة للعالم.
ولعل هذا ما دفع العالم الغربي المهيمن على إنتاج وترويج تكنولوجيات الاتصال إلى المراهنة على خطاب الصورة البصرية في بسط نفوذه، وهيمنته الثقافية، الاقتصادية، والعسكرية.
ويتميز الخطاب بوجود متلفظ ينتجه، ويتمظهر من خلال ترهينات متعددة، حيث يستثمر صيغةَ ضمير الغائب وضمير المتكلم وفق استراتيجيات تولد مقاطع الخطاب، وتحدد الوظائف التي يُراد تحقيقها في علاقته بالمتلقي، ويتوسل الخطاب بلوغ هذه المقاصد عبر المكونات الفنية الممثلة في اللغة والتركيب، أبعاد الزمن والمكان، البعد المعرفي، النصوص الغائبة، آليات الإقناع، الأيديولوجيا، والمنظومة القيمية.
وتمثل الصورة التلفزيونية شكلاً تكنولوجياً متطوراً في عالم الصورة، بفصل تزامنها مع الأحداث التي تقدمها بشكلٍ آني، مما يتيح للمحطات التلفزيونية بث الكثير من أشكال الصور المختلفة.
وبالعودة إلى الخطاب الذي تحمله الصورة التلفزيونية للمشاهد، يمكن القول إن كل صورة تلفزيونية تحمل نوعيْن من الخطاب: خطابٍ صريح تفصح عنه الصورة نفسها أو المقدم داخل الأستوديو، ويتحدد الخطابُ الصريح للمعلومة من خلال الملخص الشفوي المركب، وفي المقابل هناك خطاب ضمني أو رمزي للمعلومة بصفة دائمة وتوكيدية.
ويتم ترسيخ الخطاب الضمني الذي تستهدفه الصورة التلفزيونية لدى المتلقي البسيط بتكرار الأخبار بشكل متعمد كما هو متبع في الكثير من الأحداث التلفزيونية، حيث تعرض على الجمهور بشكل أصبح قابلاً للتصديق، باعتبار أن الخبر المصور يحول المشاهد إلى شاهد عيان.
ووفقاً للسيميائية "جوليا كريستيفا" ينطلق المنهج السيميائي من مفهوم التدليل significance داخل الخطاب كي يخترق الدوال والذات والمدلولات، والنظام النحوي لإدراك الدائرة التي تتجمع بذور الخطاب ونوايا اللسان العميقة، حيث يهتم المنظور السياسي في السيميائية في تحليل الخطاب بالبني وتأثير القوة والأيديولوجية على الخطاب، فقد قسم "فان ديك" الأيديولوجية وتأثيرها في البناء السيميائي للخطاب السياسي إلى نوعيْن: البنية التحتية للخطاب والبنية الفوقية له.
ونظراً لأن الخطاب –كما أسلفنا- قد أضحى الخطاب المرئي مصدراً أساسياً لإنتاج القيم والرموز، وتكريس السلطة والنفوذ، وانطلاقا من الظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية، والتحديات الكبيرة التي تواجهها الدولة المصرية ما بعد ثورة 30 يونيو، صارت سيميائية الخطاب أمراً مهما ولافتاً في موضوعات وقضايا عدة مثل: الإرهاب، أزمة السد الإثيوبي، المنصات الإعلامية المعادية، التدخلات التركية والقطرية، المشكلات الاقتصادية المتراكمة، ضرورة تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي، تهديدات الأمن القومي... وغيرها.
وتأتي أزمة السد الإثيوبي على رأس القضايا التي تشغل الرأي العام المصري، والتي أثرت بشكلٍ كبير على إنتاج الخطاب الرئاسي خلال إطلاق المشروع القومي لتنمية الريف المصري في 15 يوليو 2021 عقب اتخاذ إثيوبيا لإجراءات أحادية بالملء الثاني للسد، إضافة إلى تقاعس مجلس الأمن عن إيجاد حلٍ جذري للأزمة، وسعي الإعلام المعادي إلي تشكيك المصريين في قدرة القيادة السياسية علي حماية حقوق مصر المائية.
في هذا الإطار جاءت الدراسة المهمة التي أجراها الباحث المجتهد د. محمد عبد العزيز سيد طه عصيدة مدرس الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام جامعة بني سويف والمعنونة "سيميائية خطاب الرئيس السيسي حول قضية السد الأثيوبي خلال اطلاق مشروع تنمية الريف المصري"، والتي استهدفت الكشف عن الدلالات السيميائية الكامنة وراء إنتاج خطاب الرئيس السيسي (اللغوي والبصري) باستاد القاهرة الدولي خلال إطلاق المشروع القومي لتنمية الريف المصري "حياة كريمة"، إضافة إلي الوقوف علي سيميائية الأنساق المكانية والزمانية، وتحديد الملامح المميزة للخطاب ممثلة في (لغة الجسد) خلال الخطابيْن النصي والارتجالي.
وتنبع أهمية الدراسة من نقاطٍ عديدة، منها تسليط الضوء على سيميائية الصورة التليفزيونية بالخطابات الرئاسية، باعتبارها مجالاً محملاً بالدلالات التضمينية العميقة والإيحاءات والمعاني الخفية، مما يسهم في تكوين وعي بصري حول ما تضمنه الخطاب الرئاسي من أنماط اتصالية لفظية وغير لفظية، وقدرة الخطابات الرئاسية النصية والارتجالية على تشكيل إدراك الرأي العام بتكوين تصور حقيقي لدي المشاهدين حول مصير حقوق مصر المائية، نظراً لقدرتها على التأثير في العقل البشري.
كما تُعد الخطابات الرئاسية النصية والارتجالية المصورة تليفزيونيا بمثابة خطابٍ بصري لغوي، يخلق اتصالاً جماهيرياً بين قيادة الدولة والشعب، ويُظهر للعالم وحدة الصف المصري من عدمه، وكذلك الرد على ادعاءات المنصات الإعلامية المعادية للدولة المصرية.
واستهدفت الدراسة الكشف عن المعاني الضمنية والدلالات الكامنة التي تحملها للصورة التليفزيونية الخطاب الرئاسي النصي والارتجالي، من خلال كشف البني العميقة للنص التي تمثل حيثيات وظروف إنتاج النص، لإبراز الأيديولوجيات الكامنة وراء النص (البني الخفية للنص)، إضافة إلي الوقوف علي سيميائية الأنساق المكانية والزمانية، كما تسعي الدراسة لتحديد الملامح المميزة للخطاب ممثلة في (لغة الجسم) خلال الخطابين النصي والارتجالي.
وتنتمي الدراسة الراهنة إلي البحوث الكيفية التي تتبني وصف وتحليل خطاب الرئيس السيسي (النص والصورة التليفزيونية) خلال احتفالية إطلاق مشروع حياة كريمة بتاريخ 15 يوليو 2021م وصفاً دقيقاً متعمقاً، بهدف تحديد ورصد الدلالات الكامنة وراء الخطاب الرئاسي في ضوء مقاربات كلٍ من "رولان بارت"، "كريس وليوين"، "فرانسيس فانوي" للتحليل السيميولوجي، من خلال كشف البني العميقة للنص التي تمثل حيثيات وظروف إنتاج النص، لإبراز الأيديولوجيات الكامنة وراء النص (البني الخفية للنص)، حيث يمثل التوجه العام للنص البني الظاهرة، في حين تمثل الأنساق المكانية والزمانية المحددات التصورية للنص.
واعتمدت الدراسة على منهج التحليل السيميائي الذي يستند إلى مفاهيم النسق، الآنية، والدليل، وبهذا الثالوث يرتبط هذا المنهج الذي يعتبر أحد أهم طرق البحث الكيفي بالإرث البنيوي الذي اعتمدته مختلف العلوم الإنسانية (الأنثروبولوجيا، علم النفس، السوسيولوجيا، الأدب...وغيرها)، حيث يعتبر التحليل السيميائي إجراءً منهجياً يستجمع أركانه الأساسية بناءً على مبدأ التكامل بين معارف عديدة، أيضاً العمل على التقارب بين مختلف أنواع الخطابات، إضافةً إلى الاعتناء بخطاب الصورة السمعية البصرية سواء في صورته السينمائية أو في صيغته الثقافية.
وتمثلت عينة الدراسة في التحليل السيميائي لخطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في احتفالية إطلاق مشروع تنمية الريف المصري حياة كريمة بتاريخ 15 يوليو 2021، حيث تم الرجوع إلى صفحة المتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية (السفير بسام راضي) للحصول على النص الكامل للخطاب الرئاسي، بينما تم الحصول على الفيديو الكامل من القناة الرسمية لــ رئاسة جمهورية مصر العربية بموقع اليوتيوب والتي أذاعت الحدث مباشرةً علي مدار 3 ساعات ونصف، منذ وصول الرئيس لإستاد القاهرة الدولي مروراً بمختلف فقرات الاحتفالية ثم الخطاب الرئاسي وصولاً لختام الاحتفالية بالسلام الوطني ومغادرة الرئيس.
ويرجع اختيار تلك الفترة الزمنية الخاضعة للتحليل إلى القلق الذي انتاب الشعب المصري إزاء إعلان حكومة إثيوبيا بدء الملء الثاني للسد الإثيوبي بشكلٍ أحادي دون الوصول إلى اتفاقٍ مُلزم مع الدولة المصرية، إضافة إلى محاولة الإعلام المُعادي تشويه جهود الحكومة المصرية لاحتواء الموقف بهدف إحداث بلبلة إعلامية لإفقاد الشعب المصري ثقته في القيادة السياسية.
ونعرض الأسبوع القادم نتائج هذه الدراسة المهمة.