الأربعاء 8 مايو 2024

المذبحة فى باريس وضحايا الإرهاب الدينى


المذبحة فى باريس وضحايا الإرهاب الدينى

مقالات6-3-2022 | 11:57

ا.د. فتحية الفرارجى

أيها القارئ العزيز...اليوم فى عام 2019  تُرى هل ساعد التقدم التكنولوجى وتطور الحياة على تخلى الكائن البشرى عن التفكير بشكل عنصرى متطرف ؟ أم إن العنصرية المتطرفة طبيعة بشرية مترسخة فى الإنسان مهما تطورت الحياة ؟ 


 انظر معى إلى هذا المحارب الجسور الذى صوب هدفه نحو العدو المتطفل؛ لأنه يعرفه تمام المعرفة فى وقت العدوان الثلاثى عام 1956و اليمن 1964 ويونيو 1967 وحرب الاستنزاف 1967-1970 و أكتوبر 1973 وأنغام القرآن تتردد فى آذانه منذ أن درس فى الكُتاب. جاهد وهو متسلح بالعلم بدراسة الشئون الفنية والعسكرية، وانتقل من ميدان المعركة إلى محراب الترجمة ودراسة اللغة الإنجليزية.


  ترى لو فقد هذا المحارب ملامح العدو وفوجئ بأن من عليه محاربته هو من أبناء وطنه ؟ ترى هل سيكون الأمر هينًا ؟ اليوم عندما سمع من يتحدثون عن الصراع الدينى، هرع إلى كتيبته... وفتش فى حقيبته فوجد مسرحية شعرية تعود إلى عام 1594لكريستوفر مارلو عنوانها المذبحة فى باريس وقرر الدكتور توفيق على منصور ترجمتها. وبهذا تكتمل أركان المثلث الذهبى من الإنجليزية  والفرنسية والعربية. هكذا من خلال ترجمة  ألف ومائتين وثلاثة وستون بيتا استطاع المترجم بحسه الأدبى وتمكنه من اللغتين العربية والإنجليزية من نقل الصور الخيالية فى قالبها الشعرى ببلاغة عميقة وبأسلوب متناغم لم نشعر فيه بنشاذ فى الإيقاع، بل فى تناغم بين اللغتين.


واستوقفنى اختيار المؤلف لعنوان المسرحية  واختيار الشخصيات من المجتمع الفرنسى.  وظللت أبحث فى ذاكرة التاريخ ؛ فقد تحالفت فرنسا وإنجلترا وشنتا الحروب الصليبية على العرب فى القرن الحادى عشر بداية من الحملة الصليبية الأولى عام 1096 وحتى الحملة الصليبية الثامنة عام 1270. ثم نشب  الصراع  بين فرنسا وإنجلترا من عام ميلادية 1337 وحتى عام  ميلادية 1453، وهو الذى أُطلق عليها حرب المائة عام، رغبة من إنجلترا فى الحصول على السلطة والعرش فى فرنسا.


وبعد خروج فرنسا من صراعها مع دولة خارجيه، عاشت أزمات بين مواطنيها داخليا. فعندما تطورت الطباعة، تطورت الأفكار، وتفجرت البروتستانتية، و حدث زلزال فى المفاهيم الدينية.


وتدور أحداث  المذبحة فى باريس فى خمسة فصول لتصوب بهدفها نحو حواجز الالتزام الفنى. فالأحداث متعددة  تدور بين أبناء ديانة واحدة وهى المسيحية،  بين المذهب الكاثوليكي والمذهب البروتستانتي. فبينما المذهب الأول تمثله الأم  ودوق جيز والبابا، فإن المذهب الثانى  يتمثل فى الملك شارل وناڤار. هذا الصراع الدينى يتفجر للوصول إلى كرسى العرش والحصول على التاج الذى طارت الرؤوس من أجله قبل أن يوضع عليها.


لقد بدأت الحرب الدينية  التى قسمت  فرنسا إلى نصفين، بعد الحكم القصير لفرنسوا الثانى تولى شارل التاسع عام 1560، وهو فى العاشرة من عمره، وظلت والدته كاترين دو ميديسي تحكم حتى عام 1570وشهدت هذه السنوات اضطرابات داخلية ومذبحة البروتستانت فى واسى،  وصراعاً توفى على أثره زعيم البروتستانت كوندى . وفى أغسطس عام 1570 لم تحقق معاهدة سانت جيرمان السلام بين البرونستانت والكاثوليك. وبعد إنهاك فرنسا اقتصاديا فى الحروب، فى محاولة لإشاعة السلام بدعودة البروتستانت إلى البلاط الملكى- وخاصة جاسبارد دى كولينى - قررت الملكة تزويج ابنتها مارجريت للبروتستانتى هنرى دونافڤار (فيما بعد هنرى الرابع )، لم يوافق البابا على هذا الزواج، فثارت مشاعر الفرنسيين المعادين بشدة للبروتستانت ، وخاصة فى باريس. كل هذه العوامل كانت من الظروف التى فجرت مذابح الدم من جديد. 


 ووقعت مذبحة سانت بارتيملي الشهيرة فى الرابع والعشرين من أغسطس عام 1572 وتم إعدام ثلاثة آلاف بروتستانتى. والخديعة هنا تكمن فى جانبين : أولهما فى اختيار المناسبة لحضور حفل زواج مارجريت وهنرى دونافار؛ وثانيهما فى اختيار اليوم؛ لأن من المفترض أنه من الأيام المحرّم فيها القتال. واستمرت المذبحة لأيام عديدة فى باريس، وامتدت إلى مدن أخرى فى الأسابيع التالية، وعلت حدة الصراع الدولى بين فرنسا وأسبانيا.وبتلك الحادثة نزع الكاتب الإنجليزى كريستوفر مارلو فتيل الصراع الدينى  من ساحة القتال، ليفجره فى مسرحيته هذه.

وتكمن براعة كريستوفر مارلو فى حصوله على درجة الماجستير فى اللاهوت وبساطته  فى التعبير وبلاغته فى الحوار، الأمر الذى يجعل القارئ مشاهداً نهماً، وتتحول الكلمات سريعا إلى لقطات سريعة على خشبة المسرح، بإيقاعها المتواتر بين الخروج و الدخول وحمل الجثث حيث تسبق الحركات  الكلمات. ويرتبط ازدهار المسرح الإنجليزى فى العصور الوسطى أيضا باستخدامه فى ذلك الوقت  لتعليم الجوانب الدينية فى المسيحية. وفى فرنسا استمر المسرح الدينى منذ بداية القرن السادس عشر حتى النصف الثانى منه، حين ظهر المسرح السياسى نظرًا لانتشار الحروب الدينية . ويعد إيتيان جوديل الكاتب الفرنسى من أوائل المجددين فى المسرح الفرنسى فى التراجيديا والكوميديا، ويعد رائدا للتراجيديا بكتابته مسرحية كيلواباترا  الأسيرة،  واشترك فى النضال ضد البروتستانت وكتب قصائد ساخرة .
وتستهل مسرحية المذبحة فى باريس بحفل زواج ناڤار البروتستانتى بزواجه من مارجريت ابنة الملكة كاترين الكاثولوكية، ورغبة ملك فرنسا  تشارل (أسرة البوربون) فى إبرام معاهدة سلام يوجهها إلى شقيقه العزيز و ناڤار وأمير كوندى وأمير أعالى البحار.
وتعلو أصوات الأحلام للوصول إلى تاج فرنسا" الجميل العريق"،و "الأصيل"فها هو آنجو (هنرى الثالث فيما بعد) يتحدث إلى البولنديين ويعدد من سماته .ودار صراع نحو الهوجونوت "المتحذلقين" الذين كان مائة منهم متعبدين فى الغابات، فتحث الملكة كاترين جيز على اهلاكهم. 
      وعندما اعترض شارل على هذه الأفعال قررت الملكة عزله وهى تتحدث بتلك النبرة :
لأنى أنا كاتريـــــــــــــــــن لدى           هنا فى فرنسا كل الإرادة
وما دمت أحيا فإنى أؤكد         أن الموت له عاجـــــــــــل
وهنرى سوف يكون المليك       ويلبس تاج فرنسا قريبا
 وحديث الملكة والأم عن إرادتها فى قيادة المسرح السياسى فى فرنسا يذكرنا بحديث أحمد شوقى وهو يصف ملكة النحل فيقول :
تحكم فيه قيصـــــــــــرة                 فى قومها مُوقــــــــــــرة
من الرجال وقيــــــــــــو                  د حكمهم محرَّرة
لا تورث القوم ولو                كانوا البنين البـــــــــررة
الملك للإناث فى الد               ستور لا للذكــــــورة
(مملكة النحل ، ديوان شوقى ،الجزء الأول، دار نهضة مصر، ص 94)

وفى الظهور الأخير لشارل فى المسرحية يعترف بأنه يستحق "السوط".  ويسكتمل كريستوفر مارلو فى السطور التاليه كلمة الأم التى تُعجّل الموت لتحقيق إرادتها من ذبح وقتل، كما يستكمل بكل سخرية جملة على لسانها بعد ما فارقت روح جيز جسده :
فما عاد يسمعنا أو يرانا            أو يعلم ما قد نفعل !
وكأنها كانت تُعلمه أو تُسمعه ما تخطط له فى فرنسا هى وجيز قبل وفاته.  وفكرت سريعا فى ابنها هنرى ليعود من بولندا  :
حتى يلبس تاج أخيه                ويزهو بوقاره واحترامه
(...)
تعالوا دعونا هنا أولًا               ننحى الجثمان هذا بعيدا

ويحاول ناڤار ويفكر فى وصوله للعرش قبل وصول هنرى ،ولكن أصوات الأبواق كانت أسرع من خطواته. وتعلن الملكه تولى ابنها العرش . وتسعى الأم إلى أن يبقى ابنها "دمث الأخلاق"،"صافى النفس"،"ينام قرير العيون"، بالتحالف مع الكاردينال وجيز:
لنمنح أنفسّنا سلطة            نصرّف كل الأمور بها
فما من فرد يعيش بدون       تصريف لجميع شئونه
وحينئذ سيعم بروما            مذهبنا الكاثولوكى العريق
ومن ثم يملأ كل فرنسا         وما من فرد قد ينكره
 وبعد وفاة شارل التاسع تولى هنرى الثالث (ابن آخر لكاترين) وهو فى الثالثة والعشرين من عمره، وهو شخصية غامضة و ذكية ومثقفة. وكان عليه مواجهة هنرى دو ناڤار والكاثوليك وعلى رأسهم أسرة الجيز؛ ولكنه فضل السلام و منح البروتستانت حرية العقيدة فى فرنسا ماعدا باريس؛ فى حين تحالفت أسرة الجيز مع الإسبان واستمرت فى محاربة البروتستانت. وجيز "عضو محلف فى هيئة الاتحاد المقدس" ذو "القلب الحاسد" و" غليظ الفؤاد"و "ذو الوجه العبوس المتجهم" و "ذو اليدين الدمويتين"، الذى سعى لقتل البروتستانت فى باريس، و" يقدح فى ذهنه مكره " ومعة شقيقاه: الكاردينال والدوق دومين  من أسرة الفالواز، فهو يقاتل من أجل التاج .
وفى ظل الصراع الدينى تطفو على السطح هياكل المغيبين فى الحكم ،كما تطفو جثث الموتى فوق سطح المياه وتقفذها الأمواج حيثما تشاء. هكذا يصفهم نافار :
ولكنَّ من يحكم وهو يجلس       فوق أعالى السحاب الكثيف
يسمع ويرى كل دعاء             مَّمن يتبعون العدالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
سوف يجازى بالانتقام            لدم الشهداء والأبريـــــــــــــــــــــــــــــــــاء
 واختيار مارلو الدقيق للكلمات يضفى على المسرحية نوعًا من البلاغة وقوة التأثير.   فيصور جيز  الملك طفلاّ، وأمَّه العَصَاة السحرية التى تحقق أحلامَه ،والخزانة وليمة شهية ينهل منها حيث يشاء، وباريس بأجمعها: برهبانها وأديرتها وكنائسها  وطلابها وكهانها مرتعا خصًا. 
   ولكى يبرز كريستوفر مارلو قوة الشخصية عند جيز، وصفه بالشمس التى يفقد المحملق فيها بصره، ليبثَّ الرعب فى قلب المناهضين له.  وتسأله الملكة كاترين: فماذا أعددت من خطة          لتنفيذ ما شئت فى المذبحة ؟
مع دقَّات الأجراس يبدأ القتال ويستمر، ويستكمل جيز خطة المذبحة. ويواجة الواعظ لورين  :
 وأنت الخائن والمفترِى                   تخون ضميرَك والآخرين
ويتساءل راموس: ما أفظع صيحات أتت        من عند ضفاف نهر السين

فيصيبون الأحياء بالأقواس والرماح حتى لا يتمكنون من السباحة، وينجون بحياتهم. وأصبح نهر السين مصيدة للعاصمة باريس التى  شهدت انتشار البروتستانتية. 
هكذا -من سيناريوهات الخيانة -يدخل المخادع فى أى وطن، ويستجلب عطف الناس، وهو فقير الحال يجذب القلوب والعقول نحوه، ويكون أقرب للمواطنين ويؤثر فيهم.  فقد كرَّمه أهل باريس ومنحوه العطايا والهبات، وأصبح ذا السلطة الحقيقية وليس الجالسون على الكراسى الذين يبدون أمام الشعب كالدمى المتحركة. 
 وبعد طعنه جيز يلفظ أنفاسه الأخيرة، فتسقط قطرات الدماء، وتسقط معها كل أحلام العنف الواهية، وتعلو نبرات الندم والأسى :


يا ليتنى لم تكن لى قوى   تحفظنى وتصون حياتى
ولا شهرة دائمة الخلود    حتى يحق لها الانتقام 


ويستجير بكل من كان يستعين بهم ، ولكن أذنه تسمع استغاثته. ويستكمل الملك هنرى حواره، وتنتهى بهذه اللحظة حسابات الماضى : لقد حمل بإفراط شديد   ذنوب الآلاف من قتلانا.


ويتوالى المشهد بدخول ماجيرون وإبلاغه بغضب جيز، وتتوالى الأحداث ويعلن مقتل الدوق جويو، ويدخل نافار منتصرًا، ويعلن مؤازرة ملكة إنجلترا له. ثم يستكمل مارلو المشهد بدخول جندى ليقتل ماجيرون محبوب الدوقة ،فى أطول جزء سردى يتحدث فيه الجندى، معلنا اكتشاف هذه العلاقة، ويصف ماجيرون بأنه قد "استخدم مفتاحا مزيفا لباب غرفة (جيز) الخاصة"وأن جيز "مالك للأرض ".

وتفجر مواجهة الملك لابن عمه جيز قبل مقتله ، وحديث الأخير بنبرة متعالية، ومشاهد من العنف متتالية. وتسرع الحبكة فى تمزيق حبالها ونسمع جيز يقول :

والآن إنى أنا أقســــــــــــــــــم              بكل الأسرار القدسية
أن أفعل ما فعل القدامى            من الرومان بأسراهم
ولابد أن أنتصر قريبا                على هذا الملك الداعر
وأجعله يجرى من وراء             إطارات مركبتى الفاخرة

ويستمر الحوار بين قائد الحرس وثلاثة من القتالين للتخطيط لمقتل جيز. ويوضح هذا المشهد مدى كرههم له، وانتهازهم الفرصة للخلاص منه. وفى مشاهد القتل داخل المسرحية يحرص القاتل على الحصول على أجره نظير ما يفعل قبل انتشال الجثث من أمام أعين المشاهد. وليستكمل هنرى مشهد الانتقام، يحضر ابن جيز القاصر ويبلغه بأنه القاتل لأبيه. وعند محاولة الولد  قذفه بالخنجر يزج به فى السجن، وتغضب الملكة كاترين لهذه الفعلة :


وإنى أنا ألعن مولدك                وأتهمك بالكفر الشديد
فأنت تخون عهود الإله              ومملكة فرنسا كلها
ويرد هنرى على أمه الملكة :
فلتعوى ولتصيحى كثيرا             حتى يجشن الصوت بحلقك !
   ويثير استخدام كلمة العواء ثورة هنرى الكاملة على أمه. وفى هذه اللحظة  يشعر بأنه صاحب قراره . وأمام جثة جيز تتحسر الملكة :
فمن هو غيرك أفشى له           كل الأسرار فى صدرى
ومن سوف يساعدنى أنا           حتى أبنى أصول الديانة ؟

ويرتفع الإيقاع السريع، ويتواصل مشهد العنف، بخنق الكاردينال. ويقول له القتال:  إنه ينوى "شنق الرهبة أو خنقها" ويخطط دومين للانتقام من مقتل أخويه الإثنين . ويبرر الراهب رغبته فى هذا العمل التاريخى بأنه يريد أن يكفر عن شقائه فى شبابه، بقتل الملك. وفى مشهد دخوله، ورغم ما أبداه إبيون من الحظر وضرورة تفتيشه، فإن الملك لا يتوقع أى أذى.


ويطعنه الراهب بسكين مسموم ويرديه الملك قتيلا بذات السكين.  وفى باريس بعد المطالبة بسقوط الملك تولى الدوق ماين منصب القائد العام للملك، وتحالف هنرى الثالث مع هنرى دونافار. وعندما حرم هنرى الثالث هنرى دو جيز من دخول باريس، دخلها بقوة ونال شعبية بالغة، مما اضطر الملك فى مايو 1588 للهروب واستعداد قواته فى بالواز. ويعلن غضبة  ويشرح لإبيرنون - بالرغم من أنه يبدو لطيفا وحليما- إلا أن الخيانة فجرت بداخله "طبع المأساة" والخوف على "مملكة فرنسا الرائعة",
هكذا طاف بنا الكاتب الإنجليزى فى غرب فرنسا وشمالها ووسطها، ويسبح بنا فى نهر السين فى الشمال ونهر اللوار فى الجنوب ، وكأنه يستجمع شرايين هذا البلد الممزق، وشمال شرق أسبانيا بنافار وبولندا وبارما بإيطاليا. 


هكذا قُتل هنرى الثالث على يد الراهب  جاك كليمنت؛ وهكذا استمرت الحروب الدينية فى فرنسا من عام 1562حتى عام 1598. وقسم المؤرخون هذه الفترة إلى ثماني حروب : الحرب الأولى من عام 1562إلى عام 1563، والثانية من 1567 إلى1568 ،والثالثة من 1569 إلى 1570، والرابعة عام ،1573 والخامسة  من 1574 إلى 1576 ،والسادسة فى العام التالى، والسابعة من 1579 إلى 1580، والثامنة من 1585 حتى عام 1598 .


 ومن هذا المنطلق فإن المسرحية المترجمة بين أيدينا وبشعرها المرسل يمكن أن تأخذ طابعها العالمى فى التراث الأدبى الإنسانى. وتظهر بلاغة مارلو فى عدم كتابة أى تاريخ داخل المسرحية. واكتفى بالعنوان : "المذبحة" ليشير إلى مذبحة سانت بارتيملى. وتذكرنا فكرة الدعوة لحفل زواج لإجراء المذبحة بالخديعة فى مذبحة القلعة بمصر.كما تذكرنا بما حدث بين المسيحيين بمصر، حينما حدث النزاع والصراع بينهم حول طبيعة المسيح منذ أيام قسطنطين الأول، واحتدم هذا الصراع فى منتصف القرن الخامس الميلادى.  وتَعَرُّض السكان في مصر لأشد أنواع الاضطهاد، حيث أريقت دماء كثيرة. وانحصر الخلاف المذهبى بين الملكانيين واليعاقبة. ويضفى القالب الأدبى الشعرى على المسرحية نوعا من الغنائية التى يسهل حفظها وترديدها بين العامة، وتناقلها بين الأجيال كتراث أصيل يسهل ترديد عباراته. وبهذا يخدم الشكل الأدبى مضمون المسرحية.


هكذا بدأت المسرحية بعرس وانتهت بمسيرة جنائزية وسيوف منكسة.     وفى تلك السطور ألخص ما كان يدور:


وأسدل الستار
من خضم صراع ضارٍ دسّه  الأشرار
بين جموع الكاثوليك والبروتستانت
فى ربوع باريس الندية
مقابل اقتناص التاج فى البرية
بحد السيف أو بسُم أو بإطلاق الرصاص 
بفعل الاتباع اللئام واللصوص
وراح الموت يقبض الأرواح باقتدار
لكاردينال أو أمير للبحار
وشاع الإختلاف بين الأم والولد
وتفقد كاترين الملكيه فلذات الكبد
وتنزف الدماء من قلوب الحاقدين
ومن حلوق الطامعين الفاسدين
ومن عيون الفاسقين المرجفين

 فمن المطامع الاستعمارية إلى المطامع الشخصية تدور الحروب الطاحنة. ففى نهاية القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين، عندما كانت تتجه فرنسا نحو العلمانية، وعند التئام جروح الحروب الماضية، مرت أوقات بين الهدوء وارتفاع أمواج العنف، طفا على السطح الصراع بين البروتسانت والكاثوليك فى أماكن دور العبادة والمقابر . 


وهكذا ظلت المذابح الناتجة عن التطرف الديني والتعصب للمصالح فى باريس وغيرها، موحية ومؤثرة. فالعديد من الرسامين قاموا برسم لوحات، والعديد من الكتاب قاموا بتأليف الأعمال الأدبية، والكثير من المخرجين أعدوا أفلاما تاريخية تعد من أهم السجلات فى تاريخ البشرية. ففى القرن التاسع عشر نشر الكاتب الفرنسى آليكزاندر دوماس الأب رواية بعنوان الملكة مارجو(1845). وفى القرن العشرين استند المخرج السنمائى الفرنسى باتريس شيرو إلى  مسرحية مارلو.

إنها دراما عدم التسامح الدينى. فمع الانتهاء من قراءة المسرحية، امتلأت أعينى بالمشاهد الدموية، حيث كانت تنزف الكلمات وعلا صوت قعقعة السلاح وتزاحم الجنود فالانشقاق الأسرى دفع ثمنه كثير من الفرنسيين ، كما يدفع المجتمع المصرى والعربى ضريبة انشقاق أبناء الدين الواحد وكما يدفعه الكثيرون من البشر لاختلاف ديانتهم أو مذاهبهم. فالعصابات الإرهابية تعبث فى العراق وسوريا واليمن وليبيا وباكستان باسم الدين الاسلامى الحنيف، وأصابع الاتهام تشير إلى  العالم الإسلامى بعد أحداث 11 سبتمبر فى الولايات المتحدة.


وتدعو هذه الظاهرة الباحثين فى علم الاجتماع وعلم النفس لتحليل كيان المجمتع وتفعيل أخلاقيات الدين وكشف حقيقة المندسين تحت جلودنا.
 ووقتما امتدت أسلاك التكنولوجيا فى أنحاء العالم تشابكت وتناثرت الأفكار وتجمعت وتفرقت ، كل حسب قوة جداره الحضارى إما فى تقدم وإما فى تشبيك لهذه الأسلاك لتحرق بعضها البعض.

أستاذ النقد و الأدب الفرنسى المعاصر 
كلية التربية - جامعة طنطا
باحث مشارك(سابقا) بمعهد النصوص والمخطوطات 
التابع للمركز الوطنى للبحوث العلمية بفرنسا

 

Egypt Air