بقلم – د. محمد فتحى
صفات سيئة السمعة- مثل الفهلوة- ليست قيماَ سلبية على نحو مطلق، والأجواء الاجتماعية هي ما تسلب هذه الصفات ما فيها من طاقة تكيفية ونشاط ومرونة، بل وخفة ظل، لكيلا يبقى منها إلا خفة اليد والعقل والضمير.
تحكي إحدى الوقائع الأكاديمية الإنجليزية الكلاسيكية عن كمبيوتر تمت برمجته بالخطأ، حيث أًعطى لقب “تلاميذ أذكياء” لفصل من التلاميذ الأغبياء- وفق الدرجات التي حصلوا عليها في “اختبار الذكاء”، وأٌعطى لقب “تلاميذ أغبياء” لفصل من التلاميذ الأذكياء- وفق درجاتهم في “اختبار الذكاء”.. وبدأ العام الدراسي، وكان هذا التقرير المعيار الأساسي الذي يضع المدرسون وفقه تصورهم الذهني عن تلاميذهم، وهكذا راحت تتري وقائع الدراسة.
اكتشفت الإدارة خطأ عكس صفات التلاميذ بعد قرابة نصف العام فقررت اختبار الأطفال من جديد، دون إطلاع المعنيين على ما حدث. وجاءت النتائج مذهلة.
نقصت درجات التلاميذ الأذكياء في “اختبار الذكاء” بصورة ملحوظة، لأنهم عوملوا عمليا على أنهم محدودو القدرات الذهنية متدنو درجة التعاون ويصعب التدريس لهم. وتحققت تصورات المعلمين الذهنية هذه أوتوماتيكيا.
بينما أظهرت نتائج فصل التلاميذ (الأغبياء في السابق) ارتفاع معدل درجات “اختبار الذكاء”، فقد تعامل معهم المعلمون على أنهم أذكياء (وفق ما قرره الكمبيوتر بالخطأ)، وعكس أمل المدرسين وتفاؤلهم وشعورهم بالإثارة، عكس على هؤلاء “الأغبياء” توقعات كبيرة وقيمة عالية.
وحين سئل هؤلاء المعلمون عن سير الأمور خلال الأسابيع الأولى من الفصل الدراسي. أجابوا “لسبب ما لم تكن طرقنا ناجحة، لذا كان علينا العمل على تغييرها”. فلأن الأمور لم تسر على مايرام خلصوا إلى أن الخطأ يكمن في أساليب التدريس (بعد إقرار الكمبيوتر بأن هؤلاء التلاميذ أذكياء).. فكانوا مبادرين وكدوا في تغيير أساليب التدريس متحلين بكثير من المرونة، ليصلوا إلى ما يناسب تلاميذهم “الأذكياء”.
والمثال السابق يعني أن: إقناع تلاميذ فصل ما بأنهم أذكى تلاميذ المدرسة يؤدي غالباً إلى أن تكون نتائج تلاميذ هذا الفصل، فعلاً، هي الأعلى في المدرسة، والعكس صحيح.
والتجربة الإنجليزية التي حدثت بطريق الخطأ تبين الأهمية القصوى لنظرتنا إلى الآخرين عامة، وتأثير هذه النظرة عليهم.
والطريف أن الحقيقة السابقة يعرفها التراث العلمي، منذ زمن بعيد، تحت مسمى تأثير بجماليون (Pygmalion effect)- نسبة إلى مسرحية بجماليون للكاتب برنارد شو. من خلال رصد زيادة النتائج الإيجابية لأداء الأشخاص (تلاميذ أو طلابا أو موظفين أو...) كلما ارتفعت التوقعات المنتظرة منهم. وهو يعني أن هناك نتائج تتحقق عن طريق إقناع الأشخاص بقدراتهم الإيجابية، فيقومون بأداء أعمالهم بناءً على توجهها الإيجابي، ويكون النجاح نتيجة حتمية لذلك.
ومناسبة هذا الكلام كم ما نسمعه من توصيفات سلبية للشعب المصري هذه الأيام من مفكرينا وكتابنا وإعلامينا.
وليس صحيحا أن أنماط السلوك الاجتماعي والثقافي للشخصية المصرية تميزت عبر التاريخ بالثبات والاستقرار. والهراء بعينه هو ما يوصم به المصري، في بعض التخريجات، من كونه بالأصالة عاشقا للخرافة وفهلويا وهباشا وعاجزا وذليلا ومنافقا و...، ناهيك عن محاولات ربط كل ذلك بحتم وراثي أو جغرافي أو....
فليس هناك حتم وراثي معبر عنه في الجينات، كما أنه ليس هناك حتم جغرافي أو تاريخي أو... يجعل من هذا الشعب شعبا عاجزا ومن ذاك الشعب شعبا ناهضا، لأن الواقع الاجتماعي هو ما يكسب هذه الصفة أو تلك للكيان الإنساني الحي الفذ البالغ المرونة والقدرة على التكيف والارتقاء.
وما خرجه هذا أو ذاك من المجتهدين- مهما علا قدره- في النظر إلى الشخصية المصرية ليس من الأمور التي تؤخذ بصورة قاطعة،على علاته.
بالطبع هناك بعض التأثير للجغرافيا والتاريخ و.... لكن هذه ليست سوى أطراف في منظومة متكاملة من العوامل، يظل التأثير الحاسم القادر على الفعل في إطارها- ما دمنا نتحدث عن إنسان حي- التحلي بالفهم والوعي والإرادة، والحركة التي تتعامل تعاملا إيجابيا حافزا مع الظروف الاجتماعية المتغيرة دوما، وتدفع الإنسان للتواؤم معها، ويظل الأمر رهنا أساسا بالممارسة.
إن الثقافة الغالبة والشخصية القومية والهوية حقائق دينامية متطورة، ولا يوجد مسار واحد لحركتها، فهي تعبر دوما عن مرحلة تاريخية بعينها وتتشكل في كل مجتمع وفق خلفيات واحتياجات وإمكانات وأولويات وتحديات وغايات، في إطار الوعي التاريخي للجماعة ومن خلاله، ومن هنا تعدد مساراتها عبر التاريخ والأمم.
والمصري ليس “هباشا” بالموقع أو بالموضع أو بالمولد أو بالوراثة.. المصري- مثله مثل كل إنسان طبيعي- كائن له قدرة هائلة على التكيف.. هيأ من حوله ظروف النهضة سيتحول إلى إنسان يعي ويمارس أسباب النهضة.. وهيئ من حوله ظروف التهبيش تدفعه إلى التحول إلى هباش.. وهيئ حوله ظروف الخرافة فلن تجده إلا درويشا.
وليس علينا إلا أن ننظر للكثير من برامج التليفزيون- مثلا- ناهيك عن حالة الإفلاس الفكري والإبداعي الغالبة.. أو أن ننظر إلى أكبر بنوك في مصر تفشل في تحويل الطاقة الادخارية للمجتمع إلى القنوات الاستثمارية المنتجة، وتحقيق قدر معقول من التوظيف والتنمية باستخدامها... وقس على ذلك توجهاتنا في كل المجالات التي تصنع الأجواء المؤثرة على الشعب المصري.
والغريب أننا نمارس ذلك كله ضاربين عرض الحائط بالحقائق التي تقر بأن الركيزة الأساسية للنمو والاستقرار، هي التوازن بين “الإنتاجي” و”التوزيعي” من ناحية، و”العيني” و”المالي” من ناحية أخرى، وحتى لا تكون عملية التنمية المجتمعية الشاملة عملية “عرجاء” من حيث قيمتها وقيمها.
بل إن صفات سيئة السمعة- مثل الفهلوة- ليست قيما سلبية على نحو مطلق، والأجواء الاجتماعية هي ما تسلب هذه الصفات ما فيها من طاقة تكيفية ونشاط ومرونة، بل وخفة ظل، لكيلا يبقى منها إلا خفة اليد والعقل والضمير.
إن أي شعب يملك إمكانات إيجابية فذة، لكنها تنحرف عن مسارها في غياب الجو العام الإيجابي. والمصري، نتيجة تجربة طويلة من المعاناة، “عفريت” بالمعنى الذي نقول به مثلا أن عصام الحضري “العجوز” عفريت استطاع التفوق على كثير من “الصغار” مع هزيمة الكسل البدني والذهني بالتدريب والإرادة والإصرار والجهد والعرق.. أي بالوعي والفعل والتجربة والممارسة.. والمهم- مع المهاد الاجتماعي وقيمه- هو الممارسة التي ترفد التمرينات الذهنية والكلام والوعظ والحكم والقوانين.. ولك أن تتصور حالة عصام الحضري- أو أي إنسان مهما علت إمكاناته- وقد اكتفي بالتمرينات الذهنية والحديث عن ضرورة البذل والتدريب دون أن يعزز ذلك الممارسة والخبرة و....
نحن في حاجة إلى ثقافة العمل والإتقان والتقدم، وثقافة هنا بمعنى متكامل ينطوي على القيم وسبل العيش والممارسة، وليس إلى مجرد تمرينات ذهنية وتعبير مثير مفعم بالإدعاء والأوهام والحنجلة والذواق.. في كلمة ونصف نحن في حاجة إلى واقع ممارسات النهضة، فلا يكفي مجرد التفكير أو التهويم من حولها، على أن نضع في اعتبارنا ما أكدته واقعة “المتفوقين” الإنجليزية من تأثير النظرة الشائعة عن الإنسان على أدائه الفعلي.. ورفقا بالشعب المصري.. مظلوم والله مع ما يحيطه من أجواء، وما يروج عنه من صفات سلبية كثيرة.
تفاءلوا بالخير تجدوه!