الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

قصيدة هوامش على دفتر النكسة الممنوعة دخلت مصر بحماية عبد الناصر شخصيا (2-2)

  • 16-3-2022 | 23:22
طباعة

روى نزار قباني قصة هذا الديوان مع جمال عبد الناصر في كتابه "قصتي مع الشعر"..

وفي فصل جعل عنوانه "حزيران والشعر" كتب نزار قباني ما يلي : ولكي يكتمل هذا الفصل عن حزيران ،وعما نالني بسببه من صلب ورجم وتشهير وتخوين،أجد أن الأمانة التاريخية تقتضي أن أسجل للرئيس الراحل جمال عبد الناصر موقفا لا يقفه عادة إلا عظماء النفوس، واللماحون، والموهوبون الذين انكشفت بصيرتهم وشفت رؤيتهم،فارتفعوا بقيادتهم وتصرفاتهم إلي أعلي مراتب الإنسانية والسمو الروحي.

ويواصل نزار : فلقد وقف الرئيس عبد الناصر إلى جانبي، يوم كانت الدنيا ترعد وتمطر على قصيدتي (هوامش علي دفتر النكسة)،وكسر الحصار الرسمي الذي كان يحاول أن يعزلني عن مصر، بتحريض وإيحاء من بعض (الزملاء) الذين كانوا غير سعداء لإتساع قاعدتي الشعبية في مصر..فرأوا أن أفضل طريقة لإيقاف مدى الشعري وقطع جسوري مع شعب مصر هي إستعداء السلطة علي،حتى أن أحدهم(لم يذكر نزار إسمه) طالب وزارة الإعلام بمقال نشره في إحدى المجلات القاهرية بحرق كتبي ،والإمتناع عن إذاعة قصائدي المغناة من إذاعات القاهرة، ووضع إسمي على قائمة الممنوعين من دخول مصر..!

ولذا قررت أن أتوجه مباشرة إلى سيادة الرئيس جمال عبد الناصر،وبالفعل بعثت إليه بالرسالة التالية :

"في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رمادًا،وطوقتنا الأحزان من كل مكان،يكتب إليك شاعر عربي يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم..

وتفصيل القصة،أنني نشرت في أعقاب نكسة الخامس من حزيران قصيدة عنوانها هوامش على دفتر النكسة أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي،وكشفت فيها عن متاطق الوجع في جسد أمتي العربية،لإقتناعي أن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتوازي والهروب وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا..

وإذا كانت صرختي حادة وجارحة،وأنا أعترف بأنها كذلك،فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف يكون بمساحة الجرح..

من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران؟..

من منا لم يخدش السماء بأظافره؟..

من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟..

إن قصيدتي كانت محاولة لإعادة تقييم أنفسنا كما نحن، بعيدأ عن التبجح والمغالاة والإنفعال، وبالتالي كانت محاولة لبناء فكر عربي جديد،يختلف بملامحه وتكوينه عن فكر ما قبل 5 حزيران..

إنني لم أقل أكثر مما قاله غيري،ولم أغضب أكثر مما غضب غيري،وكل ما فعلته أنني صغت بأسلوب شعري ما صاغه غيري بأسلوب سياسي أو صحفي!..

وإذا سمحت لي يا سيادة الرئيس أن أكون أكثر وضوحًا وصراحة،قلت أني لم أتجاوز في قصيدتي نطاق أفكارك في النقد الذاتي،يوم أن وقفت بعد النكسة تكشف بشرف وأمانة حساب المعركة،وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله..

إنني لم أخترع شيئًا من عندي،فأخطاء العرب النفسية والسياسية والسلوكية مكشوفة كالكتاب المفتوح..

وماذا تكون قيمة الأديب يوم يجبن عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض ووجهها الأسود معًا.. ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج ينسح أذيال المجتمع وينافق له؟..

لذلك أوجعني يا سبادة الرئيس أن تمنع قصيدتي من دخول مصر،وأن يفرض حصار رسمي وشعري في إذاعة الجنهورية العربية المتحدة وصحافتها..

والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر .لكن القضية أعمق وأبعد..

القضية هي أن نحدد موقفنا من الفكر العربي،كيف نريده؟حرا أم نصف حر؟شجاعاً أم جبانًا ؟ نبيأ أم مهرجاً؟..

القضية هي أن يسقط أي شاعر تحت حوافر الفكر الغوغائي لأنه تفوه بالحقيقة..

والقضية أخيرأ،هي أن نعرف ما إذا كان تاريخ 5 حزيران سيكون تاريخأ نولد فيه من جديد،بجلود جديدة،وأفكار جديدة،ومنطق جديد..

قصيدتي أمامك يا سيادة الرئيس ،أرجو أن تقرأها بكل ما عرفناه عنك من سعة أفق،وبعد رؤية ،ولسوف تقتنع برغم ملوخة الكلمات ومرارتها ،بأنني كنت أنقل عن الواقع بأمانة وصدق،وأرسم صورة طبق الأصل،لوجوهنا الشاحبة والمرهقة..

لم يكن بإمكانئ وبلادي تحترق الوقوف على الحياد،فحياد الأدب موت له..

لم يكن بوسعي أن أقف أمام جسد أمتي المريض ،أعالجه بالأدعية والحجابات والضراعات..


فالذي يحب أمته يا سيادة الرئيس،يطهر جروحها بالكحول،ويكوي -إذا لزم الأمر-المناطق المصابة بالنار..

 


سيادة الرئيس إنني أشكو لك الموقف العدائي للذي تقفه مني السلطات الرسمية في مصر،متأثرة بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها،وأنا لا أطلب شيئاً أكثر من سماع صوتي،فمن أبسط قواغد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه،وللمصلوب أن يسأل عن سبب صلبه..

لا أطالب يا سيادة الرئيس ،إلا بحرية الحوار،فأنا أشتم في مصر ولا أحد قرأ حرفاً من هذه القصيدة..

لقد دخلت قصيدتي كل مدينة عربية وأثارت جدلاً كبيراً بين المثقفين العرب إيجاباً وسلباً،فلماذا أحرم من هذا الحق في مصر وحدها؟ومتى كانت مصر تغلق أبوابها في وجه الكلمة وتضيق بها..

يا سيدي الرئيس..

لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه،والمجروح على جراحه،ويسمح باضطهاد شاعر عربي أراد أن يكون شريفاً وشجاعاً في مواجهة نفسه وأمته،فدفع ثمن صدقه وشجاعته..

يا سيدي الرئيس..

لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك.

نزار قباني

بيروت في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1967


تسلم الرئيس عبد الناصر رسالة نزار..فماذا حدث بعد ذلك؟..

يكمل نزار سرد حكايته مع عبد الناصر : ولم يطل صمت عبد الناصر ،ولم تمنعه مشاكله الكبيرة،وهمومه التي تجاوزت هموم البشر،من الإهتمام برسالتي،فقد روي لي أحد المقربين منه(ربما كان الأستاذ هيكل)،أنه وضع خطوطأ تحت أكثر مقاطع الرسالة وكتب بخط يده التعليمات الحاسمة التالية:

1 - لم أقرأ قصيدة نزار قباني إلا في النسخة التي أرسلها إلي.. وأنا لا أجد أي وجه من وجوه الإعتراض عليها.

2 - تلغي كل التدابير التي قد تكون اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته،ويطلب إلي وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة.

3 - يدخل الشاعر نزار قباني إلى الجمهورية العربية المتحدة متى أراد،ويكرم فيها كما كان في السابق.

التوقيع : جمال عبد الناصر

وما زال نزار قباني يحكي كيف انتهت تلك القضية التي كانت القضية الأشهر والأبرز بعد هزيمة 5 يونيو مباشرة ..يقول : بعد كلمات جمال عبد الناصر ،تغير الطقس،وتغير اتجاه الرياح،وتفرق المشاغبون وانكسرت طبولهم،ودخلت( الهوامش) إلي مصر بحماية عبد الناصر ،ورجعت أنا إلى القاهرة مرة بعد مرة..لأجد شمس مصر أشد بريقأ،ونيلها أكثر إتساعاً،ونجومها أكثر عدداً.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة